كتاب > روايات ومقالات

رسائل مهاجرين أو مهجَّرين ضلَّت طريقها في رواية (بريد الليل)

إنَّ (رواية بريد الليل) هي للروائيَّة اللبنانية هدى بركات من مواليد عام 1952، وقد حصلت على جائزة البوكر للآداب عام 2019 في دورتها الثانية عشر في أبوظبي، وجائزة نجيب محفوظ عن رواية (حارة المياه) عام 2001، ومنحتها الحكومة الفرنسية رتبة الفارسة في الأدب والفنون عام 2002، وأخذت وسامَ الاستحقاق عام 2008  أيضًا.

وتتعلَّق أحداث رواية بريد الليل برسائل المهاجرين أو المهجَّرين من بلادهم، ومن كانوا يتامى أوطانهم، والمشرَّدين في دُنياهم، فشَرَع بهم الزمنُ لمواجهة الغربة وفقدان الهوية، فقد كتب أولئك المهاجرين رسائل قد ضلَّت طريقها، وفضحت خبايا حياتهم السابقة وآلام أرواحهم في غربتهم لتسلك طريقها في مصير يُشابه مصائرهم في الضياع، وربما كانت تلك الرسائل جريئةً أكثر من أن تُقال؛ فقد تحمل خبايا حيوات مجموعةٍ من المنسيِّين والتائهين واليائسين، فلم يكن لهم إلا الكتابة إلى أقرانهم لعلَّهم يشبعون غريزة الحنين ويبترون مثالبَ الاغتراب المحيطة بهم.

 في القسم الأول (وراء النافذة)، تبدأ الحكاية باقتصاد لغويٍّ من هدى بركات لتخوض في أعماق شخصيات روايتها، ومع كلِّ رسالة ضيَّعت السبيل، يَصدَح صوتُ قهر مهاجر؛ يتذكَّر طفولته وشهواته القديمة أو اعترافات سريَّة لا يقولها الإنسان إلا مع ذاته وأمام مرآته التي تحفظ أسراره، فتأخذ الرسائل طابع العفوية والجرأة؛ لتتركَ معنىً خرج من باطن ذواتهم الضائعة، ومُنطلقًا بحكم القدر ليحدِّد طريقه وتقاطعه.

فمنهم من رُمِيَ في قطار الأرياف؛ مثل كيس قمامة ربَّما يجد سبيله في الحياة الملعونة بالغربة ومشقَّات الذاكرة؛ إذ صبغت مع تاريخه أصغر التفاصيل؛ مثل رائحة البيض، لتحمل معها دلالة الأمس الملعون بالوحدة والخوف قبل أن يُهاجِر، وتفاصيل أخرى؛ مثل رائحة الثوم التي تعني طبخًا يحمل رائحة المنزل، فهناك الوطن الوحيد وهناك تسكنُ حبيبته السابقة، فيروي شوقه إليها وأسرار علاقتهم القديمة ويدمجها بوصفِ حاضره المشؤوم في غربته.

ومنهم من عاش في حيٍّ فقير وعائلةٍ تفتقر إلى أساليب التربية، فإن خاف والده عليه يُهينه، وإن أرادَ أن يُعلِّمه يَضربه، وهكذا حتى حوَّلهُ إلى كيس ملاكمة يشبه الكيس الذي كان يتدرَّب عليه مع شباب الحيِّ الفقراء مثله، وكبر ليكون هاربًا في غربته من نوعٍ ما من المُخابرات؛ خوفًا من أن يعود إلى المُعتقل الذي همَّشَ كرامته وسلبَ منهُ حريَّته، فكتب رسالة إلى أمِّه ليروي لها ما حدث معه برؤية أدبية؛ تروي قهر المعتقلين السياسيين وتجسِّد وجهًا من أوجهِ أدب السجون.

وغير هاتين الرسالتين، يتبقَّى ثلاث رسائل غامضة مُحمَّلة باليأس، تدور أحداثُها بين امرأةٍ وصلت إلى سنِّ اليأس، ولكنَّ قلبها ما يزال ينبضُ بالحبِّ، ومومس تروي حكايتها، وشابٍّ طرده والده لأنَّه مثليُّ الجنس، فنالت الغربة منه، وتُسلِّط الكاتبة الضوء عن طريق رسائلهم على مجتمعاتٍ عربية مختلفة؛ لتَكشِف بعض عُقَدِ المجتمع الشرقي، وحروبه القاسية التي نالت من بعضهم، فمدُّوا الأشرعة للإبحار نحو عالم آخر ليستوطنوا فيه؛ ولكن، هل نجحوا؟ وهل وجدوا وطنًا؟ هذا ما سيخبرنا به بريد الليل بلغة بسيطة وغير معقَّدة، فهي لغةٌ كُتِبَت بأيدي أشخاصٍ عاديين ليعبِّروا عن أنفسهم بسردٍ مُبعثر يحكي حكايتهم.

وفي حبكةٍ تُوقع كلَّ رسالة بيد كاتبِ رسالةٍ آخر، تندمج الحكاياتُ لتخطَّ لوحةً متكاملةً عن آلامِ المُغتربين؛ إذ كان للمهاجرين والمهجَّرين أصواتٌ مُختبئة قد كُتبَت في ساعات الليل المتأخرة، حينَ يسود الظلام وتستيقظ الآهات وتُنبشُ أزقَّة الذاكرة؛ لتترابط الشخصيات التي كتبت الرسائل في القسم الثاني (في المطار).

ويتناول القسم الثالث (موت البوسطجي) حكايةَ ساعي البريد الذي ترك القَدَر يحكم مصائر الرسائل في بلاد غارقة في حروبها ودمارها واختفاء العناوين، وبين الطريقة الأدبية البسيطة والضرب على أوتار العاطفة، تُقدِّم الكاتبة هدى بركات حكاية الرسائل الخمس الضَّالة وما وراءها من حنينٍ مُلطَّخ بالشهوة والحب والكره والخوف، مع انتشال الحقد الأعمى من داخل بعضهم تجاه وطنه، وحياةٍ هربَ منها.

معلومات الكتاب:

الكتاب: بريد الليل.

الكاتب: هدى بركات.

عدد الصفحات: ١٢٨صفحة.

دار النشر: دار الآداب-بيروت/لبنان-الطبعة الأولى عام ٢٠١٨