الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة

ما هي الأسطورة؟

قبل أن نبدأ في الخوض بالملاحم الأسطورية لشرقنا، لا بد لنا أن نوجز تعريف الأسطورة ومعناها ومكانتها لدى هذه الشعوب، وللوهلة الأولى سيقول جميعنا أن الأسطورة ما هي إلا حكاية تقليدية يلعب أدوراها الرئيسية كائنات ماورائية. ولكن بذلك فإننا نوقع تسمية الأسطورة على العديد من روايات الخيال العلمي وغيرها، والتي نستبعدها من خانة الأسطورة... وذات الشيء إذا ما أردنا تمييزها عن القصص البطولية والأمثال الشعبية وغيرها... فيخبرنا الباحث السوري فراس السواح في كتابه "الأسطورة والمعنى" عن حقيقة الأسطورة:

فهي من حيث الشكل قصة تعمد إلى السرد القصصي من حبكة وعقدة وشخصيات وما سوى ذلك، ولكونها نصوصاً طقسية فقد سيقت في نص شعري يساعد على ترتيلها، وتستمر هذه الأسطورة على حالها وتنتقل من جيل لآخر ألفاً أو ألفا عام حتى، ولا ينسب للأسطورة مؤلف محدد، فهي ليست نتاجاً فكرياً فردياً بل ظاهرة جمعية يرسمها خيال الجماعة وعواطفها وتأملاتها وتجاربها. تحكي هذه القصص سير الآلهة وأنصاف الآلهة ويكون للإنسان فيها دور مكمل لا أساسي. مواضيعها جدلية شمولية، كأصل الكون، والموت والعالم الآخر، ومعنى الحياة وسر الوجود وما له من ارتباطات فلسفية وبينما تعمد الفلسفة إلى المعالجة المنطقية تجنح الأسطورة إلى الخيال والعاطفة والترميز. إن الأسطورة ليست نصت تاريخياً فهي لا تحدد زمناً بعينه فهو زمن مقدس غير الزمن الحالي، وكان لهذه الأسطورة السلطان الأول على الإنسان، فبينا يخضع الإنسان اليوم لسلطة العلم وما يجيزه وما ينفيه، كذلك كان الإنسان رازحاً تحت هذه الأساطير. فهي دينه وعلمه وتاريخه.

إن تكوين الأفكار هو النشاط الذهني الأول الذي يرافق اتساع الوعي وارتقاءه، فتبدأ انفعالات الإنسان بالتحول إلى أفكار، لتتبعها الخطوة الحاسمة بانتقال الإنسان لتحويل هذه الأفكار إلى كلمات، لتحل الكلمة محل الصور الخارجية، ومن بعدها بدأ الإنسان باستخدام هذه الكلمات لإنتاج الشعر والأسطورة، فتكون الأسطورة بذلك نتيجة تفاعل الإنسان مع هذا الكون وخلاصة أفكاره نحوه بعد أن قام بتفسيرها وترتيبها (وهو في الحقيقة ما سيقوم به كل من الفلسفة والعلم في العصور اللاحقة)، فهل لنا أن نعتبر الأسطورة شكلاً بدائياً من الفلسفة والعلم؟

ولا شك أن الأسطورة تنشأ في الأساس عن معتقد ديني، وتكون امتداداً له، توضحه وتغنيه وتقدمه كما هو للأجيال اللاحقة، ذاكرة لنا سير الآلهة وتاريخها لتقدم لنا فكرة عن صفات كل منها وعلاقاتها مع بقية الآلهة، وبما أن الخبرة الدينية ليست خبرة تجريبية أو عقلية بل انفعالية وعاطفية، فإنها لا تتطلب بذلك برهاناً ولا تتطلع إليه، وإنما تتطلب طاقة إيحائية عالية تحافظ على مشروعيتها ومعقوليتها للإنسان. وهو ما قاد بالأسطورة لاستخدام فنون الكتابة المختلفة من تورية وكناية لتمييزها عن سياق الحديث اليومي المباشر، هذه النصوص غير خاضعة للنفي أو الإثبات أو التقصي فهي صيغ رمزية لا شأن لها بأرض الواقع.

إذا ما نظرنا في تطور الأمم وفقاً للنظريات السابقة فإن البشرية انتقلت من السحر إلى الدين إلى الفلسفة فالعلم خلال تاريخها الطويل، وقد تنقلت بينهم بشكل غير مرتب في مراحل أخرى وتداخلت أياماً أخرى، ولكن ما الذي بقي لنا من الأساطير في يومنا هذا؟ لا بد أن يكون الشعر والفن التشكيلي هو ذلك، بستاره الصوفي للواقع، وما يقدمه لنا من إدهاش وروعة وقدسية أحياناً وماورائية جميلة. يشاركه بالطبع كل ما يجنح لذلك من فنون أخرى. وهذا الأمر ليس حديثاً، فقد سبق للأسطورة أن تحولت لدى الفينيق والإغريق إلى مسرحيات، كما سبق أن تحولت إلى أغانٍ في معابد سومر.

على كل حال، يجدر بنا الإشارة أن نزعات أسطورية تظهر بين الحين والآخر في المجتمعات حول العالم، مبعدة الناس عن سلطتهم الحالية وهي "العلم"، كمن يدعي قدرته على شفاء الأمراض باللمس مثلاً معطلاً أكثر من سبعة آلاف عام من التطور البشري، ويظهر ذلك من جنوح الناس إلى تعظيم أشخاص فنانين كانوا أو سياسيين إلى جعلهم أنصاف آلهة تسكن على الأرض، ما يقضي بنا إلى حالات هوس جماعية، ولعل أكثر ما يظهر ذلك في التاريخ في الإيديولوجية النازية بأسطورتي الفهرر الملهم وأسطورة العرق المتفوق، وكونها لم تخضع لبرهان فما كان لها من معقوليتها سوى إيحاءها وسحرها.

يبقى لنا أن نوجز تعريف الأسطورة في السطور التالية:

- الأسطورة هي النتاج الفكري الأول لتفاعل الإنسان مع العالم المحيط، حل محلها فيما بعد كل من الفلسفة والعلم كنتاجات أكثر تطوراً.

- الأسطورة هي النصوص الدينية الأولى التي قدمها الإنسان، وهي نصوص إيحائية انفعالية لا عقلية ولا تجريبية لا تتطلع إلى برهان.

- الأسطورة هي النصوص الأدبية الأولى التي سخر فيها الإنسان لغته المبتكرة حديثاً لغرض فني أدبي غير أغراض الحياة اليومية.

والأسطورة ليست:

- تاريخاً، فهي لا تنقل أحداثاً في زمننا، وإنما في زمن آخر غير محدد، على الرغم من أن الإنسان القديم كان ليصدق أن الغيم صنيعة لعاب الآلهة تعامة أكثر من تصديقه لحديث تاريخيه يرويه مؤرخ من معاصريه.

- خرافة، فليس للخرافة طابع ديني، ولا قيمة فكرية فلسفية، وتتحدث عن كائنات خرافية دون آلهة تذكر.

- ملحمة أو قصة بطولية، فالملحمة قصة إخبارية (ولكننا نرى بعض التداخل بين المفهومين في جلجامش).

وإلى أن نتحدث وإياكم في الحلقة القادمة عن أساطير التكوين المشرقية، أترككم مع نص أسطورة "العصر الذهبي" للسومريين قبل بدء الحياة على الأرض:

في تلك الأيام، لم يكن هناك حية ولا عقرب ولا ضبع

لم يكن هناك أسد ولا كلب شرس ولا ذئب

لم يكن هناك خوف ولا رعب

لم يكن للإنسان من منافس

في تلك الأيام كانت "شوبور" أرض المشرق، أرض الوفرة وشرائع العدل

وسومر أرض الجنوب ذات اللسان الواحد أرض الشرائع الملكية

وأور أرض الشمال، الأرض التي يجد فيها كل حاجته

ومارتو أرض الغرب، أرض الدعة والأمن

وكان العالم أجمع يعيش بانسجام تام

وبلسان واحد يسبح الكل بحمد إنليل

المصادر والمراجع:

الأسطورة والمعنى - دراسات في الميثولوجيا والديانات الشرقية، فراس السواح، طبعة 2001.

الميثولوجيا، إديث هاملتون وترجمة حنا عبود، طبعة 1990.

مظاهر الأسطورة، ميرسيا إلياد وترجمة نهاد خياطة، طبعة 1990.

مغامرة العقل الأولى، دراسة في أسطورة سورية وبلاد الرافدين، فراس السواح، طبعة 1987.