المعلوماتية > الذكاء الصنعي

نظام ذكاء صنعي في غوغل ينجح في إثبات ما يفوق 1200 نظرية رياضية

بداية الذكاء الصنعي الصاخبة

بدأ المجال الحديث للذكاء الصنعي -Artificial intelligence عام 1950 بالورقة المميزة لـ آلان تورنغ - Alan Turing "حوسبة الآلات والذكاء- Computing machinery and intelligence"، التي حددت مبادئ الذكاء الصنعي واقترحت اختبارًا يعرف الآن باسم اختبار Turing*؛ لتحديد إن تحقق الذكاء الصنعي أم لا.

على الرغم من أن الباحثين الأوائل كانوا واثقين من أن أنظمة الذكاء الصنعي ستغدو واقعًا قريبًا؛ فإن المبالغة في الوعود والتوقعات سببت ما أطلق عليه "شتاء الذكاء الصنعي" في سبعينيات القرن الماضي، وهي ظاهرة تكررت بصورة مؤسفة مرة أخرى في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، عندما أضحت موجة ثانية من نظم الذكاء الصنعي مخيبة للأمل أيضًا.

حدثت نقلة نوعية في أواخر التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن العشرين بتطوير تعلم الآلة Machine Learning، والأساليب المعتمدة على نظرية بايز Bayes، التي سرعان ما حلت مكان الأساليب القديمة القائمة على التفكير المنطقي في أغلب الأحيان. عند اقترانها مع التقنيات الحاسوبية المتقدمة على نحو مطرد (الناتجة عن قانون مور Moore's Low) بدأت أنظمة الذكاء الصنعي العملية والفعالة في الظهور أخيرًا.

تقدمٌ ذاع صيته تَمثل بهزيمة متسابقين من قبل نظام محوسب أطلق عليه اسم "واتسون" الذي طورته شركة IBM، في بطولة المسابقة الأمريكية "Jeopardy". كان إنجاز "واتسون" باهرًا على نحو خاص؛ لأنه تضمن فهم اللغة الطبيعية (أي فهم نص باللغة الإنجليزية العادية وإن كانت شائكة). وقد صرح كين جينينغز Ken Jennings- البطل الأسطوري لهذه المسابقة- بالكتابة على جهازه اللوحي: "أنا شخصيًّا أرحب بسادتنا الحواسيب الجديدة".

"Alpha-Go" يهزم أبطال العالم في لعبة "Go"

تعرف اللعبة الصينية القديمة "غو Go" بأنها معقدة بإستراتيجيات يكتنفها الغموض، ولهذا لم يتوقع مراقبون أن ممارسة الحاسوب لهذه اللعبة قد تنتهي بهزيمة أبرز أبطالها على مدى سنوات عديدة. زالت هذه النظرة المتشائمة نحو قدرات الذكاء الصنعي فجأة في مارس 2016م عندما ظفر برنامج حاسوبيّ اصطلح على تسميته "ألفا-غو AlphaGo" بمحترف من كوريا الجنوبية اسمه "لي سي دول- Lee Se-dol"، بنتيجة 4-1 في بطولة من خمس مباريات.

استمرت انتصارات "AlphaGo" الذي طوره باحثون في (ديب مايند-Deep Mind) وعززوا قدراته، حتى تفوق على الصيني (كي جاي- Ke Jie) بعمر 19 عامًا - والذي يُعتَقَد بأنه أفضل لاعب Go بشري على الإطلاق- في أيار (مايو) من العام 2017.

وفي تطوير أكثر إثارة للدهشة، في تشرين الأول (أكتوبر) 2017، استحدث باحثو ديب مايند برنامجًا جديدًا من الصفر باسم "ألفا-غو صفر"، الذي بُرمِجَ بقواعد اللعبة وحسب مع مكافأة بسيطة، ثم وُجِّهَ إلى ممارسة الألعاب ضد نفسه، وهي طريقته لتعلم اللعبة وإتقانها. بمرور ثلاثة أيام فقط (أي ما يعادل 4.9 مليون لعبة تدريب ببداية عشوائية لكل منها) تقدم برنامج "ألفا-غو صفر" حتى إنه هزم نسخته السابقة بمئة نقطة مقابل صفر. أربعون يومًا تلت ذلك، شهد فيها أداء البرنامج تقدمًا يقدر بأداء محترفي اللعبة من البشر مقارنة بالهواة.

اكتشاف الحاسوب وإثباته للنظريات الرياضية

قد تنجح أنظمة الذكاء الصنعي في بعض المهن كتوصيل الطرود وقيادة السيارات والشاحنات وأتمتة العمليات المالية أو حتى طهي البرغر، ولكنها لا تضاهي الذكاء البشري اكتشافًا للنظريات وإثباتًا لها.

في الحقيقة؛ تعدُّ برامج الحاسوب التي تكتشف نظريات ومتطابقات رياضية عناصرَ أساسيةً من الحقل المعروف باسم الرياضيات التجريبية، وفيما يأتي حفنة من اكتشافات عديدة قائمة على الحاسوب والتي يمكن حصرها:

1. صيغة جديدة للعدد (باي Pi) بخاصية تسمح للمرء بحساب سريع للخانات الثنائية أو السداسية العشرية بدءًا بنقطة عشوائية، دون الحاجة إلى حساب الخانات التي حلّت قبلها.

2. الحقيقة المبهرة بأنه إذا اقتطعت سلسلة جريجوري- Gregory series للعدد باي إلى القيمة (10n/2) للمتغير n؛ فإن القيمة الناتجة ستكون قريبة بصورة ملحوظة إلى قيمة باي الحقيقية، باستثناء الأخطاء الدورية المرتبطة بـ"الأعداد المماسية tangent numbers".

3. تقييم مجاميع أويلر-Euler Sums (المتسلسلات المركبة اللانهائية) من حيث التعابير الرياضية البسيطة.

4. تقييم مجاميع لَتِس-Lattice Sums من معادلة بواسون Poisson للفيزياء الرياضية من حيث الجذور الكثيرة الحدود الصحيحة العالية الأسس.

5. نتيجة جديدة لمسألة الجمع التكعيبي لموردِل- Mordell cube sum problem.

وُجِدَت النتائج في معظم الأمثلة آنفة الذكر بواسطة الاستكشاف العددي المحوسب  numerical exploration on a computer، تلاه إثبات بشري صارم بطابع تقليدي لاحقًا.

فماذا عن إثبات الحواسيب للنظريات حقًّا؟

توصف تلك الفترة الزمنية بأنها عتيقة الطراز. ولعل المثال الأبرز على ذلك هو إثبات توماس هيلز- Thomas Hales عام 2003 لحدسية كبلر- Kepler conjecture، تأكيدًا أن المخطط البسيط لتكديس البرتقال الذي يشاهد عادة في متجر البقالة، يحتوي على أعلى كثافة ممكنة لأي ترتيب محتمل، منتظمًا كان أم غير منتظم.

أثار إثبات هيلز الأصلي بعض الجدل، إذ تضمن حسابًا موثقًا في 250 صفحة من الملاحظات إضافةً إلى 3 جيجابايت من رموز الحاسوب وبياناته، لذا استعان هيلز وزملاؤه ببرنامج حاسوب لتدقيق البرهان. وقد انتهت العملية في عام 2014 واعتُمِد الإثبات.

نظام الذكاء الصنعي في غوغل ينجح في إثبات ما يفوق 1200 نظرية رياضية

في تطور استثنائي وحديث؛ طور عدة باحثين في مركز غوغل للأبحاث برنامجَ ذكاء صنعي لبرهان النظريات، يعمل هذا البرنامج مع برنامج إثبات النظريات المسمى "HOL-Light theorem prover" والذي استُخدِمَ في إثبات هيلز لحدسية كبلر، والقادر على الإثبات دون مساعدة البشر، للعديد من النظريات الرياضية الأساسية. والأكثر من ذلك، أنهم قدموا أدواتهم في إصدار مفتوح المصدر، حتى يتمكن علماء الرياضيات والحاسوب من تجربتها.

درب نظام الذكاء الصنعي في غوغل على مجموعة من 10200 نظرية استخلصها العلماء من مصادر عدة، متضمنة نظريات جزئية من إثبات هيلز لحدسية كبلر. تركزت معظم هذه النظريات في إطار الجبر الخطي والتحليل الحقيقي والمعقد، لكنَّ باحثي غوغل يؤكدون أن نهجهم قابل للتطبيق على نطاق أوسع.

تمكن البرنامج- في إصداره الأوليّ- من إثبات 5919 نظرية، ما يعادل 58% من مجموعة التدريب. عند اختبار برنامجهم على 3217 نظرية جديدة لم يسبق لها مثيل، نجح في إثبات 1251 منها، أي 38.9% والنسبة ليست بسيئة لبرنامج جديد تمامًا.

وقد وضع علماء الرياضيات تصورًا مسبقًا عن إمكانية استخدام هذا البرنامج في الأبحاث اليومية، إذ يرى جيريمي أفيغاد-Jeremy Avigad من جامعة كارنيجي الأمر بهذه الطريقة:

"يمكنك الحصول على أقصى قدر من الدقة والصحة جميعها موضحة بالفعل، ولكن ليس عليك ملء التفاصيل.. ربما يؤدي تفريغ بعض الأشياء التي اعتدنا تأديتها يدويًّا إلى تحريرنا للبحث عن مفاهيم جديدة وطرح أسئلة جديدة".

ماذا يخبئ لنا المستقبل؟

إذًا؛ ما نهاية المطاف؟ يعرض مقال نُشر حديثًا في صحيفة التايم مقابلة مع المتنبئ بالمستقبل (راي كورتزوايل- Ray Kurzweil) الذي يتنبأ بعصرٍ، تقريبًا في 2045، عندما يجتمع ذكاء الآلة بالذكاء البشري، متجاوزًا إياه لاحقًا.

ستنتج أنظمة الذكاء المستقبلي كهذه تقنيات أكثر قوة، تتمثل في تقدم مذهل لا يمكننا التنبؤ به إلا بصورة سطحية في الوقت الحالي. يوجز كوترزوايل هذه الرؤية في كتابه "The Singularity Is Near".

المتنبئون أمثال كورتزوايل لديهم شكوكهم وتحفظاتهم الخاصة؛ فقد أبدى مؤسس شركة Sun Microsystem " بيل جوي-Bill Joy"، قلقه تجاه البشر ودورهم المتقهقر مستقبلًا إن لم ينتهِ كليًّا.

على صعيد آخر، تتخذ أنظمة الذكاء الصنعي في غوغل قرارات مسبقة في عديد من الحالات، والتي لا يملك البشر فهمها أو إدراكها. وحتى بتنحية هذه المنغصات جانبًا، يبقى القلق المتعاظم بالتحديات الاجتماعية والقانونية والمالية والأخلاقية لهذه التقنيات.

أحد الآثار المترتبة على ذلك كله، هو أن أنظمة التعليم في الهندسة والمال والطب والقانون ومجالات أخرى عديدة سوف تتطلب ترقية لمواءمة تعلم الآلة وتقنيات الذكاء الصنعي. امتدادًا لهذا؛ فإن الشركات التقنية الكبيرة مثل: "أمازون وأبل وفيسبوك وغوغل ومايكروسوفت" باتت تستحوذ على مواهب الذكاء الصنعي الفضلى، بما في ذلك من هيئات تدريسية في الجامعات برواتب مغرية. لكنه من الواضح أن استثمار مواهب كهذه لن يحدث بالاحتكار؛ إذ إن وجود حل يمكِّنهم من متابعة عملهم في التدريس والمشاركة في العمل التجاري بات ضرورة ملحة.

بطريقة أو أخرى، الحواسيب الذكية مقبلة، وصارت ضرورة أن يواكب المجتمع هذه التقنية، دون إغفال قدر من الاحترام لمن تتأثر حياتهم بها.

*اختبار Turing: تجربة صممها (آلان تورنغ-Alan Turing) للتأكد من قدرة الحاسوب على الاستجابة كالبشر ضمن ظروف محددة، ويعد مقياسًا لتحقق مفهوم الذكاء الصنعي في الأنظمة من عدمه. يُختبر بوضع شخصين وجهاز حاسوب كلٌّ على حدة. يطرح أحد الشخصين استبيانًا راصدًا ردودَ كل من الشخص الآخر والحاسوب، وبإجراء عدد من الجولات يخمِّن الراصد أي الشخصين هو الحاسوب، فإن فشل في التخمين دلّ ذلك على امتلاك الحاسوب ذكاءً صنعيًّا.

المصادر:

1- هنا

2- هنا

3- هنا