الطب > مقالات طبية

هل البدانة عامل وقاية من تخلخل العظام لدى النساء بعد سنِّ اليأس؟

يتملَّكنا جميعًا إحساس الانزعاج وعدم الراحة عندما نُقرِّر وضع أقدامنا على لوحة مقياس الوزن، وعندما نجد بأن المؤشر أعلى بكثير من المُتوقَّع؛ نبدأ بوضع مُخطَّطات لممارسة التمارين في اللحظة التي نرفع فيها قدمنا عن اللوحة، ولكن ما العمل؟ كلنا مشغولون ولا يوجد وقت لتلك المُخطَّطات، فيصل معظمنا إلى مرحلة البدانة وما تحمله في طيَّاتها من مخاطر صحية تُهدِّد بنوعية حياة صعبة وحتى بالموت. أما لدى النساء؛ فإن الخطر لا يقف عند البدانة وحسب؛ إذ يشمل التقدم في العمر العديد من الاضطرابات الاستقلابية والبنيوية الخطيرة، وعند الوصول إلى سنِّ اليأس يرتفع مؤشر الخطر لديهنَّ بحدوث هشاشة وكسور عظمية تلقائية تُسبِّب الإعاقة الدائمة وقد تصل إلى الموت أحيانًا. وعلى الرغم من كل هذه المخاطر؛ فإن النساء البدينات بعد سن اليأس يجدن بعض الراحة في بدانتهنّ. والسؤال هنا: هل البدانة عامل وقاية من تخلخل العظام لدى النساء بعد سن اليأس؟

أُجريت العديد من الدراسات للإجابة عن هذا السؤال توصَّل معظمها إلى أن العلاقةَ إيجابيةٌ بين النسيج الدهني والعظمي؛ فكيف ذلك؟

أولًا: إن تخلخل العظام مرضٌ استقلابيٌّ يتلخَّص بهشاشة زائدة نتيجة عدم التوازن بين ارتشاف العظم وإعادة البناء؛ إذ يُشخَّص التخلخل بإحراز نتيجة (2.5 أو أقل) في قياس الكثافة العظمية، وإن قرابة أكثر من 40% من النساء بعد سنِّ اليأس سيعانين كسرًا واحدًا على الأقل بسبب التخلخل. فعندما أجرى الباحثون دراسة إحصائية على عينة عشوائية من أشخاص ذوي مشعر كتلة BMI عالٍ؛ لاحظوا زيادة نسبة الكثافة العظمية مقارنة بالزيادة في الوزن. وفُسِّرت هذه العلاقة بأن زيادة الوزن تؤدي إلى زيادة الحمل الميكانيكي على الهيكل العظمي، ولمَّا كان النسيج العظمي نسيجًا ديناميكيًّا؛ فإنه يُنشِّط عملية إعادة البناء عن طريق تفعيل الخلايا البانية العظام.

ثانيًا: إن سنَّ اليأس هو تناقص في عمل المبايض لدى النساء، ووظيفتها الأساسية هي إنتاج الأستروجين (في النسيج العظمي يوقف الأستروجين عملية ارتشاف العظم بتثبيط الخلايا الناقضة للعظم osteoclast وتحفيز إعادة البناء، وبذلك الحفاظ على كثافة العظام)، ولكنَّ المبايض ليست المصدر الوحيد للأستروجين؛ إذ يفرز النسيج الشحمي أنريمَ (أروماتاز) الذي يصنع الأستروجين؛ ما يُساهم في رفع المستوى المصلي للأستروجين؛ مما يجعل النسيج الشحمي المصدر الرئيس لإنتاجه في جسم النساء بعد سن اليأس؛ وبهذا فإن النساء البدينات لديهنَّ نسبة شحوم عالية مما يعني مستويات عالية من الأستروجين مقارنة بالنساء غير البدينات.

على الرغم من وجود الأدلة الإحصائية  لهذه الدراسات بأن الزيادة في كتلة الجسم BMI مرتبطة بكثافة عظمية عالية ووجود العديد من آثار النسيج الشحمي الإيجابية في النسيج العظمي، إلا أن بعضها وجدت بأن الأشخاص ذوي مشعر كتلة (أقل من 28) لم تتغير لديهم الكثافة العظمية، والأشخاص ذوي مشعر كتلة عالٍ (أكثر من 30) لُوحِظ انخفاض في الكثافة العظمية مقارنة بعمر الأشخاص المدروسين ووزنهم.

من أكثر الأسباب منطقية لتفسير اختلاف النتائج بين دراسة وأخرى هو اختلاف تعريف الباحثين للبدانة؛ ففي الدراسات التي أكَّدت وجود علاقة إيجابية عرِّفت البدانة بأنها زيادة في نسبة مشعر الكتلة BMI ووجدت بأن البدانة عامل واقي. ولكن ليس بالضرورة أن تتضمن الزيادةُ في المشعر زيادةً في الكتلة الدهنية -BMI هو مجموع الكتلة الدهنية والعضلية (عديمة الدهون) والكتلة العظمية-، وفي الدراسات التي عرَّفت البدانة بأنها زيادة نسبة الدهون في الجسم أكثر من 25% -مع الأخذ بالحسبان توزيع الدهن في جسم النساء المفحوصات- لوحظت زيادة خطر التخلخل عند النساء البدينات.

وعلى الرغم من تناقض العديد من الدراسات الإحصائية؛ فإن دراسات النسيج الشحمي الفيزيولوجية تُقدِّم أدلَّة أكثر إقناعًا بأن العلاقة بين النسيجين سلبية؛ فقد أبرزت هذه الدراسات عدة نقاط مُهمة:

- تؤدي العديد من المواد المنتجة من النسيج الشحمي دورًا مُهمًّا في التأثير في الكثافة العظمية؛ منها الليبتين الذي يُعدُّ أهمَّ ببتيد شحمي؛ إذ يُثبِّط الشهية ويُحفِّز استهلاك الطاقة ويُنظِّم الكتلة العظمية، وتأثيره في النسيج العظمي هو في الوقت نفسه إيجابيٌّ وسلبيٌّ. توجد مستويات مصلية عالية من الليبتين لدى النساء البدينات، وإن التأثير المعقَّد له في النسيج العظمي ناتجٌ عن التأثير المباشر الإيجابي في عمل الخلايا البانية للعظم osteoblast وتأثيره السلبي في الجهاز العصبي الودي وأيضًا التأثير المُثبِّط للمستوى العالي من الليبتين في الوطاء وما يترتَّب عليه من خلل في توازن كثافة النسيج العظمي. وأيضًا عند إفراز الليبتين يُحفِّز بمستوياته المرتفعة إفرازَ السيتوكينات IL-6 والعامل المنخّر الورمي ألفا TNF-a من النسيج الشحمي التي تُحفِّز عملية ارتشاف العظام عن طريق تنشيط الخلايا الناقضة للعظم osteoclast بتفعيل سبيل RANKL/OG.  

- لمَّا كانت البدانة مرتبطة بتناول زائد للدهون المشبعة؛ فإن ذلك يؤدي إلى خلل في امتصاص الكالسيوم  من الأمعاء؛ إذ لُوحظ أن الدهون المشبعة تُشكِّل مع الكالسيوم معقدات صلبة شبيهة بالصابون غير ذائبة وغير قابلة للامتصاص من قبل الأمعاء؛ وبهذا تؤدي إلى ارتشاف العظام لرفع مستويات الكالسيوم المصلية، ولوحظ أيضًا أن الأشخاص البدينين لديهم مستويات منخفضة من فيتامين D؛ مما يؤدي إلى صعوبة تثبيت الكالسيوم والفوسفور على النسيج العظمي وخلل في فعالية الامتصاص المعوي لهذه الشوارد مما يزيد من خطر التخلخل.

- تنشأ كلٌّ من الخليتين الشحمية والعظمية من "خلية جذعية لحمية متوسطة عديدة القدرات" مشتركة. وإن ازدياد نسبة تشكُّل الشحم في نِقي العظام يُسهِّل أمرَ تحويل النسيج الشحمي للخلايا الجذعية العظمية إلى خلايا شحمية؛ وبهذا فقد التوازن المحقَّق من قبل كلٍّ من الخليتين البانية للعظم osteoblast والناقضة لهosteoclast.

بالعودة إلى الدراسات المعتمدة على BMI؛ نجد أن ارتفاع المشعر غير المصحوب بارتفاع الشحوم له تأثير إيجابي في الكثافة العظمية، في حين إن الآثار الإيجابية والسلبية لارتفاع نسبة المشعر BMI المصحوب بارتفاع نسبة الشحوم لا تزال قيد الدراسة. وإن ما يجعل الوصول إلى نتائج حاسمة في هذه الدراسات هو أحد عوامل  تخلخل العظام لدى النساء؛ ألا وهو التقدم في العمر؛ فمع تقدُّم النساء في العمر تتراجع وظيفة خلايا النسيج العظمي؛ ما يجعل التغيرات أكثر تعقيدًا وصعوبةً في تحديد طبيعة العلاقة ما بين البدانة والكثافة العظمية. ولكن تُشير الأدلة الحديثة إلى أن البدانة لها بعض الآثار الإيجابية في العظم، ولكنها ليست عامل وقاية من تخلخل العظم.

المصادر:

1- هنا

2- هنا

3- هنا