الاقتصاد والعلوم الإدارية > اقتصاد

حوكمة الشركات

أصبحت حوكمة الشركات من المصطلحات الأكثر شيوعًا في قاموس الأعمال العالمي الحديث؛ فقد أوجد مفهوم الحوكمة ذاته وفرض نفسه بعد سلسلة من الأزمات والانهيارات والفضائح التي طالت كُبَرى الشركات في العالم، والتي خلقت الكثير من التساؤلات عن مصداقية البيانات التي تصدر عن الشركات، ومدى إمكانية الاعتماد عليها في اتخاذ القرارات، وهذا يعود بنا في القصة إلى بدايتها..

 

كيف نشأت الحوكمة؟

يعود مفهوم الحوكمة إلى أوائل القرن التاسع عشر؛ إذ تناولتها بعض نظريات التنظيم والإدارة، وكان هدف الحوكمة الرقابةَ على الشركات وإرضاء أصحاب المصالح الذين كانوا يعينون المدراء المختلفين لإدارة مصالحهم.

ثمَّ ظهرت الثورة الصناعية وما أعقبها من انفصال الملكية عن الإدارة، وظهور مشكلة الوكالة التي تنشأ غالبًا نتيجة تعارض المصالح بين الإدارة والمساهمين؛ كلُّ ذلك أدى إلى زيادة الاهتمام والتفكير في ضرورة وجود مجموعة من القوانين واللوائح التي تعمل على حماية مصالح المساهمين، والحدِّ من التلاعب المالي والإداري الذي قد تعمد إليه الإدارة بهدف تعظيم مصلحتها الخاصة، نظرًا لكونها الجهة التي تمسك بزمام الأمور داخل الشركة.

وفي عام 1976م، بدأ كلٌّ من "Jensen & Mackling" بالاهتمام بمفهوم حوكمة الشركات وإبراز أهميته في الحدِّ من المشكلات التي قد تنشأ نتيجة الفصل بين الملكية والإدارة؛ والتي مثَّلتها نظرية الوكالة.

ولحق ذلك مجموعةٌ من الدراسات العلمية والعملية التي أكَّدت على أهمية الالتزام بمبادئ حوكمة الشركات وأثرها في زيادة ثقة المساهمين في الإدارة، ومن ثمَّ قدرة الدول على جذب مستثمرين جدد محليين أو أجانب، وما يترتَّب على ذلك من تنمية اقتصاديات تلك الدول.

إضافةً إلى اعتماد العديد من دول العالم إصدار مجموعة من اللوائح والقوانين والتقارير التي تؤكِّد على أهمية التزام الشركات بتطبيق تلك المبادئ.

 

مفهوم حوكمة الشركات (Corporate Governance):

تُرجم مصطلح "Corporate Governance" في بدايته إلى اللغة العربية بمعنى الإدارة الرشيدة أو الحازمة. وفي عام 2002م، اعتمد مجمع اللغة العربية كلمةَ الحوكمة بوصفها ترجمةً ل"Governance"، وأصبحت مُستخدمة منذ ذلك الوقت في معظم التراجم والكتابات العربية.

ويختلف مفهوم حوكمة الشركات باختلاف الجهة التي يُنظر بواسطتها إلى هذا المفهوم؛ فهناك من ينظر إلى هذا المفهوم من الناحية الاقتصادية؛ إذ ينظر الاقتصاديون إلى حوكمة الشركات على أنَّها آليةٌ يمكن عن طريقها زيادةُ كفاءة استخدام الموارد المتاحة، وتعظيم قيمة الشركة، وتدعيم قدرتها التنافسية بما يمكِّنها من جذب مصادر التمويل اللازمة للتوسُّع والنمو؛ ما يجعلها قادرة على خلق فرص عمل جديدة وتحقيق استقرار أسواق المال والأجهزة المصرفية.

وهناك من ينظر إلى هذا المفهوم من الناحية القانونية؛ ذلك أنَّه يحكم طبيعة العلاقة بين الأطراف المختلفة مثل حملة الأسهم، والإدارة التنفيذية، ومجلس الإدارة، والبنوك، والموردين، وغيرهم من أصحاب المصالح.

في حين ينظر إليه البعض من الناحية الاجتماعية أو الأخلاقية؛ لما له من دور في حماية حقوق الأقلية، وتحديد مسؤولية الشركات الاجتماعية.

 

وفيما يأتي مجموعة من التعريفات المتعلِّقة بمفهوم "حوكمة الشركات":

فقد عرَّفته منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) بأنَّه "النظام الذي يوجِّه  أعمال الشركة ويضبطها، ويصف الحقوق والواجبات ويوزَّعها بين مختلف الأطراف في الشركات؛ مثل مجلس الإدارة، والإدارة التنفيذية، والمساهمين، وأصحاب المصالح، ويضع القواعد والإجراءات اللازمة لاتخاذ القرارات الخاصة بشؤون الشركة، إضافةً إلى أنَّه يضع الأهداف والإستراتيجيات اللازمة لتحقيقها، وأسس المتابعة لتقييم الأداء ومراقبته".

 

في حين عرَّفته مؤسسة التمويل الدولية (IFC) بأنَّه "النظام الذي تكون به إدارة الشركات والتحكُّم في أعمالها".

 

وقد عرَّف معهد المدقِّقين الداخليين (IIA) حوكمة الشركات بأنَّها "عمليات تُوضع بواسطتها إجراءات يستخدمها أصحاب المصالح لتوفير الإشراف على المخاطر وإدارتها بواسطة الإدارة، ومراقبة مخاطر المنظمة، والتأكيد على كفاية الضوابط الرقابية لتجنُّب هذه المخاطر؛ ممَّا يؤدي إلى المساهمة المباشرة في إنجاز أهداف المنظمة والحفاظ على قيمها".

 

أمَّا لجنة بورصة الأوراق المالية (SEC) فقد عرَّفت حوكمة الشركات بأنَّها "مجموعة من العمليات التي لا غنى عنها لتحقيق الفعالية السوقية، فهي تُعدُّ بمثابة صلة الوصل بين إدارة المنظمة ومديريها، ونظام التقارير المالية فيها".

 

أهمية الحوكمة:

تتجَّلى أهمية حوكمة الشركات في كونها أداةً جيدة تتيح للمجتمع التأكُّد من حسن إدارة الشركات بأسلوب علمي وعملي يمكن عن طريقه توفير الحماية لحقوق المساهمين، وتوفير إفصاح ملائم ومعلومات عادلة وشفَّافة للأطراف كافة ذات المصالح.

ويمكن أن نوضِّح أهمية الحوكمة في النقاط الآتية:

1.  تمكِّن من رفع الكفاءة الاقتصادية بوضع أسس للعلاقة بين مديري الشركة ومجلس الإدارة والمساهمين.

2.  تعمل على وضع الإطار التنظيمي الذي يمكِّن بدوره من تحديد أهداف الشركة وسُبل تحقيقها بالحوافز المناسبة لأعضاء مجلس الإدارة والإدارة التنفيذية لكي يعملوا على تحقيق أهداف الشركة التي ترعى مصالح المساهمين.

3.  يسهم تطبيق الحوكمة -بالانفتاح على أسواق المال العالمية- في جذب قاعدة عريضة من المستثمرين لتمويل المشاريع التوسُّعية.

4.  تحظى الشركات التي تطبِّق الحوكمة بزيادة ثقة المستثمرين؛ لأنَّ تلك القواعد تضمن حماية حقوقهم مثل حقِّ التصويت، وحقِّ اختيار أعضاء مجلس الإدارة، وحقِّ المشاركة في القرارات التي تؤثِّر في أداء الشركة.

5.  توفِّر الحوكمة الثقةَ والمصداقية في التقارير المالية الصادرة عن الشركات؛ الأمر الذي يعكس جودة المعلومات المحاسبية، وإمكانية اعتماد أصحاب المصالح عليها في اتخاذ القرار الاستثماري المناسب.

 

أهداف الحوكمة:

تهدف قواعد الحوكمة وضوابطها إلى تحقيق الشفافية والعدالة، ومنح حق مساءلة إدارة الشركة، ومن ثمَّ تحقيق الحماية للمساهمين وحملة الوثائق جميعهم، مع مراعاة مصالح العمل والعمَّال، والحدِّ من استغلال السلطة في غير المصلحة العامة بما يؤدِّي إلى تنمية الاستثمار وتشجيع تدفُّقه، وتنمية المدَّخرات وتعظيم الربحية وإتاحة فرص عمل جديدة.  وتؤكِّد هذه القواعد على أهمية الالتزام بأحكام القانون أيضًا، والعمل على ضمان مراجعة الأداء المالي، ووجود هياكل إدارية تمكِّن من محاسبة الإدارة أمام المساهمين، مع تكوين لجنة مراجعة -من غير أعضاء مجلس الإدارة التنفيذيين- تكون لها مهامٌ واختصاصات وصلاحيات عدَّة، لتحقيق رقابة مستقلة على التنفيذ.

 

معايير الحوكمة وقواعدها:

نظرًا للاهتمام المتزايد بمفهوم الحوكمة؛ حرصت العديد من المؤسسات على دراسة هذا المفهوم وتحليله، ووضع معايير محدَّدة لتطبيقه؛ وأبرزها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، ومؤسسة التمويل الدولية (IFC).

   

معايير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية:

وفقًا لتعريف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)؛ يتكوَّن الإطار العام لحوكمة الشركات من المبادئ الأساسية الستة الآتية:

1.  ضمان وجود أساس لإطار فعَّال للحوكمة: إذ يجب أن تشجِّع الحوكمة على شفافية الأسواق وكفاءتها، وأن يكون هذا الإطار متوافقًا مع حكم القانون، وأن يحدِّد -بوضوح- توزيع المسؤوليات بين مختلف الجهات الإشرافية والتنظيمية والتنفيذية.

2.  حقوق حملة الأسهم: يجب أن يحمي إطار القواعد المنظِّمة لحوكمة الشركات حقوقَ المساهمين، ويسهِّل ممارستهم لها.

3.  معاملة عادلة لحملة الأسهم: يجب أن تتضمَّن قواعد حوكمة الشركات المساواةَ في معاملة المساهمين؛ بما في ذلك الأقلِّية والأجانب منهم، ويجب أن يحصل المساهمين على تعويضات كافية في حال انتهاك حقوقهم أيضًا.

4.  دور أصحاب المصالح: يجب أن يقرَّ الإطار الخاص بالقواعد المنظِّمة لحوكمة الشركات بحقوق أصحاب المصالح كما هي محدَّدة في القانون، وأن يشجِّع التعاون الفعَّال بين الشركات وأصحاب المصالح في الشركة؛ لخلق الوظائف وتوفير الاستمرارية للشركات السليمة ماليًّا.

5.  الإفصاح والشفافية: يجب أن يؤكِّد إطار القواعد المنظِّمة لحوكمة الشركات على الإفصاح السريع والدقيق للبيانات كافة المتعلِّقة بأمورالشركة المادية؛ بما في ذلك الموقف المالي، والأداء، والملكية والرقابة على الشركة.

6.  مسؤوليات مجلس الإدارة: يجب أن يؤكِّد إطار قواعد حوكمة الشركات على إستراتيجية رئاسة الشركة والرقابة الفعَّالة لمجلس الإدارة على إدارة الشركة، ومسؤولية مجلس الإدارة أمام الشركة والمساهمين.

معايير مؤسسة التمويل الدولية:

وضعت مؤسسة التمويل الدولية التابعة للبنك الدولي في عام 2003م توجيهاتٍ وقواعد ومعاييرعامة تراها أساسية لدعم الحوكمة في المؤسسات على تنوِّعها؛ سواء كانت مالية أو غير مالية، وذلك على مستويات أربعة وفق الآتي:

1. الممارسات المقبولة للحكم الجيد.

2. خطوات إضافية لضمان الحكم الجيد الجديد.

3. إسهامات أساسية لتحسين الحكم الجيد محليًّا.

4. القيادة.

ووفقًا لما استعرضناه؛ نجد أنَّ الحوكمة في نهاية المطاف تعمل على تحسين أداء الشركات، وتخفيض تكلفة مصادر التمويل عن طريق تحقيق مبدأ الشفافية والإفصاح، وتساعد على جذب الاستثمارات المحلية والأجنبية أيضًا، فضلًا عن الحدِّ من هروب رؤوس الأموال إلى الخارج؛ ما يعني تعزيز قدرة الاقتصاد ونموه وتطوِّره.

المصادر:

  هنا

هنا

هنا   هنا      هنا

·         "المحاسبة الإدارية والإدارة المالية"، 2014، المجمع الدولي العربي للمحاسبين القانونيين، عمان، الأردن.

·         درويش، عدنان، "حوكمة الشركات ودور مجلس الإدارة"،2007، اتحاد المصارف العربية، بيروت، لبنان.