منوعات علمية > منوعات

دافينشي ما بين الفن والعلم

يقولُ الكاتب "جورجيو فاساري Giorgio Vasari": مُعظم المعجزات السماوية التي تظهر في عقول البشرية تكون مذهلة، لكن أن تجتمع جميعها في شخصٍ واحدٍ ذلك أمرٌ خارقٌ للطبيعة"، وبشهادة معظم الناس عن "ليوناردو دافينشي Leonardo Da Vinci".

من هو ليوناردو دافينشي؟

وُلِدَ ليوناردو في قرية فينسي الصغيرة"Vinci" خارج فلورنسا في إيطاليا في 15 نيسان(أبريل) عام 1452م، ولم يكن والده بيرو دافينشي "Piero Da Vinci" متزوجاً من والدته كاترينا "Caterina"، فعاش مع والده بعد ولادته بفترة وجيزة، وبقي معه إلى أن بلغ خمسة عشر عاماً.

كان ليو مُحاطاً بالأجواء الفنية، وظهرت موهبته عندما بدأ بالتدريب في ورشة أندريا ديل فيروتشيو "Andrea Del Verrocchio" الشهيرة في فلورنسا، وكان نباتياً ويحب الحيوانات كثيراً ولا يطيق الحروب. مكث مع فيروتشيو حتى عام 1477م، وانتقل بعد ذلك إلى ميلان ليعمل في خدمة دوق ميلان مهندساً عسكرياً، فأُتِيحت له الفرصة لتصميم المباني والآلات، وفي أثناء تلك الفترة وَضعَ دراسات مذهلة عن عدة موضوعات (الهندسة، والميكانيكا، وتخطيط المباني وإنشائها، وتصاميم متعلقة بالطيران، إضافة لعلم التشريح).

أمضى معظم وقته في دراسة العلوم؛ وذلك بمراقبة الطبيعة وتأمل الحقائق العلمية، أو بالبقاء وحيداً في ورشته ساعات طويلة وهو يُشرِّح جسم الإنسان، وسجل معظم أفكاره بدقة في دفاتر ملاحظاته وكانت تشمل بوجهٍ رئيسي (الرسم والعمارة، والميكانيكا، وعلم تشريح الإنسان)، وتميزت ورشة دافينشي في ميلانو بالنشاطات والتدريبات المستمرة وكانت تضج بالأفكار الجديدة، ومع ذلك انتقل ليو من مشروعٍ إلى آخر قبل الانتهاء من الأول، لذلك كانت أعماله الكاملة قليلة جداً، إذ أكمل ستة أعمال فنية فقط  في سبعة عشر عاماً أمضاها في ميلان.

بقي في ميلان حتى عام 1499م، ثم سافر في أنحاء إيطاليا بصفته فناناً ومهندساً، وبحلول عام 1513م انتقل إلى روما وعمل فيها مهندساً تحت إشراف البابا، وفي فترة وجيزة قدم له ملك فرنسا فرانسيس الأول منصب فنان الملك في فرنسا ومهندسه، فوافق دافينشي على المنصب وانتقل إلى مدينة أمبواز "Amboise" في فرنسا وتوفي هناك عام 1519م.

ربما أراد دافينشي كتابة موسوعة كبيرة للمعرفة (دراساته ومخطوطاته) تحتوي على مختلف العلوم؛  لكن مثل أغلب مشاريعه لم ينتهِ منها قبل وفاته، ونُشرت بعد ذلك لتصبح من أثمن المخطوطات العلمية الموجودة في العالم التي استفاد منها المهندسون والمخترعون لمئات السنين، إذ كانت بعض الأفكار غير قابلة للتنفيذ حينذاك؛ لعدم توفر التكنولوجيا اللازمة ولصعوبة قراءتها، فهو بالإضافة إلى اتباعه أسلوب الكتابة المنعكسة (القراءة من المرآة ومن اليمين إلى اليسار)، استخدم اختصارات غريبة، ولم تكن ملاحظاته ذات ترتيب منطقي.

ليوناردو والفن:

درس الفنانون الأوروبيون الطبيعة في عصر النهضة، وحاولوا فهمها بهدف جعل رسوماتهم واقعية أكثر، وتعلم ليو قواعد المنظور ومارسها على نحوٍ صحيح حينما كان مُتدرباً في ورشة فيروتشيو، وتمكن بمهارته من ملاحظة أدق التفاصيل المؤثرة في الطبيعة وإحيائها في رسوماته؛ إذ دوَّن كل ما يراه في دفاتر ملاحظاته، فهو من أوائل الذين اتخذوا المنهج العلمي أسلوباً لفهم ما حولنا واستيعابه.

أدرك  أنَّ الوسيلة التي يجب اتباعها لتبدو الرسومات واقعية هي الملاحظة الدقيقة لما تريد رسمه (الأشخاص، والحيوانات، والمناظر الطبيعية...)، وحرص على الانتباه إلى الاختلافات التي تظهر عندما يكون الشكل المراد رسمه بعيداً أو قريباً ومشاهدته في الضوء الساطع والخافت، فاشتهرت أعماله الفنية المُعِبرة والمثيرة للجدل وتميزت بالغرابة، مثل تحفته الفنية الموناليزا "The Mona Lisa" وكذلك لوحة العشاء الأخير "The Last Supper"

وضع دافينشي في ملاحظاته  الرسوم التوضيحية لكتاب دي ديفينا بروبورتيون "De Divina Proportione" الذي كتبه الإيطالي لوكا باسيولي "Luca Pacioli"، ويتحدث فيه عن النسب الرياضية وتطبيقاتها على الفن والهندسة المعمارية مثل النسبة الذهبية (تُسمى بنسبة الآلهة أيضاً)، التي استُخدِمت بوضوح في بعض أعمال ليو الخاصة؛ كما نراها في لوحة الموناليزا:

ليوناردو والعلوم

تأثر ليو بكتابات الإغريق والرومان القدماء، لكنه لم يُبقِ تفكيرهُ داخل حدود الكتب فقط، على عكس العديد من معاصريه، بل اتخذ منهجاً جديداً له؛ وذلك في مراقبة الطبيعة ومحاولة إيجاد الأجوبة عن معظم الأسئلة العلمية البسيطة والمضللة مثل "كيف تطير الطيور؟"

تعلَّم التشريح على بعض جثث المجرمين في ظل ظروف لا إنسانية ومثيرة للاشمئزاز بسبب إرادته القوية لدراسة علم التشريح محاولاً فهم أعضاء جسم الإنسان الهيكلية حتى الصغيرة جداً منها، وحقَّق إنجازات علمية عديدة في مجالات (علم التشريح، وعلم الحيوان، وعلم النبات، والجيولوجيا، وعلم البصريات، والديناميكا الهوائية، والهيدروديناميكا وغيرها من العلوم المختلفة).

أعلن دافينشي عن تقنية جديدة للدراسة العلمية، وهي اتباع المنهج الوصفي للعلوم الطبيعية واستخدم في دراساته دائماً طريقة البحث العلمي التي تنص على:

  1. الملاحظة والمراقبة الدقيقة للكائن أو الظاهرة المراد دراستها.
  2. الاختبار المُتكرر للملاحظات السابقة.
  3. توضيح دقيق للموضوع المدروس مع ذكر الملاحظات بإيجاز.
وكانت النتيجة مجلدات دافينشي التي تحتوي على كثير من الملاحظات والتصاميم المذهلة عن موضوعات علمية عديدة.

ليوناردو المخترع:

اعتاد الحرفيون والمهنيون على إنشاء أنواع مألوفة من آلات معينة وإصلاحها؛ فأدخل دافينشي مفهوماً جديداً إلى عالم الآلات؛ فأدرك كيفية عمل كل جزء من الآلة على نحو منفصل عن الآخر، وإمكانية إجراء تعديلات عليها ودمجها بطرائق مختلفة مع غيرها لاختراع عدد لا متناهي من الآلات الجديدة ذات الاستخدامات المختلفة.

ساعدت موهبته الفنية  في تحويل أفكاره عن العديد من الاختراعات الميكانيكية إلى تصاميم موضحة مع كامل التفاصيل؛ فقد استوحى من فكرة الساعات التصميم الأول لساعة مُنبهه (مُلحقة مع وعاءين وأذرع متحركة)؛ إذ يتدفق الماء من وعاء لآخر، وعندما تمتلئ الثانية تُرفع الأذرع في الهواء لتعمل على إيقاظه عند الساعة المطلوبة، ووضع أيضاً تصميمات جديدة للساعات التي تحتوي على الألماس والأحجار الكريمة.

صمم أول نظام رفع (رافعة) يُستخدم في أعمال البناء والإنشاء؛ إذ يسمح بنقل كتل كبيرة من الحجر بسهولة، وصمم العديد من معدات البناء والجسور القابلة للسحب، إضافة إلى الدبابات العسكرية والغواصات ومركبات حربية أخرى وغيرها من الآلات التي لم يُبنَ إلا القليل منها في حياته، فقد توفي قبل أن يتمكن من تنفيذها بالكامل.

ليوناردو والحفريات

سجل دافينشي ملاحظاته عن الأنهار والجبال، وتوصل إلى أن الحجارة الطبقية للجبال هي عبارة عن طبقات من الطين تراكمت واحدة فوق الأخرى بفعل الفيضانات المختلفة للأنهار، ويوجد في كل تقعر في قمة الجبل طبقات من الصخور، فلاحظ أنَّه يمكننا تتبع طبقات الصخور والحفريات لمسافات وأعماق طويلة لنرى أنَّها تشكلت في أزمنة مختلفة ومتباعدة.

وُضِعت عدة فرضيات عن وجود الحفريات (أصداف وبقايا مخلوقات حية أخرى) في الصخور المشكلة للجبال، واعتقد بعضهم أنَّها وصلت بفعل فيضان نوح، والبعض الآخر قالوا إنها قد تشكلت وعاشت داخل الصخور، ولكن لم يقتنع ليو بكلا الفرضيتين ورفضهما بملاحظاته قائلاً: "إنَّ هذه الأحافير مختلفة الأعمار والأحجام، أي أنها نمت وتشكلت عبر أزمنة مختلفة ولا يمكنها النمو دون غذاء، ولكي تتغذى يجب أن تتحرك وهنا لا يمكنها الحركة، وبالنسبة لفرضية الفيضان فلا أعتقد أنَّه جرى فيضان واحد على مستوى العالم بأكمله، ولو حصل ذلك فسيُبعد الفيضان هذه الحفريات على نحو مُبعثر وليس مُتراكماً في طبقاتٍ منتظمةٍ كما نراها الآن".

توصل أخيراً إلى أنَّ هذه الحفريات كانت كائنات حية سابقاً؛ إذ تمكن علماء الأحافير لاحقاً من تحديد عُمر الأرض بدراسة هذه الحفريات ومعرفة زمن تشكلها لإمكانية رسم الخرائط الجيولوجية الحديثة..

في الوقت الذي اشتهرت فيه أعمال دافينشي الفنية (الموناليزا- لوحة العشاء الأخير- عذراء الصخور وغيرها من التحف الفنية)، رأينا في مقالنا أنَّ أعمال ليوناردو العلمية بصفته مهندساً ومخترعاً لم تقل قيمتها عن الفنية، بل صنعت منه رجلاً عبقرياً في عصر النهضة، وأصبحت دراساته بمثابة نموذج يُحتذى به في تطبيق المنهج العلمي على كل جوانب الحياة، بما في ذلك الجانب الفني.

المصادر:

هنا

هنا

هنا

المصدر الثالث يتضمن أكثر من مقال ضمنه:

هنا [3.1]

هنا; [3.2]

هنا [3.3]

هنا [3.4]

هنا [3.5]