الفيزياء والفلك > فيزياء

الجاذبية من وجهة نظر "نيوتن"

الجاذبية هي القوة التي تحافظ على ثباتنا على سطح الأرض، وهي السبب في أنَّ الكرة التي تُرمى إلى الأعلى تعود لتسقط على الأرض، فقد أدرك نيوتن أنَّ هذه القوة -أي الجاذبية- لا تؤثر في الأجسام المادية الموجودة على الأرض فقط، بل هي مسؤولة عن حركة النجوم والكواكب أيضًا، إذ تدفع الجاذبية الأرض لِتتحرّك في مدار حول الشمس، وتتحرك الشمس في مدار حول الثقب الأسود الهائل في مركز مجرة ​​درب التبانة.

لم يكن أيُّ أحد يفهم -حتى عام 1687، السنة التي طرح فيها إسحاق نيوتن رؤيته الخاصة عن الجاذبية- سببَ انجذاب الأشياء إلى الأرض، وكانت القوة التي تحافظ على حركة الأرض حول الشمس قوةً غامِضة أيضًا.

أدرك البشر- حتى في العصور القديمة- أن شيئًا ما يحتجز الأشياء في مكانها، لكنه يفتقر إلى الوصف الرياضي، وقد كان نيوتن أول من قدم وصفًا تجريبيًّا لكيفية عمل الجاذبية، ومع أنَّ نيوتن كان أول من شرح الجاذبية رياضيًّا فإن غاليليو غاليلي كان مشغولًا في اختبار الجاذبيّة قبل 100 عام تقريبًا (عام 1589)، وقد أحرزت ملاحظاته تقدمًا كبيرًا في فهمنا للتفاعل بين الأشياء وكتلها. افترض غاليليو أنَّ الأجسام على اختلاف كتلتها تسقط بالمعدل نفسه نحو الأرض، ما يخالف اعتقاد أرسطو بأن الأجسام الثقيلة تسقط أسرع من الأجسام الخفيفة. ويُقال إنه لإثبات هذه الفكرة صعد غاليليو إلى أعلى برج بيزا المائل، وأسقط من الأعلى كُرتين مختلفتَي الكتلة (قذيفتي مدفع)، فلاحظ أنه إذا أُسقط الجسمين في الوقت نفسه فإنهما يضربان الأرض في الوقت نفسه بالضبط؛ بغض النظر عن وزنهما، لكن أخطأ غاليليو بافتراض أنَّ قوة الجاذبية ثابتة بين جسمين بغض النظر عن المسافة بينهما. ويختلف المؤرخون في ما إذا كانت هذه التجربة قد حدثت بالفعل، لأنها ذُكِرت أول مرة بعد 65 عامًا تقريبًا من حدوثها في سيرة غاليليو التي كتبها فينتشينزو فيفيان Vincenzo Viviani.

أثبتت إحدى التجارب التي حدثت في أثناء مهمة أبولو 15 إلى القمر مبدأَ غاليليو؛ ففي نهاية الجولة الأخيرة التي أداها رائِد الفضاء ديفيد سكوت على سطح القمر أجرى التجربة نفسها التي أجراها غاليليو باستخدام مطرقة وريشة في فراغ الفضاء، وتظهر النتيجة بالطبع في هذا الفيديو الشهير، وقد كان السيد غاليليو على صواب في النتائج التي توصل إليها.

لاحظ عالِم الرياضيات والفلكي "يوهانس كيبلر" -بعد فترة وجيزة من وفاة غاليليو- أنَّ الكواكب تتبع مساراتٍ إهليليجية في أثناء دورانها حول الشمس. ووصف كيبلر حركة الكواكب رياضيًّا، إذ فسر الجزء الثاني والأخير من لغز الجاذبية، الّذي حله كريستيان هويغنز عام 1660 بوصفه قانون قوة الطرد المركزي.

إلى جانب كيبلر وهيغنز وإسهامات كلٍّ من "إدموند هالي" و"كريستوفر ورين" و"روبرت هوك"؛ كان لدى إسحاق نيوتن كل الأدوات التي يحتاج إليها لبناء الوصف الرياضي للجاذبية. وهكذا وضع نيوتن عام 1687 الأسس الرياضية التي تفسر جميع الظواهر المرتبطة بالجاذبية حتى التفاح المتساقط من الأشجار والكواكب في مداراتها حول النجوم، وأوضح في كتابه Philosophiae Naturalis Principia Mathematica -الذي يترجم عنوانه إلى "المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية"- أنَّ الجاذبية هي قوة جذب بين جسمين يمتلك كل منهما كتلة.

لأيّ جسم نعرفه باستثناء الضوء كتلةٌ، فالأرض لها كتلة، وأنا لي كتلة، ولديك أنت كتلة؛ لذلك هناك جاذبية بينك وبين الأرض، وبيني وبين الأرض، وكذلك بينك وبيني في أيِّ وقت. ويجب أن يأخذ الوصف الرياضي لقوة الجاذبية في الحسبان كتلة كلا الجسمين، وكذلك المسافة بينهما، وتكون قوة التجاذب بين جسمين متناسبة مباشرة مع كتلة كل منهما، وعكسيًّا مع مربع المسافة التي تفصلهما.

إذا سألنا أنفسنا عن مقدار قوة الجاذبية بين جسمين يزن كل منهما كيلوغرام واحد ويفصل بينهما متر واحد؛ فإن الإجابة بالطبع وَفقًا للمعادلة هي 66.7 بيكو نيوتن (البيكو: جزء من ألف مليار جزء من المقدار). ولتوضيح مدى ضعف هذه القوّة فإنَّ 67 بيكو نيوتن هي القوة التي نحتاج إليها لِفصل طرفيّ جزيء حمضٍ نووي.

دعونا نقارن 66 بيكو نيوتن مع قوة الجاذبية التي نشعر بها بسبب الأرض، ولمّا كانت الأرض تزن 5.972 × 10^24

كيلوغرام ووزني نحو 75 كيلوغرامًا فإنّنا نحتاج إلى معرفة مدى بعد مركز الأرض عني أيضًا، لذلك نأخذ نصف قطر الأرض ليكون r ونستبدله بقيمة 6،356 كيلومتر، والتي يجب أن نحولها إلى أمتار، وأخيرًا نعوض بثابت الجاذبيّة العالمي G وقيمته 6.67408 × 10-11 m3 kg-1 s-2، نعوض في القانون فنحصل على 735 نيوتن؛ أي إنني أُسحَبُ نحو مركز الأرض بقوة 735 نيوتن.

يَصعب أحيانًا استخدام وحدة القوة نيوتن في مثل هذا السياق؛ إذ إنها ترتبط كلاسيكيًّا مع تسارع الكتلة اعتمادًا على القانون الثاني لنيوتن F=ma، الذي يربط القوة بالكتلة مع تسارع الكتلة. لذا لمّا كنتُ أشعرُ بقوة جذبٍ بقوة 735 نيوتن فيمكنني حساب تسارعي نحو الأرض بسبب الجاذبية، مما يعطي بالنتيجة تسارُعًا قدره  9.798 متر في الثانية تربيع.

إنّ هذا التسارع قريب جدًّا من قيمة تسارع الجاذبية الأرضية، التي تبلغ قيمته المتوسطة 9.807 متر في الثانية تربيع. والسبب في اختلاف هذين الرقمَين هذا الاختلاف الطفيف هو أنَّ قوَّة جاذبية الأرض تتفاوت وفقًا لجغرافية السطح. وعلى سبيل المثال فإنَّك تزن نحو 0.5%  أكثر من وزنك عندما تكون في القطب الشمالي أو الجنوبي مقارنةً بوزنك حول خط الاستواء.

في الواقع؛ تتفاوت جاذبية الأرض كثيرًا على سطحها بسبب اختلاف كثافة الصخور وجغرافية المناطق المختلفة. تنخفض جاذبية الأرض بنحو 0.5% بين مستوى سطح الأرض إلى ارتفاع خمسة كيلومترات. لذا فإن ارتفاعك فوق مستوى سطح البحر أو تحته هو عامل مؤثر في قوة الجاذبيّة الأرضية المؤثرة عليك أيضًا.

تمثل هذه الخريطة التفاوت في قوَّة الجاذبية الأرضية، فيُشير اللون الأحمر إلى جاذبية أشد، في حين يشير اللون الأزرق إلى جاذبية أضعف. جُمِعَت هذه البيانات عن طريق مهمة GRACE المتخصصة في دراسة حقل الجاذبية الأرضي، التي تتألف من زوجٍ من الأقمار الصناعية.

لو لم يُقدِّم نيوتن شيئًا للبشرية غير الصياغة الرياضية لقانون الجاذبية لَبقيَ أحد أعظم عُلماء الفيزياء في التاريخ، فقد أحدث ثورةً حقيقيّة في فهمنا للحركة والقوى والميكانيك عن طريق قوانين الحركة الثلاثة التي وضعها. ويمكننا ذِكرُ قوانين نيوتن الثلاثة بالطريقة الآتية:

ينص قانون نيوتن الأول على أنَّ الجسم الساكن يظل ساكنًا ما لم تؤثر فيه قوى خارجية، في حين أنَّ الجسم المتحرّك لا تتغيّر سرعته طالما لم تؤثر فيه أية قوة خارجية. فكّر في صاروخ يتحرك في الفضاء الخارجي بسرعة ثابتة، طالما أوقفنا محرّك الصاروخ، سيستمر الصاروخ في التحرك بسرعة ثابتة إلى الأبد، أما إذا شغلنا محرّك الصاروخ فيمكننا تغيير اتجاهه وسرعته. يسمى قانون نيوتن الأول قانون القصور الذاتي وهو مقاومة الجسم لتغيير حالته الحركيّة.

أمَّا قانون نيوتن الثاني فينصُّ على أنّه إذا أثّرت قوة في جسم ما فإنها تكسبه تسارعًا يتناسب طرديًّا مع هذه القوة وعكسيًّا مع كتلته. هذه هي الصيغة الشهيرة التي وصفتها المعادلة F=ma. بناءً على هذا، سوف تتسارع كتلة صغيرة بمعدل أكبر من تسارع كتلةٍ صغيرة. فكرْ في الفرق بين حركة قاربٍ صغير بمُحرّك وسفينةٍ ضخمة تمتلك المحرّك نفسه. المحرك يُعطي كلًّا منهما القدر نفسه من القوة، ولكنَّ السفينة تتسارع بمعدلٍ أقل بكثير.

ينصُّ قانون نيوتن الثالث على أنه لكل فعلٍ يوجد رد فعل مساوٍ في الشدّة ومعاكس في الاتجاه. القانون الثالث لنيوتن يصعُب فهمه قليلًا، ولكنَّه يعني أن القوة الممنوحة لِجسمٍ ما يجب أن تُمنحَ  بنحو مساوٍ إلى جسمٍ آخر؛ بعبارة أخرى؛ بالنسبة إلى قوة الجاذبية الأرضيّة التي تسحبني نحو الأرض أمارس أنا أيضًا عن طريق وقوفي على الأرض قوة معاكسة تقاوم جاذبية الأرض. أربكتني هذه النقطة لبعض الوقت، لماذا نقول إنّ قيمة جاذبيّة الأرض هي 9.81 متر في الثانية المربعة؟ إنَّ هذه القيمة هي قيمة تسارع، فلماذا تقاس الجاذبية الأرضيّة على أنَّها تسارع؟

حسنًا؛ عندما أكون واقفًا بثبات على سطح الأرض لا يتسارع سطح الأرض باتجاهي أو بأيِّ اتجاهٍ آخر، وتسارُعي أنا هو صفر أيضًا. في حقيقة الأمر إنَّ محصلة القوة التي تمارسها على الأرض عن طريق الوقوف مع قوة الجاذبية التي تمارسها الأرض عليك هي صفر؛ أي إنَّ محصلة القوى بينك وبين الأرض هي صفر.

حسنًا، ماذا لو لم تكن واقفًا على سطح الأرض؟ ماذا لو كنت تسقط بحريّة في الهواء؟ في هذه الحالة، أنت تتسارع بسرعة 9.81 متر في الثانية المربعة ولكن يجب أن تعرف أن الأرض تتسارع باتجاهك أيضًا. القوى المؤثرة هي ذاتها بالنسبة لك وللأرض، لكن تسارعك يختلف عن تسارع الأرض، لأنك تمتلك كتلةً مختلفة إلى حد كبير عن كتلة الأرض. في هذه الحالة تتسارع الأرض نحوَك بِمُعدلٍ صغيرٍ يبلغ نحو 1.23 مضروبًا بالعدد 10 مرفوعًا إلى ناقص 22 مترًا في الثانية.

يعني قانون نيوتن الثاني للحركة أنه عندما نطبق قوة على جسم ما فإنَّ الجسم سوف يتسارع، لذلك عندما تطبق قوة الجاذبية على جسم ما فسوف يتسارع أيضًا. إذا أخذنا قانون نيوتن للجاذبية

وبإلغاء الكتلة الصغيرة m من المعادلتين، نصل إلى المعادلة:

تمكننا هذه المعادلة من حساب التسارع بسبب الجاذبية، فعندما أقف على سطح كوكب دائريّ نصف قطره r وكتلته M؛ فإن تسارعي الناتج عن الجاذبية على السطح يُعطى ببساطة عن طريق ضرب كتلة الأرض بثابت الجاذبية G مقسومًا على مربع المسافة بين سطح الأرض ومركزها. نقول إن الجسم لديه حقل جاذبية عندما يكون لديه القدرة على تسريع الأجسامِ القريبة نحوه.

هذه المعادلات التي قدمها نيوتن قوية، لدرجة أنَّها مكَّنت البشرية من إرسال الصواريخ إلى كواكب أخرى.

لكنَّ ألبرت أينشتاين -الحائز جائزة نوبل في الفيزياء عام 1921- سعى إلى إيجاد نظريَّة بديلة للجاذبيَّة في أوائل القرن العشرين، فقدَّم في نظريَّته "النسبيَّة العامَّة" الشهيرة تفسيرًا للجاذبيَّة مختلفًا تمام الاختلاف عن جاذبيَّة نيوتن. لم يعتقد أينشتاين أن الجاذبيَّة كانت قوة على الإطلاق، بل اعتقد أنها تَشوُّه في نسيج الزمكان (المكان بأبعاده الثلاثة مضافًا إليه الزَّمن بعدًا رابعًا). يشكِّل هذا الفضاء الرباعي نسيجًا يحتوي كل شيء في هذا الكون، وكل حدث يحدث ضمنه، وكل كتلةِِ -صغيرة كانت أم كبيرة- تُحدِثُ تشوُّهًا في هذا النسيج، فقد يؤدِّي هذا التشوه إلى تحرِّك الأجسام نحو بعضها؛ أي إلى تولُّد الجاذبية.

المصادر:

هنا

هنا