كتاب > روايات ومقالات

مراجعة رواية علاج شوبنهاور؛ عندما تشارك الفلسفة في العلاج النفسيِّ

كل نَفَس نأخذه يدرأ عنَّا الموت الذي يحيق بنا طوال الوقت، وفي النهاية لا بُدَّ من أن ينتصر الموت؛ لأنَّه أصبح قدرنا منذ ولادتنا؛ فهو يتلاعب بفريسته فترة قصيرة جدًّا قبل أن يبتلعها، لكنَّنا نواصل حياتنا باهتمام كبير، وببؤس شديد بقدر ما نستطيع؛ كما ننفخ فقاعة صابون حتى تصبح أطول وأضخم ما يمكنها تمامًا، مع أنَّنا واثقون كلَّ الثقة بأنَّها ستنفجر في نهاية المطاف".

هذا ما طُبِع على غلاف رواية "علاج شوبنهاور" من تأليف إرفين د.يالوم؛ وهي روايته الثانية بعد رواية "عندما بكى نيتشه".

إنَّ د.يالوم بروفيسور وطبيب نفسيٌّ من الولايات المتحدة الأمريكية، وتُبنى روايته هذه على التعمُّق في مهارات العلاج النفسيِّ؛ وفق مجموعات تتبادل الحوار تبادلًا مُنتظمًا في محاولة لإيجاد الثقة والصراحة والتعاون للإفصاح عن أسرارهم ومواجهتها، وهذا ما سينعكس إيجابًا على حياتهم الشخصيَّة؛ فيعتمد المؤلف على السَّرد الحواريِّ عن طريق هذه المجموعة من الشخصيات المختلفة التي تُعاني من المشكلات في علاقاتها مع الآخرين.

وتبدأ أحداث الرواية عند اكتشاف جوليوس -وهو المعالج النفسيُّ الذكيُّ جدًّا، والذي تجاوز الخمسين من عمره- إصابَته بمرض السرطان؛ فيبدأ بعدِّ أيامه الأخيرة التي قُدِّرت أنَّها لن تتجاوز سنواتٍ ثلاث.

ويكون وطء ذاك الخبر على جوليوس شديدًا، ويزيدُ شدَّة الوطء كونه شخصًا ماديًّا ملحدًا لا يؤمن بشيء بعد الموت؛ فيَشرَع نحو طرق عدَّة للتخلُّص من شبح الموت الذي يرافقه بعد أن فَقَد إيمانه بالفلسفة الدينية والحياة الأخرى، ومن هنا يبدأ طريقه بإحياء بعض ذكرياته مع مرضاه السابقين بغية الشعور بالإنجازات التي قدَّمها في حياته ليهوِّن على نفسه، فيتوجَّه إلى ملفَّاته القديمة ليقرِّر اللِّقاء مع شخص غريب الأطوار يدعى فيليب؛ وهو من يمثِّل فلسفة آرثر شوبنهاور في الرواية؛ ويكون فيليب شخصيةً تردَّدت إلى عيادة الدكتور جوليوس مدَّة ثلاث سنوات عندما كان يعاني من اضطراب نفسيٍّ حادّ، فيُجرى اتِّصال بين جوليوس وفيليب بعد أن مرَّ زمن طويل على آخر لقاء لهم في العيادة.

إنَّ فيليب هو تلك الشخصيَّة الغريبة التي تسكن بين صفحات رواية "علاج  شوبنهاور"؛ إنَّها شخصيَّة يَصعُب أن تغادر أفكارنا كُلَّما شرعنا في تفهُّم طبيعة العلاقات البشرية، وقد كان فيليب من المتأثِّرين بالفيلسوف شوبنهاور وأفكاره التي تخصُّ العلاقات البشرية والوجود والجنس والإرادة تأثُّرًا شديدًا، ولا تخلو كل جملة يقولها من مقتبسٍ لفيلسوف التشاؤم، ولكنَّه لم يكن حزينًا أو مضطربًا، ولم تغزه الكآبة والخمول أو الخواء، بل كان شخصيةً وجدت طريقها نحو الاستقرار في رحم العدم والمعاناة، أو رحم الفضيلة كما يُسمِّيها، وهو يرى أنَّ سبب البؤس الذي يصيب أحدهم أنَّه يتوقَّع السعادة؛ فالبشر المساكين يعامِلون هذا العالم العبثيَّ على أنَّه مدينة فاضلة؛ فتتوالى الصدمات عليهم ويصابون بالبؤس، إضافةً إلى أنَّ العلاقات البشريَّة مؤذيةٌ دائمًا بعد حدٍّ ما؛ فهي فخٌّ دراماتكيٌّ يجرُّ البشرية باتجاه البؤس، وهذه البشرية مخدوعة خداعًا كبيرًا بضرورة هذا الارتباط، إنَّهم طمَّاعون بطبعهم وجلَّادون لذاتهم.

وقد حاول فيليب الارتقاء عن هذا دائمًا بعد أن غرق بشهواته وهوسه الجنسيِّ، وحبِّه للعلاقات المتعدِّدة مع النساء سنوات عدَّة، ولكن كان الجميع ينظر إليه للوهلة الأولى على أنَّه البائس غريب الأطوار بينهم، ولم يعلموا أنَّه الوحيد المستقرُّ والهادئ والسعيد.

وحدث هذا الاجتماع في سلسلة من جلسات العلاج النفسيِّ، وكان يجب أن يكون فيليب واحدًا من المرضى الذين يتلقُّون العلاج النفسيَّ مثل غيره، ولكنَّه كان عكس ذلك تمامًا، غير أنَّه الوحيد غير المضطرب بينهم، والوحيد الذي يحضر الجلسات لسببٍ مختلف؛ وهو أن ينفِّذ صفقة عمليَّة مع "جوليوس"؛ الطبيب النفسيِّ المصاب بالسرطان الذي يصارع الموت؛ فتُعقَد الصفقة على أن يدرِّب جوليوس فيليب على العلاج النفسيِّ، وأن يحدِّثه الأخير عن علاج شوبنهاور؛ ليقضي آخر سنين حياته قبل الموت، ومن هنا يستغلُّ المؤلِّف شخصية فيليب ليقدِّم لنا فلسفة شوبنهاور ورؤيته.

وتدور أحداث الرواية بتقطُّع بين روايات الشخصيات في العيادة؛ فكلٌّ منهم يروي حكايته لتُبنى الرواية بناءً حواريًّا مُمتعًا.

وترحل بنا إحدى الشخصيات "بام" نحو الهند في رحلة قصيرة؛ لنتعرَّف إلى الفلسفة البوذية وأسرار التأمُّل، ونبذة عن الثقافة الهندية والديانات الهندوسية، وكان هدف رحلتها أن تتخلَّص من الكآبة والخوف اللذين يرافقانها دومًا.

ويرافق الرواية فقرات عن السيرة الذاتية للفيلسوف آرثر شوبنهاور؛ فينتقل بنا المؤلف إلى طفولة شوبنهاور، وكيف تحوَّل من تاجر إلى فيلسوف التشاؤم بسبب رسالة من والدته، وتفاصيل علاقتهم المشوَّهة، وأَثَر انتحار والده على حياته، ليستمرَّ في رحلته نحو أعماق فلسفة شوبنهاور ورؤيته الوجود والعدم والجنس والإرادة الكُليَّة، وغيرها من التفاصيل الفلسفية المُقدَّمة تقديمًا ممتعًا.

وتمتاز الرواية بالسَّرد السلس، والبساطة في تقديم الحوارات والفلسفة، إضافةً إلى أنًّ الشخصيات تمثِّل روحًا فكرية متناغمة لمشكلات نفسية نمرُّ بها، والطريقةَ التي يُقابل فيها علاج شوبنهاور تلك المشكلات، وتسعى الرواية إلى انتقال القارئ إلى الاندماج في مهارات العلاج النفسيِّ؛ وهذا تبعًا لخبرة المؤلف الواضحة في هذا المجال.

لذا؛ لنتساءل: هل من الممكن أن يكون "علاج شوبنهاور" مرحلةً تنقلنا لنفهم أنفسنا والوجود فهمًا أكبر؟ 

معلومات الكتاب:

اسم الكتاب: علاج شوبنهاور

الكاتب: إرفين د.يالوم

المترجم: خالد الجبيلي

نشر عبر: منشورات الجمل، بغداد- بيروت 2018