كتاب > الكتب الأدبية والفكرية

عندما يقف الوجود في مواجهة اعترافات سيوران ولعناته

"أفضل طريقة للتخلُّص من عدوٍّ أن تمدحه في كُلِّ مكان، سَيُنقَل إليه ذلك، فَيَفقِد القدرة على الإساءة إليك؛ هكذا تكون قد حطَّمت دافعه، سيواصل التهجُّم عليك؛ ولكن، دون حماسة ولا دأب؛ لأنَّه كفَّ عن كراهيتك لا شعوريًّا، إنَّه مهزوم يجهل هزيمته."

إنَّ إميل سيوران 1911-1995 فيلسوف وكاتب رومانيٌّ، درَّس الفلسفة في معهد براسلوف، وحوَّل مرضه "الأرق" إلى وسيلة معرفية، حتى إنَّه أصدر كتابه الأول "على ذرى اليأس" عندما كان في سنِّ الثانية والعشرين، وهو الذي نُشِرعام 1934.

وقد عُرِف سيوران بأفكاره السوداوية ومحاربته أفكار الانتحار التي رافقته فترة طويلة، ويُعدُّ من أهمِّ الكُتَّاب والفلاسفة العدميين والأدباء السوداويين.

ويَشرَع الفيلسوف سيوران في هذا الكتاب في عرض مجموعة من الشذرات القصيرة المتجزِّئة في ستة أقسام مختلفة، وتتضمن هذه الشذرات الحديث عن أفكار جدلية رافقت حياته منذ الطفولة حتى غدا مُفكِّرًا وأديبًا وفيلسوفًا، وتتناول عديدًا من النواحي الوجودية والعدمية، والتعمُّق في النفس البشرية وإرادتها غير المبرَّرة للحياة والاستمرار، إضافة إلى أنَّه يتطرَّق إلى رؤيته الوهم الذي تعيشه البشرية تجاه مفهوم الوجود؛ لهذا عَمِل على التجريد الكامل من الوهم المبنيِّ على الوجود أو الصدقات أو الإرادة.

يعتمد سيوران في طريقة عرضه فلسفته طريقةَ الاختصار والمجابهة والنقد الحاد؛ وذلك عن طريق مقتبسات قصيرة لا تتعدَّى أسطرًا عشرة لكلِّ مُقتبس، ويتميَّز الكتاب بعمق شذراته الفلسفية التي تخوض في الباطن، وصعوبة فكِّ اعتبارات المُقتبس وإسقاطاته على الوجود البشريِّ، وقد اعتدنا على قدرته على اختصار أعمق الأفكار أيضًا عن طريق مقتبس يضرب على أوتار الحقيقة والوهم، والوجود والعدم، وفي عمق النفس البشرية.

ويتناول سيوران منذ القسم الأول "عند عتبة الوجود" مجموعة من الشذرات التي تَشرَع في أعماق الفلسفة الهندوسية والبوذية واليونانية واللاهوت الدينيِّ؛ فعلى سبيل المثال؛ يصف الفلسفة البوذية بأنَّها تبحث عن الخلاص، أمَّا اليونانية -باستثناء بيرون وإبيقور؛ فالأول هو مؤسس مذهب الشك والمعروف بالبيروية، والآخر هو الفيلسوف اليوناني ومؤسس المدرسة الإبيقورية- فوصفها بأنَّها مخيبة للآمال؛ فهي تبحث عن الحقيقة، وهذا -تبعًا لفلسفة سيوران العدمية- بحث عن حقيقة العدم، وليس عن معنى الوجود؛ ولهذا يرى أنَّ بعض الفلسفات التي تبحث عن الحقيقة مخيبة للآمال خلافًا للفلسفة الهندوسية التي تبحث عن الخلاص.

إضافة إلى أنَّه يتناول في هذا القسم واحدًا من الموضوعات الشائكة في المنحى الفلسفي والعلمي على حدٍّ سواء، وهي الإرادة الحُرَّة، فيقول: "الإنسان حُرٌّ إلا حين يتعلق الأمر بما هو عميق فيه. على السطح هو يصنع ما يريد، أمَّا في طبقاته المُعتمة، فإنَّ الإرادة لفظ خالٍ من أيِّ معنى."

ويُكمل المؤلف هذا القسم من الكتاب بالتعبير عن مواقف شخصية وشذرات تصف آراءه في عدد من الفلاسفة والكتَّاب الذين عاصرهم، ومن سبقوه بمئات وآلاف السنين، إضافة إلى أنَّ القسم الثاني من الكتاب "كسور" يحتوي على مجموعة من الشذرات الأدبية التي تصف الكتابة وأهميتها على مرِّ العصور، ويوضِّح العُمق الوجودي لها في حياته كذلك، ويرى سيوران أنَّ المترجمين الذين التقى بهم كانوا أكثر حنكة وذكاء من الكُتَّاب أنفسهم، ويصف ذلك بأنَّ حاجتنا إلى التفكير عند الترجمة أكثر ما نحتاج إليه عند الإبداع.

"ليس هناك غير الموسيقا لإنشاء شراكة لا تنفصم بين كائنين، فالعاطفة قابلة للفساد؛ تتلف مثل كل ما ينتمي إلى الحياة، أما الموسيقا، فهي من جوهر أرقى من الحياة، وبالنتيجة من الموت."

يرى الفيلسوف سيوران أنَّ كل العواطف ماثلة للفناء والتلاشي؛ ولهذا فإنَّ كل العلاقات القائمة على العاطفة هي قابلة للفساد، أمَّا الموسيقا، فهي وحدها أرقى من الحياة التي تسلبُ كل شيء نحو الفناء، والأدب مثل الموسيقا أيضًا؛ فيصف الفيلسوف سيوران حالته عندما انتهى من قراءة سيرة ذاتية لأحدهم أنَّه لم يستطع التفكير بأنَّ الشخصيات الموجودة لم تعد موجودة خارج هذا الكتاب، وبَدَت له الفكرة فوق طاقته على التحمُّل.

ويحاول رسول العدم سيوران في كتابه "اعترافات ولعنات" أن يُقدِّم مزيجًا ما بين الأفكار الدينية (اللاهوت على وجه الخصوص) وبين واقعه المحتوم بالسوداوية؛ فيلجأ إلى النظر إلى الله والأنبياء بطريقة مُغايرة؛ ومن هنا يروي مواقفه مع الكهنة وأساتذة اللاهوت؛ ليقدِّم صورة جديدة لكل الاعتبارات الدينية، وهذا يشمل الديانات والكتب المقدسة الهندوسية أيضًا، و"الفيدية" نسبةً إلى الفيدا التي تُعدُّ من أقدم النصوص في العالم.

ويغرق سيوران في القسم الثالث من الكتاب "قُبالة اللحظات" في اعتبارات أثر الوعي في النفس البشرية، ويُشير إلى لعنة الإدراك المُزمنة عن طريق تفسيره الحالات النفسية التي مرَّ بها، فيقول: "نمضي من فوضى إلى فوضى، هذا الاعتبار لا نتيجة مُعيَّنة له، ولا يمنع أحدًا من تحقيق مصيره، من الوصول في النهاية إلى الفوضى الكاملة."

ويَشرَع بالتحدُّث عن أقل التفاصيل التي يُحدثها الوعي في التفكير بوصفها لعنة مُزمنة، إضافة إلى وصفها من قبل على أنَّها المنفى وليست الوطن، وهذا لا يخلو من اعتبارات وجودية مرَّ بها؛ مثل تفسيره دموع الإعجاب، واللاواقع، والموسيقا، وهذا ما يترك القارئ في حيرة بين الوجود والعدم عند قراءة بعض الشذرات، وكأنَّها ملحمة فلسفية تضع أثقالها بين السطور. علمًا أنَّ سيوران نفسه قد أنهى حياته ناقدًا للفلسفة، إضافة إلى أنَّه عاش حياته ناقدًا فذًّا للمُفكرين والفلاسفة، والوجوديين منهم خاصة.

ويُنهي سيوران كتابه مع القسم الأخير "سُخْط" بغضب شديد تجاه كلِّ شيء، ويسعى إلى تقديم الجهة السوداء من كل اعتقاد راسخ؛ ولهذا  تُقلِّص معظم الشذرات -في هذا القسم- المفاهيم التي تدعو إلى الحياة، ويعتمد معظمها على رؤية سيوران المُتوجِّهة نحو مقاومة الوجود وزيف الدعوة إليه.

معلومات الكتاب:

العنوان: اعترافات ولعنات.

اسم الكاتب: إميل سيوران.

المترجم: آدم فتحي.

نُشِر عبر: منشورات الجمل، بيروت – بغداد، 2018.

عدد الصفحات: 151