الطب > مقالات طبية

أملٌ جديدٌ في شفاءِ الجروح

صديقٌ رافقَنا منذُ لحظاتنا الأولى، وكان له الفضلُ في استمرارية حياتنا، فالحبلُ السريُّ أكثر من مجرد وسيلة اتصالٍ بينَ الأمِّ وجنينِها لتزويدِهِ بالدّم الغنيِّ بالأكسجين والموادِّ المُغذِّية وتخليصِهِ من الدّم غيرِ المؤكسَجِ والفضلات، وقد كان محور اهتمام دراسات عديدة وجَّهَت الأنظار إلى قدراتِهِ الكامنة؛ من استخدامِ الخلايا الجذعيّة في دم الحبل السرّيّ في مجالات عديدة وصولًا إلى إمكانيّة استخدام هلام وارطون (أحدُ مكوّناتِه الأساسيّة) في علاج الجروح، وهذا ما سنسلّط الضّوءَ عليه في مقالنا هذا.

أولًا سنتعرف تشريحيًّا إلى صديقِنا اللّطيف فهو عبارة عن بِنية أنبوبية يتضمَّن في الحالات النموذجية ثلاثةَ أوعية: وريدٌ، وشريانان؛ إذ يحمل الوريد الدمَ الغنيَّ بالأكسجين والمواد المُغَذِّية من المشيمة إلى الجنين، ويحمل الشريانان الدمَ غير المؤكسج والفضلات بالاتجاه المعاكس، وهذه الأوعية تكون منطمرةً ضمنَ مادّةٍ هُلاميّة لزِجة تُدعى (هلام وارطون) التي تكون مغلَّفة بطبقة غشائيّة من الأمنيون.    

بدايةً سنلقي نظرةً سريعة إلى ماهيَّة الجرح ومراحلِ التئامِه؛ إذ يوصفُ الجرح بأنَّه تمزُّقٌ أو تفرُّقُ اتّصالٍ في البنية التشريحية الطبيعيّة والتكامل الوظيفيّ للبشرة، وعمليةُ التئامِ الجرح هي استجابةٌ ترميميّةٌ طبيعيّة، وهي تداخلٌ لشلَّالٍ متسلسِل معقَّد من الحوادثِ الخلويّة التي تؤدّي إلى إعادةِ تكوين قوّة الشَّدِّ وترميمها واستعادتها في الجلدِ المتأذّي، وهي عمليّة جهازيّة تمرُّ بأربعةِ أطوارٍ متراكبةٍ ومتكاملة أيضًا:

-طورُ الإرقاء: الذي تُؤدي فيه الصُّفيحات الدّمويّة مَهامًا أساسيَّة في تشكيل العَلَقة الدّمويّة.

-طورُ الاِلتهاب: وتعملُ فيه الخلايا الالتهابيّة على تَنضيرِ النسيج المُتأذّي.

-طورُ التكاثر: تحدُث فيه عمليّات التَّظَهرُن، والتنسُّجُ الليفيّ، واستحداثُ الأوعية، في حين يبدأ النسيجُ الحُبَيبيّ بالتشكُّل ويبدأُ الجرح بالانكماش.

-طورُ إعادةِ الهَيكلة (إعادة التّشكيل) النَّسيجيّة، أوالثَّبات، أو النُّضج: ويُشكِّل الكولاجين خطوطًا متقاطعة ليزيدَ من قوّةِ الشَّدِّ في النّدبة، إضافةً إلى تدخّل عوامل النّمو المختلفة في تحفيز تكوّن الأوعية، وتركيب الفيبرونيكتين، وغيرها.

ويمكن أن تُقسم الجروح إلى قسمين: حادّة ومُزمِنة (أو غير شافية):

إنَّ الجروحَ الحادّة التي تتلو الرض أو الالتهاب تتعافى غالبًا في ستة أسابيع، أمّا الجروح المُزمنة التي لا تتبع الخطوات الطبيعيّةَ للالتئامِ الجروح، وتفشل في الالتئام في ستة أسابيع إلى ثلاثة أشهر، تُؤدّي إلى تمزُّقاتٍ مفتوحة بدرجات مختلفة من الشّدّة، وهذه الجروح تدخلُ حالةً من الالتهاب المرضيّ؛ بسبب عمليّة الالتئام الآجلة، غير المُكتملة، وغير المتناسقة.

وإنَّ تدبيرَ الجرح المُزمن أصبح تحديًّا علاجيًّا كبيرًا، وسَتسوء هذه المشكلة مع ارتفاع الحالات التي تمنعُ الالتئام، مثل داء السُّكّريّ، والبدانة، والاضطراباتِ الوعائيّةِ، إضافة إلى أذيّاتِ الحروق.

إنَّ الأهدافَ الأساسيّة  في عمليّةِ شفاء الجرح هي الالتئامُ السريع، والحصولُ على ندبة وظيفيّةٍ مُرضِية جماليًّا؛ ولتحقيقِ هذه الأهداف فإنَّ تغطيةَ الجرح هي واحدة من أحجارِ الزّاوية في التدبير، فقد استخدم الأطباء السريريون موادًّا وتقنيّات متنوِّعة، كالعلاجِ بالمُضادّاتِ الحَيويّة، والتّنضير الجراحيّ، وأجهزة الضّغط السلبيّ، وضمادات الجروح، والعلاج بالأوكسجين مُفرطِ الضغط، والعلاج المُضادّ للميكروبات، ومُكافآت البشرة بالهندسة الحيويّة، وعوامل النُّمو، لكنَّها تملكُ نجاحًا محدودًا؛ مما يوضِّح صعوبات عمليّة شفاء الجروح.

ويمكن للطّعومِ الجلديّةِ من مصادرَ ذاتيّةٍ أو خَيفيّة، والشرائح النسيجيّة التّرميميّة، والبدائل الجلديّة الهندسيّة أن تكون مفيدةً في علاجِ الجروح المُزمنة، أو الممتدة، وعلى الرغم من أنَّ الأبحاثَ مستمرّةٌ والبدائل الجلديّة أثبتَت نجاعَتها، فإنَّ شفاء الجروح يبقى تحديًّا سريريًّا بالنسبة لكبارِ السّنِّ، والمُعمِّرين خصوصًا.

ومن جهةٍ أُخرى يُقدِّم الأطباء تدريجيًّا دراسات سريريّة، وماقَبل السريرية باستخدامِ العلاجات المعتمدة على الخلايا في الرعايةّ الطِّبّية لتدبير الجروح الجلديّة؛ إذ تستطيع استبدالَ النسيجِ المتأذّي بنسيجٍ صحيّ اعتمادًا على قدرتها الطبيعيّة على إنتاج السيتوكينات، والجزيئاتِ الضروريّة لشفاءِ الجروح.

وفي عام 1991 عَزَل "McElreavy et al" للمرة الأولى الخلايا الميزانشيميّة (خلايا اللُّحْمة المُتوسِّطة) من النسيج الضام المُسمَّى (هلام وارطون) في الحبلِ السريّ، وهو مصدر قيِّم للخلايا الجذعيّة المتوسِّطة في فترة ما حول الولادة التي تملك خصائصَ فريدةً لكلٍّ من الخلايا الجذعيّة الجنينيّة، والخلايا الموجودة عندَ البالغ.   

وإنَّ اكتشاف الخلايا الميزانشيميّة سمح باستخدامها بصفتها طعومًا واعِدة من الخلايا الجذعية لتطبيقها في الطِّب التجديدي.

وتتميز الخلايا الميزانشيمية في الحبل السري، والسائل الأمنيوسي على الخلايا الميزانشيمية عند البالغين -كالخلايا الجذعية الميزانشيمية المُشتقّة من نِقيِّ العظم- بأنَّ عمليّة عزلِها غازية بالحدِّ الأدنى، وامتلاكها صفات الخلايا البدئية دون أن تكون مُولِّدة للأورام، وردَّ الفعل المناعيّ الضعيف تجاهها، وإمكانيّة تطبيقها الذاتي في الاضطرابات الخلقية، وحفظها بالبرودة إلى وقت البلوغ.    

وقد تقصَّت دراسات عديدة العلاجَ الخلوي بهذه الخلايا، أو ما يُشار إليها بـ WJ-MSCs:(Wharton's Jelly-derived Mesenchymal Stem Cells)، وأوضحت دورها في العديد من التطبيقات مثل الاضطرابات العصبية، وإصابة الكلية، وإصابة الرئة، وإصابة الكبد، وعلاج السرطان.

وفي حين كان المُكوِّن الخلوي لهلام وارطون موضوعًا لأبحاث واسعة في السنوات القليلة الماضية؛ فإن القليل فقط قد عُرِف عن المادة الهُلاميّة المنزوعة الخلايا من الحبل السُّري AGWJ:(Acellular Gelatinous Wharton's Jelly)؛ إذ إنَّ (هلام واطون) ذاته دون الخلايا لم يُستَقصَ مسبقًا فيما يرتبط بالتئام الجروح.

- لماذا توجَّه التفكير في هذه الدراسة باتّجاه (هلام وارطون) في مجالِ شفاء الجروح؟

إن الخلايا الجذعيّة الميزانشيميّة في (هلام وارطون) تكون على تفاعلٍ مُتَبادل مع مَطْرِسِها Matrix الخارج الخلويّ، ولما كانت مُفرزات هذه الخلايا تحسِّنُ شفاء الجروح في الزجاج؛ فقد ولَّد ذلك تساؤلًا فيما إذا كان المطرِسُ الخارج الخلوي الواطِن (الأصليّ) لهذه الخلايا -الذي قد لا يكون بالضرورة مُفرَزًا منها- يملكُ أيَّ تأثير في شفاء البشرة؛ إذ إِنَّ (هلام وارطون) يحوي كمّية مهمَّة من مكوِّنات المطرس الخارجِ الخلوي التي تتكوَّن من الكولاجين، والحمض الهيالوروني، وبروتيوغليكانات كبريتيّة متنوّعة.

ومن المعروف أن التَّخليق الحيويَّ لمكوِّنات المطرس الخارج الخلوي يُعزَّز بوساطة عوامل نمو عديدة، وخصوصًا عامل النمو الشَّبيه بالأنسولين (IGF)، وعامل نمو الأرومات الليفية (FGF)، وعامل النمو المُحوِّل (TGF-b)، فقد تتراكم هذه العوامل ضمن (هلام وارطون) لتَدعم الخلايا (مثلا MSC)، ولهذا السبب افترضتْ هذه الدراسة أن (هلام وارطون) اللاخلوي AGWJ يُحسِّن شفاء الجروح. وبيَّنت تأثيرات المعالجة بـ AGWJ على الخلايا الأروميّة الليفية للأدمة في تجارب الزجاج، ثُمَّ طُبِّقت تجارب التئام الجروح على 6 فئران ذكور في عمر 8 أسابيع لنشر تأثير المعالجة بـ AGWJ في الجروح في الجسم الحيّ.

وقد أظهرت النتائج أول مرة أن المعالجة بـ AGWJ قد حسَّنت من التئام الجروح في الزجاج، وفي الجسم الحيّ لجروح العيِّنة الفأرية بواسطة تقصير طول الجرح، وبهذا إغلاق أبكر له.

ما الآلية التي عزَّز فيها AGWJ من شفاء الجرح؟

يُظهِر هذا التقرير أنَّ AGWJ قد حَسَّن التئام الجروح بواسطة تسريع الطور التكاثريّ من عملية شفاء البشرة، وهذا ليس عن طريق زيادة تكاثر الخلايا وعددها أو تحسين عُيوشيتها؛ بل عن طريق تحسين هجرة الخلايا، وأيضًا تبيَّن أنه أدى إلى تمايُز أبكر للأرومات الليفية إلى أرومات ليفية عضلية، مؤدّيًا إلى انكماشٍ أبكر للجرح.

وبهذا فإن كون (هلام وارطون) اللاخلوي AGWJ من أصلٍ حيويّ عالي المردودية، ومتوافر عالميًّا؛ فيجعل منه هذا علاجًا واعدًا ذا ميزاتٍ مهمَّة في ترميم الجلد وشفاء الجروح؛ إذ يتضمن علاجًا لجروح مرضى السكري، ومرضى الحروق، ويفتح أفقًا لأملٍ جديدٍ في تخفيف المعاناة لدى هؤلاء المرضى.

المصادر:

1- هنا

2- هنا

3- هنا

4- هنا