كتاب > روايات ومقالات

كتاب الضحك والنسيان: عوالمٌ صاخبة بالدهشة والجمال

"الضحك الحقيقي؛ الذي يتجاوز المزاح و السخرية والسخافة، الضحك باعتباره متعة عظيمة وعارمة، بل كل المتعة... فإنَّ المُنفجر بهذا الضحك الإنتشائي يتجرَّد من كلِّ ذكرى ومن كلِّ رغبة، ويكون ضحكُه راسخًا في تلك اللحظة، متمركزًا حولها".

بين حرب الإنسان والسلطة لمحو التاريخ، وحرب أخرى معاكسة لمقاومة النسيان وإعادة بناء المفقود من الذاكرة،

وبين أمواج الضحك والنسيان يغوص بنا الكاتب المدهش (ميلان كونديرا) بعيدًا عن نمطية الرواية، مُتخذًا سبعة أجزاء تشمل قصص ومقتطفات من حياة الناس في وطنه الأصلي تشيكوسلوفكيا أو بوهيميا كما يذكرها بالاسم.

ويضمِّن (كونديرا) هذا الكتاب -وهو الكتاب الرابع في مسيرته الأدبية- بعضًا من مقتطفات حياته وبعضًا من الوقائع السياسية التي توالت على بلاده؛ إذ يشمل الكتاب أحداثًا تاريخية منذ الحرب العالمية الأولى وحتى عام ١٩٦٩(وهو عام وصول غوستاف هوساك إلى الرئاسة بمساعدة الروس)، فيرويها لنا تارةً بأسلوب روائي سردي، وبأسلوب مقالٍ يشرح وقائع تاريخية بين الحقيقة والخيال الذي يجيد استخدامه (كونديرا) تارةً أخرى؛ ليعرِّي الحقيقة أكثر، ويشرح لنا ما لا يُمكن إيصاله بالكلمات، وكأنَّ هذا الكتاب رحلة في اللانهاية؛ تقود المرء من شيء إلى شيء أبعد فأبعد.

ويصفه كونديرا نفسه بقوله "يتخذ هذا الكتاب بكامله شكلَ تنويعات لحنية؛ إذ تتوالى أجزاؤه مثلما تتعاقب أطوار رحلةٍ تقود إلى عمق الموضوع، عمق فكرة ما، أو تقود إلى داخل وضعيةٍ واحدة فريدة يصعب عليَّ فهمُها لضخامتها".

ويستهلُّ كونديرا كتابه بجزء يحمل عنوان (الرسائل الضائعة)، وفيها محاكاة مثيرة يعقدها فيما بين واقع السلطة السياسية التي تحاول محو التاريخ، وواقع "ميريك" الذي يحاول التخلُّص من تاريخ علاقته الحميمة مع فتاة بشعة تجلب له العار، ليرسِّخ لنا هذه الجملة على لسان ميريك: "نضال الإنسان ضدَّ السلطة هو نضال الذاكرةِ ضدَّ النسيان".

ليكمل الجزء الثاني بعنوان (ماما)، وهو بمثابة رحلة للذاكرة الإنسانية بين الطفولة والشيخوخة عن طريق قصة بين أربع شخصيات هي الأمُّ والابن وزوجة الابن وصديقتهما.

وبالانتقال إلى الجزء الثالث (الملائكة)، يُدخلنا كونديرا في عالم أنثوي مليء بالمتعة والضحك؛ إذ يعرض لنا صورًا من حياة الطالبتَين ميشيل وغابرييل مع معلمتهم الآنسة رافاييل، ويستعير كونديرا اقتباسًا رائعًا من كتاب بعنوان (كلام امرأة)، وهو كتابٌ ألَّفته القدِّيسة آني لوكليرام، فيصفه كونديرا أنَّه بيانٌ صوفي يتحدث عن الفرح، ويضمِّن هذا الجزء أيضًا بأحداث من حياته الخاصة في أثناء احتلال الروس بلاده عام ١٩٦٨، ويتوسَّع كونديرا في هذا الجزء في الحديث عن الضحك وعن دلالة الدائرة أو الحلقة "السحرية" كما يصفها.

ثمَّ يُدخل كونديرا في الجزء الرابع (الرسائل المفقودة) حياةَ شخصيته المحبوبة (تامينا)، وهي امرأةٌ أرملة تعمل نادلةً في مقهى في ريف أوروبا الغربي بعيدًا عن بلدها بوهيميا بعد وفاة زوجها، وتحاول تامينا الوصول إلى مذكراتها ورسائلها مع زوجها التي تركتها في بلدها لعلَّها تستطيع إعادةَ بناء هيكلِ ذكرياتها، واستعادة ماضيها بعد أن بدأ النسيان بالتهامه.

ويتفرَّغ كونديرا بعدها في الجزء الخامس (ليتوست) ليشرح لنا معنى كلمة (ليتوست)، وهي كلمة من اللغة التشيكية، ليس لها مثيلٌ في أيَّة لغة أخرى، مُتخذًا مثالًا عن طريق قصة الطالب وعلاقته بكريستين زوجة جزَّار قريته، بالإضافة إلى اللقاء الذي يجمع الطالب بكبار شعراء بلده في ناديهم؛ إذ يُعطيهم كونديرا أسماء ألمع أدباء أوروبا وأشهرهم، ويحمل هذا اللقاء نقاشات وحكايات تَحدُث لهؤلاء الكبار، وتحمل الطابع الكوميدي طبعًا.

ويعود بنا كونديرا في الجزء السادس بعنوان (الملائكة) إلى الماضي؛ ليكشف لنا ما تعرَّضت له الذاكرة الثقافية لبلاده من محو وإزالة وتعديل، وحرب ضد الثقافة والمثقَّفين، في تلك المرحلة نفسها التي كان والده يفقد فيها الكلامَ تدريجيًا، ويستفيض في الحديث عن تاريخ الموسيقا جارًّا إيَّانا وراء تامينا لنتابع نهاية قصتها في هذا الجزء.

ونلتمس أخيرًا في الجزء السابع والأخير الذي يحمل عنوان (الحدود) الحدودَ الفاصلة بين المعنى واللامعنى عن طريق قصص ونقاشات تدور بين "يان" وشخصيات أخرى عدَّة.

وعلى الرغم من اختلاف القصص بين أجزاء الكتاب السبعة، نجدها تتناغم مع بعضها لتُدخلنا عالمًا فريدًا؛ يمزج بين العمق والذكاء والفلسفة من جهة، وبين الخِفَّة والهزل والفكاهة من جهة أخرى.

وكأنَّ كتاب الضحك والنسيان يقول لنا: اضحك غارقًا بنشوة اللحظة، وانسَ الماضي الذي يحاول ابتلاعَك، وقاوم نسيان ما لا يجب أن يُمحى، وحافظ على حدٍّ أدنى من الصمت؛ لتدرك الجمال (جمال كونديرا المُدهش الخاص)، واستمتع بالرحلة المثيرة بين عوالمي.

معلومات الكتاب:

اسم الكتاب: كتاب الضحك والنسيان.

اسم الكاتب: ميلان كونديرا.

اسم المترجم: محمد التهامي العماري.

دار النشر: المركز الثقافي العربي.

تاريخ النشر: ١٩٧٨.

عدد الصفحات: .٢٣٥