الموسيقا > موسيقيون وفنانون سوريون وعرب

ربى الجمال

كيف لفنّانة تمتلك خامة صوتية وُصفت بالــ"كلثومية" وإحساس عالٍ يجعل من سامعي صوتها ينتشون طربى أن تعيش وترحل بصمت !

زوفيناز ختشادور قَرَبتيان Zovinar Khachadour Garabedyan هو الإسم الحقيقي للفتاة السوريّة ذات الأصول الأرمنية والتي اشتهرت لاحقاً باسم "رُبى الجمال"

ولدت في مدينة الطرب الأصيل حلب لعام 1966، وأكملت مراحلها التعليمية الأولى في الأردن في دير الراهبات الوردية وفي هذا الوقت تدرّبت على يدي أستاذ روسي، وعندما تركت المدرسة بقي يدربها من دون بدل مادي لشدة إعجابه بصوتها.

في باريس دَرست طب الأطفال الأمر الذي لم تكن ترغب به إلّا لإرضاء والديها، لكن الأمر لم يطل بعد أن مالت الموازين لصالح شغفها الأول ..الغناء، فكان المسرح في انتظارها حين شاركت في مهرجان (ماريا كالاس) في باريس، فحازت تلك السورية الشّابة على المرتبة الأولى بين ثلاثين دولة متنافسة، وكان اللّقب "أفضل قرار سوبرانو" .

عادت بعدها من فرنسا لتبدأ مشوارها الفنّي في بداية الثمانينات، حيث قام الموسيقي الفلسطيني رياض البندك بتبنّي صوت ربى المدهش .

في دار الأوبرا المصريّة سيطر صوتها على الحضور فأذهلت الجميع بأدائها،مع الفنان اللبناني الراحل وديع الصافي.

في تلك الليلة صعد العملاق وديع الصافي إلى المسرح برفقته سيدة شابة لا يعرفها أحد لتجلس إلي جواره، وليبدأ الحفل المخصّص لتكريم محمد عبد الوهاب. الأغنية كانت رائعة أحمد شوقي "قيس وليلى" والتي غنّاها محمد عبد الوهاب بمرافقة أسمهان.

يبدأ الصوت الجبلي للعملاق وديع الصافي بالغناء ليصل إلى مقطع " أودي الرياح به والضيف والجار" وينادي " ليلى" ويرد على نفسه "قيس" بدل أن ترد ربى ! الأمر الذي جعل الحضور يظنّون أن تلك السيدة الشابة لا تعرف حتى كلمات الأغنية ..الأمر لم يحتاج أكثر من ثواني ليأتي صوتها عميقاً .... " ما وراء أبي " ولتضج القاعة بتصفيق حاد لم يحظ به وديع الصافي نفسه

الدويتو هنا :

يقول أحد النقاد "جرجس بربري" عن ربى الجمال في تلك الليلة :

"من هي هذه الساحرة التي استطاعت بترديدها لثلاث كلمات أن تُذهل جمهور سميع كهذا ممن اعتاد الذهاب لحفلات مؤتمر الموسيقى العربية، وسماع أعتي المطربين ثم تغرقه في بحار من طرب عجيب لم يصادفه منذ زمن بعيد؟"

لاحقاً كانت حفلة "افرح يا قلبي" الشّهيرة نالت بعدها من وزير الثقافة الطبق الذهبي منقوشاً عليه "ربى الجمال صاحبة أفضل صوت نسائي في الوطن العربي" .

هناك قاعدة تقول أن الأغنية دائماً تبدو أكثر جمالاً وأصالة بصوت مؤديها الأصلي، ربى الجمال كسرت تلك القاعدة حيث اشتهرت بأدائها لأغاني السيدة أم كلثوم بإحساس رائع تجعل الرؤوس تتمايل نشوة وطربى لتقول ....آه

المحزن أن ربى الجمال شهرتها في مصر فاقت شهرتها في بلدها سورية، كما كان يصرّح البعض حيث عُرف صوت ربى الجمال بأنّه ذلك الصوت الذي مزج بين مقدرات أسمهان وأم كلثوم.

اعتُمدت ربى الجمال مطربة في إذاعة دمشق ولها في المكتبة الموسيقية بالإذاعة تسجيلات لست وعشرين أغنية خاصة بها لملحنين سوريين ومصريين.

تعاملت مع ملحنين كِبار أمثال :سعيد قطب، فاروق الشرنوبي، نجيب السراج، صفوان بهلوان، أحمد السنباطي، رياض البندك، وديع الصافي، أمير مجيد، عماد توفيق‏. أجمع هؤلاء على مقدرات صوتها المذهلة .

كانت أغانيها الخاصة تمتاز بتلك الروح العصرية المتشرّبة أصالة الماضي، كما كانت ربى الجمال من أوائل السوريين الذين عرفوا قيمة شعر نزار قباني الغنائية، فغنت له قصيدتين هما: لماذا تخليت عني، لن أعود .

كان لدى ربى الجمال تلك القدرة الاستثنائية على الارتجال أثناء الغناء مع المحافظة على الدّقة في الأداء والانسجام المطلق حين غنائها، حتى كأنها في حالة نيرفانا مطلقة استطاعت أن تنقلها إلى المستمعين.

وصاحبة الصوت والأداء الأسطوري لم تكن على استعداد لتقديم أي تنازلات فهي تبنّت الغناء العربيّ الأصيل في زمن أغاني الفيديو كليب وهي التي لم ترضَ بتقديم فيديو كليب واحد في مسيرتها الفنية وكأنّ صاحبة تلك الصوت خلقت لتكون على المسارح فقط.

اتهمها البعض بالمزاجية حيث كانت تعتذر عن حفلاتها في الدقائق الأخيرة الأمر الذي فُسّر بالمزاجية من قبل الجمهور المنتظر لصوتها، لكن في واقع الأمر من الإجحاف اتهام ربى الجمال بالمزاجية

تلك المطربة اعتبرت صوتها الجميل ملكها الذي لا تستطيع مشاركته مع أياً يكن، وعلى أي مسرح

وحالة السلطنة كانت هاجساً لها فهي لم تكن مؤدية لكلمات وراء لحن رتيب بل كانت هي من تقود الفرقة بإحساسها لتغيب في حالة من النشوة خلال الغناء

فحين تقول : افرح يا قلبي ...تستطيع أن تجعل الفرح حاضراً يتراقص مهتزّاً مع أوتار صوتها

وحين تغنّي : هو صحيح الهوى غلّاب .... تستحضر حياة كاملة من الهوى

لم تستطع ربى الجمال التعامل مع صوتها كأداة للربح، ولم تستطع امتهان الغناء رغم حاجتها الماسّة لذلك، الأمر الذي سبّب ضائقة مالية مستمرّة كانت قادرة هي نفسها على إنهائها حين تريد ذلك

لكن ببساطة .. لم ترد ذلك

أولئك الذين اتهموها بحالة المزاجية والتي لم تكن إلا حساسية مفرطة ومشاعر مرهفة تمتّعت بها، كأنما تكهنّوا بنهايتها

وأقول نهايتها بتحفّظ فمن يملك صوت ربى الجمال ...وجوده دائم وحاضر

النهاية جاءت باكرة ..و حساسيتها سرّعت في ذلك عشية إحدى ليالي آذار الــ 2005 حينما كانت تعتلي "جنّتها المفضلة" المسرح . بدأت ربى بتحليقها لكن الفرقة الموسيقية لم تكن كذلك سرعان ما لاحظ الجمهور أن ربى تعطي إشارات لفرقتها ليواكبوها في الأداء، الأمر الذي لم يحصل.

فما كان منها أن قطعت غنائها وقالت : "كل ما بسلطن ، بيطيرولي السلطنة" !فما كان من الجمهور إلّا أن صفّق لها لتتابع من جديد دون جدوى فهي لم تكن قادرة على التماهي مع الموقف ولا كانت قادرة على التسامح مع أداء دون المستوى ، وزاد من فداحة الأمر مغادرة أحد أفراد الفرقة للحفل فجأة، الأمر الذي رأت فيه تقليلاً من احترامها واحترام الجمهور مما جعلها تترك الحفل في حالة من الغضب والذهول ، الأمر الذي أودى بها إلى دخول المستشفى

أسلمت ربى الجمال الروح في دمشق اثر إصابتها بنزيف دماغي .

من المؤسف أن لا تعمل أي جهة حتى اليوم على جمع تراث ربى الجمال من أعمالها الخاصة أو تلك الأغاني كانت قد أعادت تسجيلها.

فكان تكريمها في حياتها وبعد رحيلها مغيّباً أو خجولاً لا يكاد يذكر.

ولأنّها ملكة الإحساس المرهف ربّما يكون تكريمنا اليوم هو تلك : الآه التي تخرج رغماً عنّا حين نستمع إلى صوتها الماسي .

...ربى الجمال صوت ينتمي إلى زمن الكبار