البيولوجيا والتطوّر > بيولوجي

أسرار الحياة القديمة في بحيرات القارة القطبية

في أثناء تنقيب الباحثين في إحدى بحيرات القطب الجنوبي على عمق أكثر من 600 كيلومتر؛ حدثت المصادفة بأن وجدوا آثارًا لكائناتٍ عاشت قبل فترة طويلة جدَّا محفوظة ضمن جليد تبلغ ثخانته قرابة كيلومتر.

ضمت تلك البقايا كائنات من القشريات وبطيئات الخطو مثل دب الماء tardigrade (يمكنك العودة لمقال سابق لتعرف مزيدًا عن هذا الكائن العجيب هنا

وكانت الكائنات بالغة الصغر لدرجة أن حجمها أصغر من بذور الخَشخاش، وُجدت هذه البقايا ضمن بحيرة واقعة تحت الجليد سُميَّت بحيرة Mercer وهي تجمُّع مائي بقِيَ دون اكتشاف على مدى سنينَ طويلة.

لم يتمكَّنِ الباحثون سابقًا من رؤية هذه البحيرة مباشرة، وإنما علِموا بوجودها عن طريق أجهزة رادارعابرة للجليد ice-penetrating radar وتِقنيات بعيدة المدى ذات حساسية عالية ضمن الجليد؛ لكن كل ذلك تغيَّر عندما تمكَّنت بَعثة استكشافية في السادس والعشرين من ديسمبر/ كانونَ الأول من صنع مدخل عبر الجليد عن طريق إذابته للوصول إلى الماء الموجود تحته عن طريق تمويل مؤسسة العلوم الوطنيَّة التابعة للولايات المتحدة الأمريكية.

 

عندما تعمَّق الباحثون في التنقيب ضمن الجليد والتدقيق في العينات المكتشفة أدركوا أن الوحوش التي كانت تعيش في البحيرة فيما مضى كانت كائناتٍ محبة لليابسة ولا تجيد السباحة، في حين كان دبُّ الماء من الأنواع التي تعيش في التربة الرطبة. والشيء اللولبي الذي كان يشبه الديدان كان في واقع الأمر نباتات أو فطريات تنمو على اليابسة، وعلى الرغم من أن الباحثين لم يتمكَّنوا من استبعاد احتمالية أن القشريات والتي تُصنَّف كائناتٍ تعيش أصلًا في المحيطات، ربما جاءت من بحيرات صغيرة مغطَّاة بالجليد.

 

يعتقد الباحثون أن المخلوقاتِ عاشت في هذه البركة والجداول ضمن الجبال العابرة للقارات القطبية(1)على بعد 50 كم من بحيرة Mercer في أثناء الفترة التي كان فيها المناخ دافئًا؛ إذ ذابت الأنهار الجليدية منذ 10000 سنة مضت أو 120000 عام، وعندما أصبح المناخ أكثر برودة لاحقًا أدى وجود الجليد إلى تجميد أشكال الحياة في تلك الواحات وإنهائها، وأمَّا عن كيفيّة وصول القشريات ودببة الماء إلى بحيرة Mercer فهو أمر لا يزال محطَّ جدل.

 

كيف نتمكّن من الحصول على إجابات؟

يعمل الباحثون جاهدين من البعثة الاستكشافية على تحديد أعمار البقايا والكائنات التي وجدوها؛ باستخدام تقنيات قراءة التاريخ عن طريق الكربون المُشع التأريخ بالكربون  (2)carbon dating وإيجاد تسلسلاتِ شيفرة الحمضِ النووي المنقوص الأوكسيجين DNA.

إن جمع النتائج عن جميع التفاصيل التي تخص تلك الكائنات يمكن أن يُسهم في كشف مزيد عن الفترات الماضية وما مدى تراجع الأنهار الجليدية في القارة القطبيّة منذ ألفِ سنة خلت.

في حالة بحيرة Mercer؛ فإنَّ الأنهار الجليدية جرفت بقايا الحيوانات والفطور من على الجبال لتنقلها إلى الأسفل نحو البحيرة؛ أو ربما قد تكون هذه الكائنات قد تجمَّدت بفعل الجليد في قاع هذه الأنهار وبعد ذلك سُحبَت بعيدًا عن الجبال، ويمكننا القول أنَّ الحل لفهم تاريخ الجبال العابرة للقارة القطبية يقبع مدفونًا في قعر بحيرة على عمق 50 كلم.

كيف حدث الاكتشاف؟

عندما فحص أحد الباحثين العينات التي أُخذت من قاع البحيرة وجد آثارًا من أنواع الطحالب النهرية Diatoms التي تمتلك خصائص التركيب الضوئي؛ إذ عاش هذا النوع من الطحالب ومات منذ ملايين السنين عندما كان مناخ القطب الشمالي أكثر دفئًا وقد غَطى المحيط الخالي من الجليد تلك المنطقة التي شكَّلت الآن بحيرة Mercer؛ لكن ذلك الباحث لاحظ شيئًا غريبًا بين شقوقِ صدفة الدياتوم الزجاجية، كانت قشرة شبيهة بقشرة قريدس البحر مع الأقدام وهي لا تزال متصلة بجسم هذا الكائن، وكانت بقايا هذا الكائن مبقعة وزائلة اللون أشبه بورقة شجر قديمة.

اكتشف علماء المستحاثات لاحقًا كِسرات من بقايا القشريات الميتة، وقد كانت محفوظة في الكهرمان، ولا تزال متماسكة مع وجود أشعار أنيقة على جسدها، ويقول الباحث Harwood من فريق البعثة بأن تلك العينة بدت وكأنها لا تزال على قيد الحياة وكذلك فإن عَيش هذه الكائنات ضمن هذا الحيز المظلم من المياه معزولة عن العالم الخارجي يبدو أمرًا معقولًا وغريبًا في آنٍ معًا.

إن العينات التي حصلوا عليها من بحيرة Mercer هي عينات مثالية وقد حُفِظت حفظًا ممتازًا ومنحتِ الباحثين فرصةً مهمة للحصول على معلومات أكثر تفصيلًا عن بيئة القارة القطبية فيما مضى وتعاقبات المناخ الذي أحاط بها والمدة التي عاشت ضمنها هذه الكائنات ونوعية البيئة التي احتاجت إليها.

كيف تمكنت الكائنات من العيش في هذه البقعة المعزولة؟

احتوت العينات من مياه البحيرة على كَمية كافية من الأوكسجين تُمكِّن الحيوانات المائية من العيش، وكانت العينة مليئة بالبكتيريا أيضًا؛ إذ احتوت على أقل تقدير 10000 خلية ضمن المليليتر الواحد، وقد تساءل أحد الباحثون فيما إذا كانت تلك الحيوانات الصغيرة التي عاشت في المحيط اعتمدت على البكتيريا في غذائها.

وُضِعَت عدة تفسيرات لكيفية وصول تلك الكائنات إلى بحيرة Mercer.

منها أنه منذ 5 إلى 10 آلاف سنة ترققت طبقة الجليد التي كانت تغطي منطقة القطب فترة وجيزة مما سمح لمياه البحر أن تتقدَّم ناحية القطع الجليدية الطافية التي كانت ثخانتها تبلغ مئات الأمتار لتصل ما يُسمَّى الآن بحيرة Mercer، ولم يحالف الحظ أي حيوان الوصول إلى المحيط، ليُحاصر بعدها ضمن جيوب الماء التي تشكَّلت عندما زادت سماكة الصفائح الجليدية وبعد ذلك بقيت هذه الحيوانات متجمدة على أرض البحر.

هل يوجد حدث مشابه لما حدث في بحيرة Mercer؟

يعرف العلماء حدثًا مماثلًا حدث في الطبيعة في أجزاء أخرى من القارة القطبية وإن كان أقل غرابةً من الذي حدث في بحيرة Mercer؛ إذ أدى الارتفاع التدريجي للقارة إلى تحويل الخلجان الضحلة إلى بحيرات منعزلة، ويبدو أن القشريّات تمكّنت من العيش آلاف السنوات في بعض هذه البحيرات محتجزةً معظم الوقت تحت أمتار وأرطال من الجليد.

ولا تزال تلك البحيرات المغطاة بالجليد تتلقى أشعة شمس خافتة جدًّا لتحصل القشريات بذلك على الطحالب غذاءً لها؛ لكنَّ البحيرات تحت الجليد مثل بحيرة Mercer تُعدُّ بيئة قاسية للعيش؛ إذا لا يخترق ضوء الشمس الغطاء الجليدي هنا، لذا فالبكتيريا عاشت بالاعتماد على المعادن والمادة العضوية من كائنات البلانكتون المجهري والدياتوم diatom التي عاشت منذ ملايين السنين عندما كانت البحيرة جزءًا من المحيط المفتوح، ولا يعتقد معظم علماء الأحياء بأن البكتيريا كانت قادرة على النمو والتكاثر بالسرعة الكافية لتؤمن غذاءً لأصغر الحيوانات المائية.

أنهى علماء بعثة SALSA عملهم وأغلقوا حفرة الجليد، وفي أثناء عودتهم إلى بلادهم سيتابعون العمل على مشروعهم واستكمال خطوات التأريخ وتحديد أعمار البقايا المكتشفة، وسيحاولون أيضًا اكتشاف إذا كانت القشريات حقًّا من الأنواع البحرية أم أنها من بالأصل من كائنات المياه العذبة.

ويظلُّ السؤال عالقًا في أذهان الباحثين المشاركين في الدراسة:

هل ما يزال من الممكن وجود حياة تحت الجليد في الوقت الحالي؟ ربما ستتمكَّن البعثات القادمة من إيجاد إجابات لهذا التساؤل.

(1)الجبال العابرة للقارات القطبية؛ نظام جبلي يقسم القارة القطبية الجنوبية إلى منطقة شرق (شرق القارة القطبية الجنوبية) ومنطقة غربية (غرب القارة القطبية الجنوبية).

(2) carbon dating: استخدام النظائر المشعة، وتحديد عمر النصف فيها للكشف عن العمر الحقيقي

المصادر:

هنا

هنا

هنا