كتاب > الكتب الأدبية والفكرية

موطن الشيطان داخل النفس البشرية

الفيلسوف البريطانيُّ برتراند راسل 1872-1970 الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1950، وعالم منطق ورياضيٌّ ومؤرخ وناقد اجتماعيٌّ، ويُعدُّ من أهمّ المفكرين والفلاسفة المعاصرين الذين قدَّموا للبشرية جمعاء منطلقات عقلانية فاعلة في الأفكار الإنسانية، وكان من المهتمين بتحليل الوجود والموجودات إلى أبسط الأشكال الفلسفية.

وتُشرع الصفحات الأولى من الكتاب في سرد السيرة الذاتية للفيلسوف راسل، ويتناول المترجم مجموعة من المقالات التي تتحدَّث عن مسيرة راسل الفكرية قبل الحرب العالمية وبعدها، ومواجهته الآراء والانتقادات الشعبوية والحكومية على حدٍّ سواء، ويُشير إلى أهمِّ أطروحات راسل على امتداد أربعين صفحة من الكتاب ليتشرَّب القارئ النهج الفكري لراسل قبل الشروع في ملحمته هذه "الشيطان على الأرض"؛ لضرورة تفهُّم الصور المجازية والفلسفية المُقدَّمة بين السطور.

وتبدأ أولى حكايات راسل "مغامرات مثيرة تحت الطَّلب" مع المُتلصِّص على عيادة الدكتور ملاكو وضحاياه، وهذا الدكتور هو الشيطان الأول في الكتاب؛ شيطانٌ غريب الأطوار؛ لقدرته على التحكم بأفكار المُراجعين في عيادته الغامضة عن طريق قصص يختلقها من خياله فيؤثِّر فيهم؛ وذلك بعد أن يقول لضحيَّته: "كان لي صديق يمرُّ بموقفك ذاته بالضبط، ولكنَّه قد.. إلخ"؛ بغية أن يستخلص الرذيلة الساكنة في عمق مظلم في داخل كلٍّ منهم، ولا تحتاج "تلك الرذيلة" إلا إلى صوت الشيطان كي تُظهر مخالبها، وتوقظ الطَّمع، وتُسقط كلَّ المبادئ نحو الظلام الذي خرجت منه، وحتى من كانت تسيطر على حياته أقصى اعتبارات الاستقامة والنزاهة قد يتأثَّر بمثالب الرذيلة ليقع في أحضان الشيطان.

ويُحاول المؤلف هنا أن يَنبش الناحية السوداء من النفس البشرية؛ تلك المحكومة بالطمع خاصةً، ويسعى لتجسيد الصراع بين المثاليات الظاهرة لكلِّ شخصية مع الباطن المهزوز بوسوسة الشيطان، فتتسرَّب هذه الفلسفة إلى الصراع مع أنواع مختلفة من الشخصيَّات النزيهة؛ فمدير بنك ذو تاريخ يُشهد له، وقِسٌّ مسيحيٌّ يعمل في التبشير الدينيِّ، ومصورٌ فوتوغرافيٌّ مُحترف ومتفوق في حياته المهنية، وزوجة مُصمِّم طائرات مشهور ولكنَّ الضَّجر ينهش حياتها الزوجية؛ هذا ما يجعل المؤلف يخوض بين نقيضين من الاتجاهات الفكرية ليترك لنا اكتشاف العُمق البشري وطبيعة اختياراته وإغوائه، ويُجسِّد المؤلف في شخصية المُتلصِّص الذي يُصاب بالكره للجنس البشري بعد ما رصده من خُبث به وهو يستمع إلى قصص ضحايا الشيطان في محاولة لتحقيق الخلاص لهذا العالم من خطاياه وعبثيته، وذلك عن طريق محاولة ذكية لقتل كلِّ أثر للحياة على كوكب الأرض؛ ليحلَّ حوار مشوِّق بينه وبين الشيطان أخيرًا، قبل أن يُنهي المسألة بعبرة تُغرَز في ذهن القارئ حتى العُمق، فهذا الحوار يتسرَّب إلى مواضيع عدَّة عن الحروب وعمل الشيطان وحقيقته "بمجازية واضحة"، لتنتهي رحلة راسل الفلسفية في قسمه الأول من الكتاب.

ذلك الخوف الغريزيُّ المُتشبِّث بِنا؛ يتناول راسل هذه المسألة من منظور وجداني عميق عن طريق رسالة فكرية قصيرة يتطرَّق فيها إلى طرائق الهروب من هذا الرعب الكامِن في النفس البشرية، إضافةً إلى أنَّه يتناول الأهداف الثلاثة التي تحمينا من هذا الشبح، ويُعامل المؤلف في رسالته هذه التفاصيل الحياتية للأطفال والشباب المُتصادمين مع المعتقدات الدينية والفلسفات المُتعدِّدة، وأثرَ هذا التصادم فيهم، ولا سيما أولئك الأطفال الذين فقدوا عزيزًا عليهم دون أن يبرِّر أحدٌ لهم مفهوم "الموت" وفق ما يجب.

"العالم كلُّه يشعر اليوم بأنَّه مندفع بقوة لا مردَّ لها في طريق مؤدية إلى كوارث ماحقة".

برتراند راسل

يناقش راسل اليأس البشري المُتفشِّي في العالم، وما يقود البشرية إلى الاعتقاد أنَّ إرادتهم محتومة بالقَدر فحسب؛ فهذا الاتجاه الفكري -في رأيه- نابع من الكسل أو الوهم المُتربِّص بمفاصل التفكير البشريِّ، على أنَّها محاولة لتبرير الحروب والمجازر التي اندلعت نيرانُها بسبب البشر وليس الأقدار؛ ولهذا يُعبِّر عن اسم هذا القسم من الكتاب بعالمنا المجنون عن طريق  تفسيره قوة الأطراف العالمية والخوف من حرب عالمية جديدة تُنهك ما تَبقى من إنسانيَّتنا، ليتسرَّب بعدها إلى إستراتجية التفكير القائمة من السياسات العُظمى؛ فلن يُكتب النصر لأحد عن طريق الأسلحة الذَّرية، بل سيُكتب الدمار، ولا شيء غيره. ومع أنَّ هذه الحقيقة واضحة مثل عين الشَّمس إلا أنَّ عالمنا المجنون يسير في اتجاهها دائمًا.

وينتقل راسل إلى واحدة من قصص ستالين ولجنة تضمُّ البارزين في طائفة الكويكرز؛ وهي طائفة دينية تدعو إلى قوة المحبَّة والاتجاه دائمًا نحو التوبة، وأنَّ السعادة تكمن في سعادة غيرنا؛ "الحبُّ يقهر كلَّ شيء"، ويختم هذا القسم بتعبير صارخ عن غضب ستالين الذي رفض كلَّ دعوات الحبِّ والمغفرة.

ويشرع المؤلف في قسم "انتصار الوجود" مع قصيدة للشاعر والفيلسوف "بورفيراجلانتين" بعنوان "أنشودة العدم"؛ لتكون مدخلًا لتفهُّم الظروف التي كُتبت هذه القصيدة فيها، وما تنطوي عليه من ألم وسوداوية، ويتناول برتراند راسل في قسم "التكيُّف والهروب" تحليلاً نفسيًّا لأعمال شكسبير أيضًا، وهذا عن طريق شخصية "ماكبث" التي تروي حلمها الغريب للطبيب "بومباستيكوس"، ويُجسِّد هذا الحلم الغريب حوارًا فلسفيًّا بين ماكبث وعدد من التماثيل "التي تُعبِّر عن أعمال شكسبير"؛ فيتناول المؤلف تيارًا فكريًّا عن معاندة مثالب العدم والألم، وكيفية التأقلم والهروب من فوضى المرض والكآبة؛ ممَّا يفسِّر أعمال شكسبير من رؤية مختلفة.

وفي قسم "زوجة حائرة" يذكر لنا راسل كتاب "شكسبير الأسرى" للكاتب "باودلر"، ليقدِّم قصة قصيرة تدور في محور صراع العفَّة والطهارة مع الدنس والفسق، لينتقل بنا بعدها إلى تجربة أستاذ الفلسفة "آندريه بومبلوفسكي" في قسم "حلم عالم ميتافيزيقيٍّ" الذي كان وصفًا مشوشًا للجحيم وطرائق التعذيب لعدد من الفلاسفة والخطباء الذين دأبوا وهم على قيد الحياة على استخدام بلاغتهم في التأثير في الجماهير، وكيف يحتل الشيطان مكانه في قلب الجحيم ولا يسمح بالمثول في حضرته إلا للبارزين من الملعونين، ويقودنا المؤلف إلى أدقِّ تفاصيل هذا الحلم الميتافيزيقيِّ؛ ليُعلن الحوار بين الشيطان والفلاسفة في الوجود واللاوجود، وينهي هذا العمل الفلسفيَّ برسالة إنسانية في غاية الأهمية إلى المجتمع البشريِّ، في قسم "اصنع مستقبلك".

معلومات الكتاب:

اسم الكتاب: الشيطان على الأرض

الكاتب: برتراند راسل

المترجم: خليل حنا تادرس

نُشر عبر: مكتبة السائح، لبنان، طرابلس

تاريخ النشر: 2017

عدد الصفحات: 175