التعليم واللغات > اللغويات

اللغويات التشومسكية

اللغويات التشومسكية هو مصطلحٌ واسعٌ يعبِّرُ عن مبادئِ اللغة وأساليبِ دراستها كما قدَّمها وأشاعها اللغويُّ الأمريكي (نعوم تشومسكي) في أعماله الرائدة مثل "البنى النحوية" Syntactic Structures (1957) و"جوانب من نظرية النحو" Aspects of the Theory of Syntax (1965)، وتُعامَل اللغويات التشومسكية في بعض الأحيان على أنها مرادفٌ للُّغويات الشكلية Formal linguistics.

في مقال "الكونية والاختلافُ البشري في اللغويات التشومسكية" (Universalism and Human Difference in Chomskyan Linguistics) الذي ورد في كتاب Chomskyan [R]evolutions، يذكر (كريستوفر هاتون) إن علم اللغويات عند (تشومسكي) يُعرَّف عن طريق التزامٍ أساسي بالكونيةِ وبوجودِ معرفةٍ مشتركة بين الأنواع متأصلةٍ في البيولوجيا البشرية.

يلخِّص بعض اللغويين خصائص اللغويات التشومسكية كالآتي: إن المكان الوحيد الذي تشغله اللغةُ في اللغويات عند تشومسكي هو مكانٌ غيرُ جغرافي، بل هو في ذهن المتحدث، بالإضافة إلى ذلك تدَّعي اللغويات التشومسكية بأنها تكشف شيئًا عن العقل، ولكنها في الواقع تفضِّل المنهجية الاستقلالية التامة على الحوارِ المفتوح مع علم النفس، وهو الحوار الذي قد ينطوي عليه هذا الادعاء.

وبعض هذه الخصائص أيضًا:

- الشكلية: تهدفُ اللغويات التشومسكية إلى تعريفِ القواعد والمبادئ التي تولِّد الجملَ النحوية أو المنَسقةَ جيدًا في اللغة وتحديدِها.

- التجزيئية: تُعدُّ القواعدُ النحوية العقلية وحدةً خاصة من العقل تشكِّل قدرةً إدراكيةً منفصلةً لا علاقة لها بالقدرات العقلية الأخرى.

- التجزيئية الفرعية: يُعتقد أن القواعدَ النحوية العقلية تنقسِمُ إلى وحدات فرعية أخرى، كلٌّ منها له وظيفةٌ معينة، ويؤدي التفاعلُ بين هذه الوحدات الصغيرة إلى نشوء تعقيدات البنى النحوية.

- التجريدية: أصبحت اللغويات التشومسكية مع مرور الوقت تجريديةً أكثر فأكثر، ونعني بهذا أنَّ الكيانات والعمليات المُقدَّمة في هذا الإطار لا تظهر علانيةً في التعابيرِ اللغوية، وعلى سبيل التوضيح، يمكننا أن نأخذ حالة البنى اللغوية المبطنة -أي المشتركة بين اللغات حسب (تشومسكي)- التي لا تُشبه البنى السطحية -أي الظواهر اللغوية الفعلية.

- البحث عن التعميم على مستوى عالٍ: أُهملت من الناحية النظرية تلك الجوانبُ من المعرفة اللغوية التي تُعدُّ خاصة ولا تلتزمُ القواعدَ العامة وذلك لأنها تُعدُّ غير مُهمة، فالجوانبُ الوحيدة التي تستحق الاهتمام هي التي تخضعُ لمبادئ عامةٍ، وكمثال على ذلك تغيُّر بنية الجملة بين الحالتين الاستفهامية والتقريرية بتأثير وجود اسم الاستفهام أو عدمه.

أصلُ اللغويات عند تشومسكي وتأثيرُها

في العام 1957، نشرَ اللغويُّ الأمريكي الشاب (نعوم تشومسكي) كتابَه "البنى النحوية"، وهو خلاصة مختصرة ومبسَّطة لسنوات عديدة من البحث، وقدَّم (تشومسكي) في ذلك الكتاب، وفي منشوراته اللاحقة، عددًا من المقترحات التي كانت الثورية آنذاك: فقد طرح فكرةَ القواعد التوليدية، وطوَّرَ نوعًا معينًا من القواعد التوليدية تُسمى القواعدَ التحويلية، ورفضَ تشديد من سبقوه من اللغوين على وصفِ البيانات -وذلك لصالح منهج نظري جدًّا مستند إلى البحث عن مبادئ عالمية للغة (سميت لاحقًا بالقواعد العالمية)– واقترحَ توجيه علم اللغة بثباتٍ نحو القواعد النحوية العقلية، ووضعَ الأساس لدمج هذا المجال في العلوم الإدراكية الجديدة غيرِ المُسماة بعد.

أثارت أفكارُ (تشومسكي) جيلًا كاملًا من الطلاب، وأصبح تأثيره اليوم أمرًا واقعًا؛ إذ يُشكلُ متِّبعو اللغويات التشومسكية مجموعةً كبيرةً ومثيرةً على نحو بارزٍ في مجتمع اللغويين إلى درجة أن غير المختصين يتولَّد لديهم الانطباع غالبًا بأن اللغويات هي اللغويات التشومسكية ذاتها على الرغم من أن هذا الأمر مُضلِّل جدًّا، وفي الواقع لن يعترف معظمُ علماء اللغة في العالم بفضْلِ (تشومسكي) إلا على نحو مُبهم، هذا إذا اعترفوا أساسًا.

في النصف الأخير من القرن العشرين، سيطرتْ اللغويات التشومسكية على معظم فروع علم اللغة باستثناء علم دلالات الألفاظ semantics، على الرغم من اقتراح العديدِ من المنهجيات البديلة، واشتركت كلُّ هذه البدائلِ في الافتراض بأنَّ النظرية اللغوية المُرضية يجب أن تنطبق من حيث المبدأ على جميع اللغات.

من المنهج السلوكي إلى المنهج العقلي

يجبُ النظرُ إلى الطبيعة الثورية الخاصة باللغويات التشومسكية عبر إطار "ثورةٍ" أخرى، في علم النفس، تتمثَّل بالانتقال من المنهج السلوكي إلى الإدراكي. يُرجِع (جورج ميلر) هذا التحولَ في الأنموذجِ إلى مؤتمرٍ عُقد في معهدِ ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT في العام 1956 شاركَ فيه (تشومسكي). فقد تطوَّر (تشومسكي) من المنهج السلوكي إلى العقلي بين كتابيه "البنى النحوية" و"جوانب من نظرية النحو"، مما جعل اللغويين النفسيين يأخذون في الحسبان العلاقةَ بين البنية العميقة deep structure والبنية السطحية surface structure في أثناء معالجة اللغة، لكن النتائج لم تكن واعدة جدًّا، وبدا أن (تشومسكي) نفسه قد تخلى عن الواقع النفسي بصفته عاملًا مهمًّا في التحليل اللغوي، وقد قاده تركيزه على الحدس إلى تفضيل المنهج العقلاني على التجريبي، والبنى الفطرية على السلوك المُكتسب. أصبح هذا التحوُّلُ البيولوجي -البحثُ عن عضوِ اللُّغة أو جهازِ اكتساب اللغة...إلخ- أساسَ علم اللغويات الجديدَ.

ومع مرورِ الوقت، وبالتعاون مع مجموعة متنوعة من الزملاء، عدَّل (تشومسكي) وجهاتِ نظره إلى حدٍّ كبير، سواءٌ فيما يتعلق بميزاتِ اللغة الفريدةِ –التي يجبُ أخذُها بعين النظر في أيٍّ من نظريات نشوء اللغة– أو فيما يخصُّ الآلياتِ الكامنة في تلك اللغة. منذُ التسعينيات، طوّر (تشومسكي) وزملاؤه ما أصبح يُعرفُ باسم "برنامج الحدِّ الأدنى" Minimalist Program، الذي يسعى إلى اختزال القدرة اللغوية إلى أبسطِ آليةٍ ممكنة، وذلك بالتخلُّصِ من الفروقات مثل التمييز بين البنى العميقة والسطحية، والتركيزِ بدلًا من ذلك على الكيفية التي يخلق بها الدماغُ القواعدَ التي تحكمُ إنتاجَ اللغة.

اللغويات التشومسكية برنامجٌ بحثي

اللغويات التشومسكية هي برنامج بحثي في علم اللغة، لذا ينبغي التفريق بينها وبين نظرية (تشومسكي) اللغوية؛ فعلى الرغم من أن (تشومسكي) هو من وضع النظريتين في أواخرِ الخمسينيات، فإن الاختلاف بين أهدافهما والتطوُّر الذي طرأ عليهما فيما بعد اختلافٌ كبير، فقد مرَّت نظريةُ (تشومسكي) اللغوية بعددٍ من المراحل في خلال تطورها، أما اللغويات التشومسكية فظلت مستقرةً في هذه الفترة، فهي لا تشيرُ إلى البنى اللغوية الشجرية، ولكنها تُحدِّد ما يجبُ أن تشرحَه النظريةُ اللغوية وكيف ينبغي تقييمُ هذهِ النظرية. تُحدِّد اللغويات التشومسكية موضوعَ الدراسة الخاص بها بأنه المعرفة اللغوية التي يمتلكُها المتحدث، وتُسمى هذه المعرفةُ بالكفاءة اللغوية أو اللغة الذاتية (الشخصية)، وهي لا تتأثر بالاستبطان الواعي والمباشر، ولكن يمكن ملاحظةُ مجموعةٍ واسعةٍ من تجليَّاتها واستخدامُها لتكون بياناتٍ لدراسة اللغة .

المصدر: 

هنا

Dirk Geeraerts، "Prototype Theory." Cognitive Linguistics: Basic Readings، ed. by Dirk Geeraerts. Walter de Gruyter، 2006

Robert Lawrence Trask and Peter Stockwell، Language and Linguistics: The Key Concepts، 2nd ed. Routledge، 2007)

Jaap Maat، "General or Universal Grammar From Plato to Chomsky." The Oxford Handbook of the History of Linguistics، ed. by Keith Allan. Oxford University Press، 2013

Malcolm D. Hyman، "Chomsky Between Revolutions." Chomskyan (R)evolutions، ed. by Douglas A. Kibbee. John Benjamins، 2010

Ricardo Mairal Usón، et al.، Current Trends in Linguistic Theory. UNED، 2006

Ian Tattersall، "At the Birth of Language." The New York Review of Books، August 18، 2016

Pius ten Hacken، "Formalism/Formalist Linguistics." Concise Encyclopedia of Philosophy of Language and Linguistics، ed. by Alex Barber and Robert J. Stainton. Elsevier، 2010