التعليم واللغات > اللغويات

هل تتفوَّق البنات على الأولاد لغويًّا؟

على الرغم من التقدم المستمر نحو المساواة بين الجنسين لا تزال الهيمنة للرجال في عالمنا من نواحٍ عدة، ولكن العديد من الدراسات تُظهر أنه عندما يتعلق الأمر بتعلم اللغة، تُبدي الفتيات مهارات أفضل من الفتيان؛ فقد اكتشف علماء يدرسون جينًا مرتبطًا بتطور النطق واللغة اختلافاتٍ واضحةً من ناحية النشاط تبعًا للجنس في كل من القوارض والبشر؛ إذ يوجد البروتين الخاص بهذا الجين بتركيز أكبر لدى الفتيات، لكن يحذِّر بعض الباحثين من استخلاص الكثير من الاستنتاجات من هذه الدراسة بخصوص دور هذا الجين في التواصل البشري والحيواني.

في عام 2001 هزَّ عالَمَ الأبحاث اللغوية اكتشافُ أن الجين المسمى FOXP2 ضروريٌّ لإنتاج الكلام، وقد أشار الباحثون إلى أن FOXP2 هو على الأرجح واحدٌ فقط من العديد من الجينات المشاركة في التواصل البشري، ولكن يبدو أن الاكتشافات اللاحقة أكَّدت أهمية هذا الجين؛ فعلى سبيل المثال يختلف إنتاج البشر للبروتين الذي ينتجه الجين بفارق حمضين أمينيين عن الشمبانزي، ويبدو أن الاختلاف خضع لانتقاء طبيعي منذ أن انقسمت الأنساب البشرية والشمبانزي منذ نحو 5 ملايين إلى 7 ملايين سنة، ووُجد أن البشر البدائيين (Neandertals) كان لديهم البروتين نفسه الموجود لدى الإنسان العاقل الأول (Homo sapiens)، مما غذى التكهنات بأن السلالات المشتركة التطورية لديها لغة أيضًا، وفي السنوات التالية ارتبط الجين FOXP2 بإنتاج أصوات حيوانات أخرى، بما في ذلك الفئران والطيور المُغردة وحتى الخفافيش.

وفي خلال هذه الفترة الزمنية نفسها أكدت دراسات عدة نتائجَ الأبحاث السابقة، التي تشير إلى أن الفتيات الصغيرات يتعلمن اللغة أسرع من الأولاد وفي سنٍّ أصغر، وينطقن أول كلماتهن وجملهن في وقت مبكر، ويكتسبن مفردات أكثر بسرعة أكبر، ولكن الأسباب الكامنة وراء هذه النتائج مثيرة للجدل إلى حد كبير لأنه من الصعب فصل تأثيرات الطبيعة عن التنشئة، وتختفي الاختلافات تدريجيًّا مع تقدم الأطفال في السن.

طرح فريقٌ بقيادة عالم النفس (ج. مايكل باورز) وعالمة الأعصاب (مارغريت ماكارثي) من كلية الطب في جامعة (ميريلاند) في (بالتيمور) تساؤلًا بخصوص ما إذا كان FOXP2 قد أدّى دورًا في هذه الاختلافات المحتملة بين الجنسين، وللإجابة عن هذا التساؤل بدأ الفريق بمراقبة صغار الجرذان التي تُصدر عند فصلها عن أمهاتها صرخاتٍ بموجات فوق صوتية -أي بترددات أعلى من التي تسمعها الأذن البشرية، وسجل الفريق صوت مجموعات من الفئران الذكور والإناث البالغة من العمر 4 أيام بعد فصلها عن أمهاتها وذلك على مدى خمسة أيام، وذكر الباحثون أن الجراء الذكور والإناث أصدروا مئات من الصرخات، ولكن عدد صرخات الذكور كان ضعف عدد صرخات الإناث. وعندما عادت صغار الفئران إلى أقفاصها، أسرعت الأمهات إلى استقبال الذكور قبل الإناث، وذلك استجابةً للعدد الكبير من نداءات الاستغاثة بحسب ما أشارت إليه تجارب إضافية، وبعد ذلك قتل الفريقُ ثمانية ذكور وثماني إناث من صغار الفئران البالغة من العمر 4 أيام وفَحَص كمية البروتين FOXP2 في أدمغتهم. كان لدى الصغار الذكور ما يصل إلى ضعف كمية البروتين في مناطق الدماغ المسؤولة عن الغناء وغيره من الوظائف المعرفية، مثل اللوزة الدماغية والقشرة الدماغية والمخيخ، ولكن لم يظهر أي اختلاف في مناطق الدماغ التي لا ترتبط بالصوت، مثل غدة ما تحت المِهاد (hypothalamus)، ولتأكيد ما إن كان الجين FOXP2 هو المسؤول عن الصرخات الإضافية عند الذكور، حقن الفريقُ بعد ذلك في أدمغة الفئران الذكور جزءًا من حمض نووي ريبوزي (RNA) مصمَّم لعرقلة نشاط الجين جزئيًّا، ما أدى إلى جعل هؤلاء الذكور يصدرون صرخات أقل، أي أصبحوا أقرب إلى الإناث.

وأخيرًا أجرى الباحثون دراسة صغيرة على أطفال تراوحت أعمارهم بين 4 و5 سنوات لقوا حتفهم في حوادث قبل أقل من 24 ساعة من الدراسة؛ إذ حلل الباحثون كمية البروتين FOXP2 في أدمغة خمسة صبية وخمس بنات في جزء من القشرة الأمامية اليسرى المسماة Brodmann area 44 المرتبطة باللغة لدى البشر، ووجدوا أن أدمغة البنات -على النقيض تمامًا من الفئران- تحتوي على البروتين FOXP2 بنسبة 30% أكثر من أدمغة الصبية.

ويخلص الفريق إلى أن ما يُطلق عليه "الجنس الأكثر تواصلًا" -في كل من الجرذان والبشر- يملك مستويات أعلى من البروتين FOXP2، وذلك إذا كان الجين وبروتينه يؤديان دورًا رئيسًا في القدرة على النطق كما هو متوقع، وتقول (ماكارثي) إن الباحثين يسلطون الضوء على فوارق بين الجنسين لم تُكتشف سابقًا في جينٍ ذي دور كبير ومهم في تطور اللغة.

ويرى (دوين هامسون)، عالم الغدد الصماء في جامعة كولومبيا البريطانية في (فانكوفر) في كندا، أن الدراسة مثيرة للغاية وتشكل دليلًا مقنعًا على أن FOXP2 هو جزيء رئيس للتواصل عند الثدييات، ولكن (سيمون فيشر)، أحد مكتشفي الجين FOXP2 في معهد ماكس بلانك لعلم اللغة النفسي في (نايميخن) في هولندا، يحذِّر من وضع استنتاجات كبيرة بخصوص اختلافات الجنس البشري بناءً على هذه العينة الصغيرة من الأطفال، التي ركزت على منطقة دماغية واحدة ونطاق عمري ضيق، ويُعارض (فيشر) أية مفهومات تقول بأن هناك أوجه شبه بسيطة بين صرخات الفئران واللغة البشرية، ويضيف إن صرخة الطفل البشري قد تكون مشابهة لصوت جرو فأر، ولكن الكلام واللغة أكثر تعقيدًا وإثارة للاهتمام من الأصوات الفطرية البسيطة.

 

المصدر: 

هنا

هنا