كتاب > الكتب العلمية

النوع البشري، من البداية إلى النهاية وما بعدها (الجزء الأول)

أنصح كل مهتم بتاريخ جنسنا البشري ومستقبله بقراءة "العاقل".

 بل غيتس

يروي لنا المؤرخ والمُفكر (نوح هراري) حكايةَ التاريخ البشري في كتاب أقل ما يُقال فيه إنَّه محطة جدل توقظ الحقائق العلمية والفكرية واللاهوتية؛ لنرى تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا فيها، وكأنَّ القارئ يسبح في الفضاء لمشاهدة فيلم علمي عن تسلسل حياة الجنس البشري، فيبدأ المؤلف هذه الرحلة منذ لحظة اللاوجود؛ أي العدم، وفي لحظة الانفجار العظيم تحديدًا؛ عندما خرجت المادة والطاقة والزمان والمكان إلى حيِّز الوجود وبدأت رحلتنا نحن العُقَّال، ومع توالي الصفحات، يقف بنا المؤلف لتقسيم الثورات البشرية إلى أربعة أقسام:

  1. الثورة الذهنية.
  2. الثورة الزراعية.
  3. الثورة الصناعية.
  4. الثورة العلمية.
ويُعرِّف نوح هراري الإنسان على أنَّهُ "حيوان ينتمي إلى جنس البشر"، ومن هذا الباب يُعدِّد لنا الأجناس البشرية منذ 10،000 آلاف عام، وهم ما أُطلِق عليهم اسم "هياكل عظمية في الخزانة"، وهذا تبعًا لمفهوم الإنسان العاقل، فهو يستخدم مصطلح العاقل والعُقَّال في الكتاب للإشارة إلى الإنسان المُتحضِّر؛ أي الإنسان المُعاصر؛ الذي عدَّ نفسه المستحق الوحيد للوجود والمُتحضِّر الوحيد أيضًا.

ويشرح عن طريق النظريات المتداولة في الوسط العلمي المُرفقة بالخرائط كيفيَّةَ توزُّع الجنس البشري واكتساحه للكرة الأرضية، مع ذكر أنواعه وصفاته وكيفية تأقلمه، ويشير إلى الفرضيات التي أعطتنا حقَّ الوجود والنجاة من الانقراض الذي حصل مع أولاد عمومتنا أيضًا، والتي تتعلَّق تعلُّقًا مباشرًا بكيفيَّة التكيُّف وحثِّ سُلالة العقلاء على الاستمرار، إضافةً إلى أنَّ المؤلف يتناول في "كلمة للتفكير" مجموعة من المغالطات الشائعة عن نظرية التطور والدماغ البشري، ليضع العقلاء في مقارنة مع أسلافهم وباقي الحيوانات.

ويتَّجه المؤلف إلى قدرة المجتمع البشري منذ أزل تاريخه التطوري على أدلجة الأطفال وصياغة أفكارهم وطبيعتهم وانتماءاتهم، ويشير إلى حالة الأطفال الذين يحملون تلك الأدلجة معهم طيلةَ حياتهم أيضًا، ويدافعون عنها بشراسة؛ ممَّا يُسبِّب التطرف الفكري والعقائدي بحسب رأي الكاتب "المُدعَّم بالدراسات العلمية والتاريخية"؛ إذ يجب أن نُعزي البقاء إلى أمر أكثر أهمية من غيره، وهو اللغة والقدرة على الثرثرة والتخيُّل؛ فقبل آلاف السنين، عندما كان الفنُّ والتفكير والأساطير والخرافات بدائيَّة جدًّا، وعندما كانت اللغة كذلك أيضًا، ظهرت حاجة العقلاء لتكوين وهم مشترك بين بعضهم بهدف الحفاظ على تعاونهم وصياغة تكاتف اجتماعي يعطيهم الأفضلية عن غيرهم، ويوضِّح المؤلف في "سباق الطبَّاخين" فضلَ اكتشاف وترويض النَّار على الجنس البشري؛ ممَّا جعلهم قادرين على الاستمرار والتأقلم مع نظامٍ غذائي أفضل، ومن هذا المفصل التاريخي يَشرَع المؤلف في سرد تفاصيل رحلة الجنس البشري مع النار.

ويناقش المؤلف في قسم من أكثر الأقسام جدلًا في الكتاب، فرضيةَ تميُّز الأعراق البشرية عن بعضها في مستوى الذكاء والمهارات الاجتماعية، فيخوض رحلته البحثية بين مختبرات التطور لمراقبة جنسنا البشري "العُقَّال" في رحلة تطوِّره؛ ليكشفَ لنا التفاصيل الكامنة في المحيط العلمي فيما يخص هذا الموضوع، لنتوصَّل بعد تجاوز الجزء الأول من هذا القسم إلى "شجرة المعرفة"؛ إذ يوضِّح لنا ما يُميِّز العقلاء وسمح لهم بالاستمرار دون غيرهم، وهنا يتضَّح أيضًا أنَّ كل الفرضيات العلمية التي تقول إنَّ بعض العقلاء تشاركوا مع غيرهم من الأنواع البشرية المختلفة في التناسل والتكاثر تشاركًا جمعيّّا واختلاط مجتمع العُقَّال مع غيرهم من الأجناس البشرية "وهذا يعني تميُّز الأعراق عن بعضها في مستوى الذكاء والقدرات الاجتماعية" لا تملك إثباتًا علميًا على صحتها، وترجح الكفَّة إلى عدم وجود فارق جيني مؤثِّر في مستوى الذكاء بين عرق وآخر.

ويشرح لنا المؤلف أولى مراحل وعي الإنسان وشروعه في طريق التأمُّل والتساؤل والثرثرة؛ ممَّا فتح له باب التفوق والتخطيط لبناء مجتمع متكاتف ومتكامل أكثر من أولاد عمومته.

ويتناول فيما بعد فرضيات متعدِّدة؛ مثل المعتقدات والدين والعبادات في أولى مراحلها، انتقالًا إلى مقارنتها مع المؤسسات الحديثة وتوضيح كيف تستعمل الاستراتجية البدائية نفسها ولكن بأشكال مختلفة ومتطورة أكثر، وخاصةً ما يتعلَّق ببرمجتنا البيولوجية وأثرها في حياتنا الاجتماعية والعلاقات البشرية والعاطفية منها؛ فنوح يوفال هراري يقول: "نحتاح لفهم حياتنا الجنسية ومجتمعنا وسياستنا إلى شيء من فهم ظروف حياة أسلافنا".

الثورة الصناعية والزراعية:

يشرح المؤلف امتداد التدجين إلى الحيوانات والنباتات التي أجراها العُقَّال عبر الزمن؛ ممَّا دعاه إلى بناء مطبخه الزراعي الأول، والذي حافظ على وجوده إلى اليوم، فإن كانت عقولنا مثل عقول الصيادين الجامعين، فإنَّ مطبخنا هو مطبخ المزارعين الغابرين؛ ولكن، على الرغم من أهمية الثورة الزراعية فقد دفع العُقَّال ضريبةَ ذلك عن طريق زيادة العلل في أجسادهم؛ ولأنَّ جسمهم تكيَّف مع تسلق الأشجار ومطاردة الغزلان، وليس مع تنظيف الحقول وحرث الأرض والحصاد، فمن دفعَ الثمن هو العمود الفقري والرُّكب والرقاب؛ ممَّا أدَّى إلى انزلاق الغضاريف والتهاب المفاصل والفتاق، واستمر تطور مهاراتهم في الزراعة وصناعة الأدوات للحصاد وحرث الأرض حتى تشكَّلَت أولى سماتها مع الثقافة النطوفية منذ سنة 12.500 ق.م، وبدأ انتشار الثورة الزراعية من الشرق إلى الغرب، مع تطرُّق المؤلف إلى "فخ الرفاهية" الذي أنتجته الثورة الزراعية؛ فالنجاح التطوري "تزايد العدد وتجاوز تهديد الانقراض" هو معاناة للفرد، وهذا ما قدمته الثورة الزراعية للحيوانات المُدجَّنة بالضبط، ولابدَّ أنَّ الحيونات نجحوا "نوعًا ما" تطوريًّا ليستمروا على كوكب الأرض؛ ولكن، كانت المعاناة الفردية والتدجين عن طريق العُقَّال ضريبة ذلك، إضافةً إلى أنَّ فخ الرفاهية هذا طال البشرية دون سبيل إلى العودة، فقد كان لضغوط الزراعة عواقب بعيدة المدى تصبُّ في المنحى الاقتصادي والاجتماعي.

يقول يوفال هراري "إنَّ نظام الكتابة هو اللغة المهيمنة عالميًا [..] ولدت الكتابة لتكون خادمة للوعي البشري [..]"، ومن هذه النقطة يَشرَع باتجاه أولى مراحل نظام الكتابة لدى البشرية، وحيثية بنائه بما يضمن لهم الاستمرار والتوسُّع الاجتماعي على نحوٍ أفضل، إضافةً إلى أنَّ التعلُّم والتعليم والسجلَّات التاريخية والفكرية والعلمية هي تمهيد لارتقاء العُقَّال إلى مرحلة أكبر لحفظ البيانات والنُظُم الاجتماعية من جيل إلى جيل؛ كَوْنه لا يُمكن نقل هذه القِيَم نقلًا جينيًّا، حتى غدا نظام الكتابة -ولغة الرياضيات على وجه الخصوص- اللغةَ المهيمنة عالميًا على المستوى الاجتماعي والصناعي.

ويتصفَّح هراري تاريخَ التراتبية الاجتماعية "العنصرية" في المجتمع البشري عن طريق مراجعة تاريخ النظام العنصري في أمريكا وتاريخ النظام الطبقي في الهند، وتفصيل الاستراتجية التي تحثُّ أحد الأعراق على التفوق على الآخر عن طريق السيطرة والقوانين التميُّزيَّة والفقر والتجهيل المُمنهج والتحيُّز الثقافي، إضافةً إلى أنَّه يتطلَّع في فقرة "هو وهي" إلى المفهوم العنصري ضد المرأة في المُجتمعات؛ إذ تُعدُّ المرأة ملكيَّة خاصة لدى الرجل، وهذا ما يولِّد فجوة عنصرية أخرى، وهو ما يَعدُّه المؤلف نتاجَ وهمٍ مشترك؛ وقف في وجه المرأة لدى المجتمعات التي اتَّبعت العنصرية والطبقية في مسيرتها، ويضيء المؤلف على سبب الهيمنة الذكورية وتكوين المجتمع الأبوي أيضًا عن طريق دراسة مجموعة من الفرضيات في المجتمع البشري.

وسوف نتطرَّق في الجزء الثاني من المقال إلى مرحلة مُتقدِّمة من التاريخ البشري؛ إذ سيتناول الكاتب مجموعة عناوين من أهمها:

وكذلك سيتطرَّق إلى وصف مستقبل البشر المتوقَّع.