الاقتصاد والعلوم الإدارية > اقتصاد

اقتصاد سلوكي

نشأت معظم النظريات الاقتصادية على فرض أنَّ الأفراد يتصرفون بطرائق عقلانية؛ إذ تعتمد عملية اتخاذ القرارات العقلانية على انتقاء الخيارات التي تُعطي أفضل مستوى من المنافع لدى متخذ القرار، وتفترض هذه النظريات أنَّ الشخص العقلاني يملك القدرة على ضبط الذات ولا يتخذ القرارات بناء على المشاعر والعوامل الخارجية، ويأتي هنا الاقتصاد السلوكي ليناقض هذه الفكرة ويبين أنَّ الأفراد غير عقلانيين وغير قادرين على اتخاذ قرارات مثالية في جميع الظروف والحالات، بل ومن الممكن أنْ يتخذوا قرارات لا تصُبُّ في مصلحتهم الشخصية.

ويتبادر الآن إلى أذهاننا سؤال مفاده: كيف لنا أن نميز بين القرارات العقلانية وغير العقلانية؟

فمثلًا إذا أراد "مجد" أن يفقد الوزن وتوفرت لديه المعلومات اللازمة عن عدد السعرات الحرارية الموجودة في كل نوع من الأطعمة، سيختار فقط الأطعمة ذات السعرات الحرارية الأدنى، وهنا سيكون قراره عقلانيًّا، أما من وجهة نظر الاقتصاد السلوكي فحتى لو أراد "مجد" أن يفقد الوزن وأنشأ خطة لذلك؛ فإن سلوكه النهائي مُعرَّض لأنْ ينحاز عن إدراكه ومشاعره والمؤثرات الاجتماعية.

فمثلًا في حال ظهور إعلان تلفزيوني لعلامة تجارية لشركة مثلجات بسعر منافس، فيُظهر الإعلان عبارة تقول: إنَّ الإنسان يحتاج إلى 2000 سعرة حرارية في اليوم ليكون قادرًا على ممارسة نشاطه اليومي على نحو فعال، فتقود هنا صورة المثلجات وسعرها والإحصاءات المذكورة بالإعلان مجدًا إلى الوقوع تحت تأثير إغراء المثلجات والتراجع عن خطة فقدان الوزن، مما يُظهِر نقصَ قدرته على السيطرة على سلوكه، ويُعَدُّ هذا السلوك سلوكًا غير عقلاني، ويحدث مثل هذا السلوك يوميًّا على أرض الواقع.

إذًا؛ ما الاقتصاد السلوكي؟

يعتمد الاقتصاد السلوكي على دمج علم النفس مع علم الاقتصاد لاكتشاف الأسباب الكامنة وراء اتخاذنا القرارات غير العقلانية في بعض الأحيان، وكيفية عدم توافق سلوكنا مع التوقعات الخاصة بالنظريات الاقتصادية وأسبابه.

يهدف الاقتصاديون عمومًا إلى تطوير نماذج عن السلوك الإنساني وتفاعل الأفراد في الأوضاع الاقتصادية المختلفة وذلك لمحاولة التنبؤ بالنتائج الاقتصادية، ولكننا -بوصفنا بشرًا- نتصرف بطريقة معقدة وغير متوقعة أحيانًا، وعلى الرغم من أننا نحاول اتخاذ قرارات عقلانية، فإن قدراتنا الإدراكية محدودة وقوة إرادتنا قد تخوننا في بعض الأحيان، ويهتم جانب آخر بداخلنا بالقيم الأخلاقية أيضًا كالمساواة والعدالة في حين تقود المنفعة الذاتية أغلب قراراتنا، بل إضافة إلى ذلك قد تختلف قدراتنا على الإدراك وضبط الذات وحوافزنا من فرد إلى آخر بالمجتمع.

وقد أدى الفائز بجائزة نوبل لعام 2017 (Richard Thaler) دورًا حاسمًا في تطوير الاقتصاد السلوكي على مدى العقود الأربعة الماضية؛ إذ وفر المفهومات الأساسية والعملية لدى هذا المجال عن طريق دمج أفكار من علم النفس الإنساني بالتحليل الاقتصادي، وأسهم بشرح أكثر واقعية لتصرفات الأفراد اقتصاديًّا؛ إذ نقل هذا المجال من الهامش إلى مجال رئيسي في علم الاقتصاد.

ولكن ما الجديد الذي أضافه (Richard Thaler) ليحصل على جائزة نوبل؟

لم يناقش (Thaler) موضوع عدم التصرف العقلاني للأفراد في أثناء اتخاذ القرارات؛ لأن ذلك أصبح واضحًا، ويكمن إسهامه الحقيقي في أنه قد بيَّن عندما لا يتصرف الأفراد بعقلانية فإن ذلك يكون بطريقة متسقة وضمن نمط معين، ولذلك يمكن التنبؤ بسلوكهم غير العقلاني ووضعه ونمذجته اقتصاديًّا.

وتوصَّل بداية إلى أنَّ القرار الاقتصادي يتأثر بثلاثة نواح نفسية لدى الفرد؛ وهي:

محدودية الإدراك.

مشكلات ضبط الذات.

التفضيلات الاجتماعية.

ودرس كل ناحية من هذه النواحي على حدة، ولذلك سنقسم إسهاماته تبعًا لهذه النواحي الثلاث[7].

الإسهام الأول:

ركز على الناحية  النفسية الأولى المتعلقة بمحدودية الإدراك لدى الأفراد، وكان أبرز ما توصل إليه ما يسمى "أثر الهبة"؛ وهو يعبر عن ميل الأفراد إلى تقييم الأشياء التي يمتلكونها بأعلى من قيمتها؛ إذ أدى تجربة على مجموعتين من الطلاب وأعطى مجموعة من الطلاب -بطريقة عشوائية- أكواب قهوة، ثم أعطاهم الخيار فيما إذا أرادوا بيعها للمجموعة الثانية من الطلاب الذين لم يتلقوا أكوابًا، وتبينَ أنّ الطلاب الذين حصلوا على الأكواب قد قيموا أسعار الأكواب بضعف القيمة التي قيمها الطلاب الذين لم يحصلوا على أكواب، ويُفسر ذلك بأنّ ألم خسارة الشيء لدى الأفراد هو أعظم من الرضى الذي يشعرون به عند حصولهم على الشيء نفسه؛ إذ إن أثر الخسارة النفسي أكبر من الأثر الربح النفسي.

وتوصَّل إلى مفهوم يسمى mental accounting الذي يُظهِر أنّ الناس يُبَسِّطون قراراتهم الاقتصادية عن طريق خلق حسابات مالية منفصلة في أذهانهم ويتخذون القرارات الفردية بناء على تأثير هذه القرارات في كل واحدة من هذه الحسابات وليس على أساس مجموع ما يملكه الفرد من أصول، ولكن كيف سيؤثر ذلك في قراراتهم الاقتصادية؟

فعلى سبيل المثال؛ يقسم معظم الأفراد دخلهم الشهري إلى أجزاء، جزء للمصاريف المنزلية وجزء للإجازات وجزء للادخار وغيرها، وفي ظل الفصل بين هذه الأجزاء سيقترض الفرد -غالبًا- مبلغًا من المال لسد حاجاته الضرورية بدلًا من أن يصرف جزءًا من الأموال المدخرة سينعكس هذا عليه بتكلفة إضافية.

ويتعلق "mental accounting" بنقطة أخرى هي أننا -بوصفنا أفرادًا- نضع نقطة مرجعية من أجل اتخاذ القرارات الاقتصادية، وقد تكون هذه النقطة المرجعية هي السعر أو حتى أدنى سعر يمكن الحصول عليه.

فعلى سبيل المثال؛ لنفرض أنَّ مستهلكًا ما يريد شراء ساعة وعَلِم أنّ هناك متجرًا مجاورًا يبيع الساعة ذاتها بسعر يقل بـ 100$ عن المتجر الذي اختاره، فسيذهب الفرد إلى المتجر الأرخص والشراء منه في حال كان ثمن الساعة 1000$، ولكن في حال كان ثمن الساعة 10000$ فإنه لن يذهب إلى المتجر الأرخص، ولكن لماذا؟ ذلك لأن الفرد يرى الموضوع بوصفه نسبة مئوية فيؤدي السعر دوره بوصفه نقطة مرجعية على الرغم من أنه عقلانيًّا يجب أن يقبل بتوفير 100$ في جميع الأحوال[10].

ومثال آخر: تقترح النظرية الاقتصادية عند انخفاض سعر الغاز أن الأفراد سيستخدمون المدخرات لأكثر الحاجات إلحاحًا التي لن تكون مزيدًا من الغاز في الأغلب، ولكن في الواقع يصرف الأفراد مزيدًا من الأموال على الغاز؛ أي إنهم يعدُّون أن هناك شريحة معينة من دخلهم مخصصة للغاز وسيستمرون بإنفاقها بغض النظر عن حاجتهم.

الإسهام الثاني:

ركز على الناحية النفسية الثانية المتعلقة بضبط الذات، تمنع مشكلات عدم القدرة على ضبط الذات الأفرادَ من اتخاذ القرارات العقلانية حتى لو تمكنوا من معرفتها، ومن أهم إنجازاته في هذه الناحية أنموذج "Planner-Doer" ويعتمد هذا الأنموذج  على قياس التوتر الداخلي الناتج عن الأفعال على الأَجَل القصير (Doer) وتقييم الخيارات بناء على المنفعة الحالية المتأتية منها، والتخطيط على الأَجَل الطويل (Planner) الذي يهتم بتحقيق أكبر منفعة على الأجل الطويل.

إنَّ أحد أهم الأسباب التي تُفسر فشل خططنا على الأجل الطويل هو الاستسلام لإغراء المكاسب على الأجل القصير، فعلى سبيل المثال عند وضع الخيار للشخص من أجل الحصول على 100$ الآن أو 120$ بعد ثلاثة أشهر كانت النسبة الأكبر تأخذ القرار بالحصول على المبلغ الآن، على الرغم من أنَّ القرار العقلاني سيكون بالحصول على المبلغ الأكبر مستقبلًا.

الإسهام الثالث:

ركز على الناحية النفسية الثالثة المتعلقة بالتفضيلات الاجتماعية؛ إذ تُعَدُّ التفضيلات الاجتماعية أساسية في عملية اتخاذ القرارات عند الأفراد، وقد صمم (Thaler) ونفَّذ تجربة مخبرية مثيرة للجدل لقياس التفضيل الاجتماعي أطلق عليها لعبة الديكتاتور[13]، تقوم هذه التجربة على اختيار شخصين وإعطاء أحدهما خيارين:

الأول: اقتسام مبلغ 20$ مناصفة مع الطرف لآخر.

الثاني: اقتسام 18$ لصالحه و2$ لصالح الطرف الثاني.

تبين النتائج أن النسبة الأكبر ستتخذ الخيار الأول مع وجود بعض الحالات الاستثنائية، وفي المرحلة الثانية من التجربة يختار أحد الأشخاص الذي اقتسم مناصفة أحد الخيارين:

الأول: اقتسام 10$ مناصفة مع الشخص الذي حصل على 2$ في الجزء الأول من التجربة.

الثاني: اقتسام 12$ مناصفة مع الشخص الذي حصل على 18$ في الجزء الأول من التجربة.

واختار غالبية الأفراد الخيار الأول وقرروا خسارة 1$ وذلك عقابًا للشخص الذي يرونه على أنه جشع وغير عادل، على الرغم من أنه عقلانيًّا يبدو الخيار الثاني ذو منفعة أكبر؛ أي إن للعدالة تأثير مهم في سلوك الأفراد في اتخاذ القرارات الاقتصادية[14]؛ إذ إن الأفراد سيعاقبون من يتصرف بطريقة غير عادلة بنظرهم حتى لو أنَّ هذا التصرف غير العادل لم يمسهم شخصيًّا أو أنَّ تصرفهم حيال عدم العدالة لن يغير شيئًا، وهذا يفسر لماذا يختار متجر مظلات -على سبيل المثال- عدم رفع الأسعار في عاصفة مطرية، وسيُقتَصُّ جزءًا من رواتب العمال في حالات الركود، وبحسب المعيار الاقتصادي التقليدي حتى تصل إلى مستوى يتسق مع الطلب على السلع والخدمات، مما يعني أن الركود لن يسبب البطالة، ولكن العمال يعدُّون الاقتصاص من الرواتب غير عادل ومن ثَم سيخفِّض أصحاب العمل عدد العمال بدلًا من الرواتب؛ وهذا يبرر البطالة التي تظهر في وقت الركود.

ويَعُدُّ (Richard Thaler) بالاشتراك مع (Robert Shiller) وهو من مؤسسي المالية السلوكية التي تحلل كيفية تأثير نفسية المستثمر في قراراته ومن ثم في الأسعار في السوق المالي، وقد ساهمت أعماله في مجال الاقتصاد السلوكي بتطوير في النواحي التطبيقية لمجالات مختلفة كالتسويق والقانون[16].

كيف استُخدِمت هذه الإسهامات على أرض الواقع؟

أثار كتاب ".2008 NUDGE" الذي شارك في تأليفه (Richard Thaler) اهتمام القائمين على السياسة العامة؛ إذ يبين الكتاب كيفية استخدام الدولة الاقتصاد السلوكي لزيادة فعاليتها اقتصاديًّا؛ إذ من السهل توجيه الأفراد لاتخاذ قرارات أفضل عن طريق إظهار الخيارات بطرائق مختلفة، واستعان صناع السياسة العامة -في عديد من الدول كالدنمارك وفرنسا وبريطانيا- بالمقترحات الواردة في الكتاب، حتى إن (دايفيد كاميرون) أنشأ فريقًا سلوكيًّا أطلق عليه "NUDGE UNIT"، وكانت البداية واعدة جدًّا لاستخدام هذا الجانب في السياسة العامة، ومن هذه التجارب إرسال رسالة إلى الأفراد المتخلفين عن دفع الضرائب على سياراتهم ولكن بطرائق مختلفة، فعلى سبيل المثال: الكتابة بلغة عامية "ادفع ضرائبك أو ستخسر سيارتك" وفي بعض الأحيان أضافوا صورة السيارة المقصودة، كانت النتائج أن تضاعف عدد دافعي الضرائب في الحالة الأولى وأصبح ثلاثة أضعاف عند إضافة الصورة.

وساهم (Richard Thaler) كثيرًا في زيادة الأموال المستثمرة في صناديق التقاعد، ذلك لأنه وحسب النتائج التي توصل إليها في الاقتصاد السلوكي فيختار الأفراد غالبًا الخيار الافتراضي في أثناء تعبئة الطلبات الرسمية، فبدلًا من أن يكون الخيار الافتراضي "الاشتراك بصندوق التقاعد" مع مربع فارغ لوضع إشارة صح أو خطأ، أصبح الخيار بجانبه إشارة صح افتراضيًّا فيستطيع المستخدم تغييرها، وتسبب هذا بزيادة ملحوظة في الأموال المستثمرة بصناديق التقاعد.

أما على مستوى الشركات الخاصة فأصبحت الشركات -حاليًّا- تحاول اللجوء إلى الاقتصاد السلوكي من أجل زيادة مبيعاتها، ومثال على ذلك: في عام 2007 كان سعر هاتف آيفون بسعة 8 غيغا بايت 600$ ثم خُفِّض السعر بعد فترة وجيزة إلى 400$، ولكن ماذا لو كانت القيمة العادلة للهاتف في أي حال هي 400$ وأُصدِر بهذا السعر؟

قد يسبب هذا ردة فعل أولية سلبية تجاه الجهاز في سوق الهواتف الذكية، وذلك لاعتقاد الأفراد أنَّ الهواتف يجب أن تكون باهظة الثمن جدًّا، ولكن عند عرض الهاتف بسعر مرتفع ومن ثم تخفيض السعر اعتقد المستهلكون أنهم يحصلون على عرض مغرٍ جدًّا؛ لأنهم يحصلون على هاتف قيمته 600$ مقابل 400$ فقط، وهذا ما سبب ارتفاعًا ملحوظًا في مبيعات شركة آبل[18].

وفي النهاية؛ يمكن القول أن هذه الإسهامات بنت جسر وصل بين علم النفس والاقتصاد، وأدت إلى نتائج تطبيقية مذهلة على أرض الواقع، وحفزت على زيادة البحث والتطوير في مجال الاقتصاد السلوكي. وأخيرًا يقول (Richard Thaler):

"يجب أن نتذكر دائمًا -من أجل الحصول على نتائج اقتصادية جيدة- أنّ الأفراد هم بشر في نهاية الأمر".

المصادر:

هنا

هنا

 

هنا

 هنا

هنا

   هنا

هنا

   هنا

      هنا

      هنا

 

هنا

  هنا