كتاب > مفكرون وكتّاب

أنطون مقدسي "الأستاذ" شغف الثقافة السورية

يقول عباس بيضون (الشاعر والروائيُّ اللبنانيُّ والمسؤول عن القسم الثقافيِّ في جريدة السفير): "كان الثقافةَ نفسها دون حاجز، ولم يضع المقدسيُّ كتابًا، كان كتابه مكنوزًا فيه، بل كان كتابًا مفتوحًا في نفسه، ومن حضرَه فقد قرأ واستزاد وسأل وتلقَّى جوابًا. من حضر وسمع فكتاب المقدسي في رأسه، بل إنَّ رأسه كتابُ الكتب..، وأمَّا وقد رحل؛ فإنَّ التراب الذي يحويه سيحوي مكتبة ومحاكمات وخرائط فكرية وعوالم وخطابات.. سيحوي مشروعًا، بل مشاريع ثقافية كاملة؛ فقد كان الرجل يجمع في حديث واحد أفلاطون وهيديغر بارب وبيكاسو وشوينبرغ وأدونيس، وهو الذي كان يعلِّم -ليله ونهاره- حقَّ التعليم ويمنح أفكاره لكلِّ طالب".

إنَّ مقدسي  مُفكِّر وفيلسوف سوري (1914-2005)؛ وُلِد في مدينة يبرود شمال العاصمة دمشق، وتُوفِّي عن عمر يُناهز 91 عامًا، ليترك وراءه مجموعة من الأطروحات الفكرية والثقافية، وقد لُقِّب بـ "شيخ المثقَّفين السوريين" و"الأستاذ"؛ كونه كان أكثر من أديب وكاتب كبير؛ بل كان محاورًا فذًّا ومنارة ثقافية عالية أيضًا. تتوزَّع ثقافته بين الفلسفة والسياسة والأدب والفن والاقتصاد، وهو حاصل على إجازة في الفلسفة وشهادة في الأدب الفرنسيِّ من جامعة مونبيليه، إضافة إلى أنَّه نال شهادة الحقوق والعلوم السياسية في بيروت. وهو حاصل على جائزة الأمير كلاوس عام 2001، وجائزة من وزارة الثقافة السورية عام 2002، وجائزة تكريمية من وزارة الثقافة الفرنسية عام 2003 لنشره الأدب والثقافة في العالم. وكان له دور فاعل كبير في إغناء الثقافة السورية عن طريق آرائه وأطروحاته في مختلف الشؤون الفكرية.

إنَّها لطريقة سُقراطية عاشها المُفكِّر أنطون مقدسي؛ أن يُعلِّم ويتعلَّم ويبذل حياته في التفكير والتأمُّل ليوزِّع بطاقات الولوج إلى عالمه الثقافيِّ؛ فقد كان يرى أنَّ الثقافة هي المُحدِّد الأوَّل لسلوك المجتمع وقِيَمه وقدرته على فتح آفاق جديدة باستمرار، في الحين الذي كان ينظر فيه إلى الشِّعر على أنَّه طريق بين الحاضر الغائب والغائب الحاضر؛ فيشقُّ الإنسان به طريقه للتعرُّف إلى هويته القومية والإنسانية.

وقد عمل مقدسي جاهدًا لقَوْلبة الثقافة على أنَّها نمط حياة رفيع المستوى، إضافة إلى معاملتها على أنَّها الوسيلة الوحيدة للوصول إلى الإبداع والديموقراطية والحرية في المجتمع، وإلى آفاقٍ لا تنتهي من الحلول، وقد كان يُحاول إسقاط مفهوم الكليشات الجاهزة والمُردَّدة دائمًا أيضًا؛ فإنَّ الإديولوجيات -حسب رأيه- يجب أن تُؤسَّس على التطوير دائمًا، فلا يجب أن يكون المجتمع بمنزلة ببغاء يُردِّد دون وعي منه. وأن تؤسَّس على السعي إلى التطوير الثقافيِّ والإنسانيِّ أيضًا؛ ولهذا يرى أنَّ التلقين الثقافيَّ البحت لغاية ترديده فحسب هو ألدُّ أعداء الثقافة.

وقد عمل مقدسي على وضع علاقة وطيدة بين الأدب والفلسفة والرموز؛ إذ يجب أن يُتفاهم ويُندمج مع رموز التاريخ والحاضر؛ لنصنع مستقبلًا يفوقهم في ثقافته وحداثته.

فهو يرى أنَّ الفلسفة وُلِدت من مشكلة العدالة في المجتمع؛ أي الظلم. ويُعزي ذلك في مجمل كتاباته إلى فلسفة أفلاطون التي انطلقت ضدَّ الظلم والتمرُّد، ومن ذلك الحين؛ اتَّخذت الفلسفة طريقها للإجابة عن سؤال يستثير الآخر، وهكذا حتى يومنا هذا الذي يعتمد على العلوم النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحقوقية أيضًا؛ بغية تحقيق العدالة وإزاحة الظلم.

وكان مقدسي يرى أنَّ المشكلة في المجتمع العربي لا تكمن في تقليده الفكر الغربي أو الشرقي؛  بل كان من مناصري الحداثة بمفهوم ثقافيٍّ لا ينسلخ عن أصالته، ولكن؛ تكمن المشكلة -حسب رأيه- في طريقة التقليد ذاتها، وردَّة فعله عن الأحداث الراهنة. ويرى أنَّ الفكر الصحيح يجب أن يستبق الأحداث ويستثيرها لتخضعَ لإرادته عوضًا عن أن يخضع لها، إضافة إلى أنَّه طالب بضرورة المجتمع المدنيِّ والحرية الفكرية سبيلًا إلى ذلك.

وقد عمل أنطون مقدسي في وزارة الثقافة مسؤولاً عن مديرية الترجمة والتأليف منذ عام 1965 إلى غاية عام 2000، وقد أُسِّسَ اتِّحاد الكتَّاب العرب عام 1969؛ أي في أثناء تولِّيه مكانه في الوزارة، وقد ظلَّ عضوًا في مكتبه التنفيذيِّ حتى عام 1996.

وحقَّق مقدسي طموحه بأن يجعل إصدارات وزارة الثقافة أهمَّ إصدارات في الوطن العربي؛ إذ أدخل الحداثة وكافة التيَّارات النقدية إلى روح الثقافة السورية، وأشرف على ترجمة أهمِّ ما عرفته المكتبة العالمية منذ منتصف القرن الماضي.

وحدَّد مقدسي مَواطن الضعف في الفكر العربي عن طريق دراسة المرحلة التاريخية القائمة في سماتها وتحدِّياتها، وأجاز ذلك في أربعة محاور:

·    التقنية: ولم يقصد بذلك المجال الصناعيَّ فحسب؛ بل الرَّأي العام والأفكار والإنسان ذاته؛ فهو يرى أنَّ معاملتهم تستند إلى تخطيط مُسبق، وهذا ما سمَّاه بالطُّغيان لأجل غَسْل أدمغة الشعوب.

·    العلمية: حاول مقدسي تحليل المنهج العلمي المُتَّبع في الوطن العربي على أنَّه قاصر عن تحقيق التقدُّم المرجوِّ منه، وأنَّه يجب أن يكون أداة لتسخير الطبيعة لصالح الإنسان.

·    العالمية: يدعو مقدسي إلى مفهوم "التجريد والتطبيق"، ويصفه  بأنَّه جوهر الحديث والحداثة، ويرى أنَّ تحقيق هذا يعود إلى الخاصَّتين السابقتين "التقنية والعلمية"، ويجب أن يكون التجريد غير مقتصر على الزمان والمكان تعريفيًّا؛ فالحضارة الحديثة يجب أن تكون عالمية في طبيعتها.

·    يقظة الشعوب والقوميات: يرى مقدسي أنَّ هناك ردَّة فعل بمنتهى الخطورة إذا ما سُيطِر على الإنسان "فردًا وجماعةً" وأُلحق بالآلة وسُطِّح دوره، وأُجري العمل على نزع خصائص الشعوب الذاتية منها؛ ولهذا يرى أنَّ الشعوب في الشرق والغرب تُحاول أن تصل إلى العالمية وكلِّ ما هو حديث دون أن تفقد الأصالة والتاريخ الأدبي.

ويصف هذه السِّمات بأنَّها تحوي وجهين: إيجابي وسلبي؛ فهي تُعطي الإنسان القدرة على النهوض بإنسانيته وحضارته وثقافته، ولكنَّها تُهدِّده -في الوقت ذاته- بالانسحاق إنْ لم يكن على قدر من المسؤولية.

وقد تناول مقدسي التحدِّيات الحديثة لدول العالم الثالث، وحثَّ على حرية الفكر للوصول إلى الحل ومُنطلقاته، وتناول الفكر الفلسفيَّ وناقش مسألة الوجود والوجودية؛ وهذا عن طريق دراسته "من الوجود إلى الوجودية" التي نُشرت أوَّل مرَّة بعنوان (من العدم إلى الوجود) في مجلة الآداب (عدد تشرين الثاني 1966).

وتطرَّق في دراسته إلى تحليل كتاب جون بول سارتر "الوجود والعدم"، وشَرَع في تحليل مفاهيم المسألة الأنطولوجية بكافة اعتباراتها وأسئلتها منذ الحضارة الإغريقية.

إنَّ روح الثقافة في أنطون مقدسي تتجلَّى في بقائه في الوزارة بعد تقاعده؛ فقد عمل بالروح التنويرية نفسها حياته كلها، ولم يكفَّ عن القراءة والتحليل والتفكير والترجمة يومًا.

وقد انتقل مقدسي في عام 2005 بعد أن أمضى أيامه الأخيرة في مستشفى الطب الجراحي في دمشق إلى الخلود في ذاكرة الثقافة السورية والعالمية بعد حياة مليئة بالشغف والحب للمعرفة، عاشها وهو يُعلِّم ويتعلَّم دون كلل أو ملل.

وقد كتب مقدسي في مجالات النقد والفكر والفلسفة والأدب والفن والترجمة، ونُشِرت أغلب أعماله في مجلَّة المعرفة.

أهم أعماله:

·        فاسا جيليزنوفا، تأليف: مكسيم غوركي، ترجمة: أنطون المقدسي، وزارة الثقافة، 1981.

·        مبادئ الفلسفة: مشكلة المعرفة، تأليف: أنطون المقدسي، وزارة التربية، 1985.

·        الصوفانية (1982–1990) ، بقلم: الأب إلياس زحلاوي (وقائع وذكريات)، الأستاذ أنطون المقدسي (تأملات)، حقوق الطبع محفوظة للمؤلف، 1991.

·        حرب الخليج: اختراق الجسد العربي، تأليف: أنطون المقدسي، دار رياض الريس للنشر، 1992.

·        المسألة القومية على مشارف الألف الثالثة: دراسات مهداة إلى أنطون مقدسي، بالاشتراك: أنطون المقدسي في مقالة أكثر من مئة صفحة بعنوان إشكالية الأمة.

·        الأستاذ، إعداد وتقديم: د.علي القيم، مجموعة مقالات لأنطون المقدسي معظمها في مجلة المعرفة منذ 1968 حتى 1992، وزارة الثقافة، 2006.

·         الحب في الفلسفة اليونانية والمسيحية، تقديم: أحمد حيدر، مراجعة: د.علي القيم، مجموعة محاضرات في السنة الثالثة لمادة الفلسفة في العام الدراسي 1953–1954، وزارة الثقافة، 2008.

أهمُّ مقالاته المنشورة في الصحف العربية:

في الأدب:

·        قضايا الأدب وضرورة إنتاجه، 90 صفحة، في قضايا الأدب العربي، سلسلة الدراسات الأدبية، الجامعة التونسية، مركز الدراسات والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية، 1972.

·      مدخل إلى دراسة الأدب والتكنولوجيا، 50 صفحة، الموقف الأدبي، عدد 12، نيسان، 1973.

·     وطن ألّفه الكلام، مجلة المعرفة السورية، عدد 147، أيار 1974.

·    الحداثة والأدب – الموجود من حيث هو نص: رؤياه وإبداعه، 20 صفحة، الموقف الأدبي، عدد 9، 1975.

·    مقاربات من الحداثة، 60 صفحة، مواقف، عدد 35، ربيع 1979.  

في الفلسفة:

·    من الوجود إلى الوجودية، المعرفة، عدد 85، سنة 1969.

·    لينين والفلسفة المادية، 30 صفحة، المعرفة، عدد 99، أيار 1970.

·    في البَدء كان المعنى، المعرفة، عدد 113، تموز 1971.

·    الفلسفة تبحث، 115 صفحة في كتاب "عن الفلسفة" لإبراهيم الفاضل، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1979.

·    العقل وغير العقل، عقلانية في البحث عن موقع العقل، الوحدة، عدد 55، عام 1988.

·    من المنطق إلى الميتافيزيقا، المعرفة، عدد 334، تموز 1991.

·    ما هي الماركسية؟ قراءات إلياس مرقص في أسفار الماركسية اللينينية، 30 صفحة، المعرفة.

·    الفلسفة تحاور الأدب، المعرفة، العدد 350، تشرين الثاني، 1992

في الاقتصاد:

·        مقومات أولى للاقتصاد الحديث، المعرفة، عدد 176، 1976.

·        ديالكتيك الاقتصاد ومنهجه لدى كارل ماركس، المعرفة، عدد 112، 1971.

في الفكر العربي المعاصر:

·    في الطريق إلى اللسان: بحث في الأرسوزي واللغة، الموقف الأدبي، عدد 3–4، 1972، وكذلك مقدمته لأعمال الأرسوزي.

·    الأمة في فكر الحصري والأرسوزي القومي، المعرفة، عدد 195، 1978.

·    الحصري يعرف الأمة، المعرفة، عدد 204، 1979

·    صدقي إسماعيل مفكرًا، مع تأملات في الفكر والأدب، المعرفة، عدد 164، عام 1984.

في الفن التشكيلي:

·    العقلي واللامعقول، من بولدلير إلى الفن الحديث، الموقف الأدبي، عدد 2، عام 1972.

·    الفن والإنسان، وإلياس زيات، الحياة التشكيلية، وزارة الثقافة، دمشق.

·    ساعات مع الفاتح، الحياة التشكيلية، وزارة الثقافة، دمشق.

·    ذلكم هو الإنسان، (عن الفنان مروان قصاب حسن)، الحياة التشكيلية، وزارة الثقافة، دمشق.

·    إن لم تكونوا كالأطفال، عن رسوم الأطفال اللبنانيين، الموقف الأدبي، عدد 4، 1974.

إضافة إلى أنَّ له أعمالًا عدَّة في القضايا العربية؛ أهمها:

·    حرب الخليج، اختراق الجسد العربي، دار رياض نجيب الريس، 1992

·    المثقف العربي والديمقراطية، المعرفة عدد 139، 1979

·    الديمقراطية في مواجهة العنف، الموقف الأدبي، عدد 211، 1988

المصادر:

1- كتاب "أنطون مقدسي، الأستاذ" إعداد وتقديم د.علي القَيّم، منشورات وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب. "هنا"

2- سيرة ذاتية "المُفكر أنطون مقدسي"، إعداد وتقديم مديرة الثقافة في ريف دمشق. "هنا"