اللغة العربية وآدابها > الحب في الأدب العربي

الحب والغيرة في شعر الركونية: 3- ظلال الخوف والفقد

يكمل المقال في الجزء الثالث والأخير منه تجربة حفصة الركونية العاشقة كما تبدَّت في شعرها وما روي عن قصة الحب التي جمعتها بأبي جعفر ابن سعيد، ولمَّا كانت قد تنازعت وجدانها أربعةُ مشاعر رئيسة تجلَّت تجليًا واضحًا في شعرها فقد تناول الجزء الثاني شوقها ورغبتها، وسيتناول هذا الجزء غيرتها وآلامها، مع إضاءة تركيبية على شعرها وأخبارها.

الغَيْرة:

في اللغة والاصطلاح:

يعود أصل معنى الغيرة اللغوي في العربية إلى "الحميَّة والأنفة"؛ أي الغضب للأهل أو الشريك وكراهية الذل والدفاع عن الشرف. وهي بهذا المعنى تقترب من الجذور اليونانية واللاتينية لمرادِفها بالإنكليزية (Jealousy)؛ التي تشير إلى الحماسة والحميّة وحب التقليد. ويرى ابن فارس في معجم مقاييس اللغة أن أصلها يرجع إلى معاني الصلاح والمنفعة لأنها شعورٌ حسَنٌ.

أما في مفهوم الغيرة؛ فهي عاطفة اجتماعية أساسية تتألف من مكونات عاطفية ومعرفية وسلوكية، وعلى الرغم من أنها قد تكون مُحصِّلة عدة أنواع مختلفة من المقارنات الاجتماعية (الوضع الاجتماعي، والثروة، والإنجاز…)؛ فإنَّ الغيرة الرومانسية هي أكثر أشكال الغيرة انتشارًا وأهمية. والغيرة الرومانسية المناسبة -التي تُشير إلى النية في حماية العلاقة- هي أمر ضروري لمعايشة الحب والمحافظة على استقرار العلاقات العاطفية، ومع ذلك؛ فعندما تجنح إلى التطرُّف فإنها قد تُنتج عواقب اجتماعية ونفسية هائلة ممّا يؤدي إلى بعض السلوكات العدوانية. أما النواة العاطفية والتجريبية للغيرة الرومانسية فهي مزيجٌ من العواطف الأساسية كالغضب والحزن والدهشة؛ وهي التي تنشأ من حدث مهدِّدٍ للعلاقة.

ومع ذلك كله؛ فالغيرة عمومًا تُوصف بأنها ردُّ فعلٍ عاطفيٍّ سلبيٍّ يُثارُ عندما يخسر شخصٌ ما (أو يخاف أن يخسرَ) علاقةً قيِّمة بسبب تهديدِ منافسٍ له حقيقيٍّ (أو مُتخيَّل). ومع هذه التوضيحات المُبسَّطة؛ يبقى تعريف الغَيرة مثارًا للجدل بين عدَّة أفرع معرفية.

الغيرة عند الركونية:

تُمثِّل الغيرة موضوعًا رئيسًا وبارزًا في أشعار الركونية وأخبارها؛ إذ ورد سابقًا أن تجربة الركونية العاشقة نمت في فضاءٍ مضطربٍ يُهدِّد علاقتها بمحبوبها؛ فالفضاء الزمكاني العام مُخترَقٌ بدخول الموحِّدين إلى غرناطة ومجهول الاتجاه. أما المحيط الاجتماعي؛ فيُمثِّل رقابةً على العلاقة جعلت الركونية تحتاطُ في بعض شعرها ولقاءاتها بأبي جعفر ابن سعيد، وقد أحبَّها والي غرناطة الجديد عثمان بن عبد المؤمن الذي كان يكنُّ العداء لأبي جعفر ويترصَّدها ويترصَّده، إضافةً إلى منزلة محبوبها التي جعلته موضع حسدٍ حتى من أقرب خواصِّه. ولا يمكن تجاهلُ ميلَ أبي جعفر إلى اللذة في الحياة وحبِّه النساء ومجالس الخمر واللهو.

(في الجزء الثاني من المقال: هنا)

إنَّ تجمُّع الفضاءات والمواقف السابقة كلها ضدَّ حفصة الركونية لا يُوضِّح مبررات خوفها وغيرتها على محبوبها فقط؛ بل يُعزِّز مصداقية حبِّها له وإصرارها على التمسُّك به أيضًا. ويمكن إيضاح علاقة التضاد القوية هذه في الشكل الآتي:

ولم تقف الركونية أمام هذه الصعوبات كلها موقف المستكين الخاضع، فهي على معرفتها بوجود الأعداء والحسَّاد؛ لا تتوانى عن امتداح محبوبها مُكرِّسةً صفات الرجولة المعنوية فيه ومؤكِّدةً منزلته الرفيعة بين الناس في تحدٍّ واضح للمجتمع، فحين تولَّى أبو جعفر إحدى وزارتَيه قالت تخاطبه:

رأسْتَ فما زال العُـــــداةُ بظلمِهم    وعلــمِهم الــنَّامي يقولون: مَـا رأَسْ

وهلْ مُنـكِـرٌ أن سـادَ أهلَ زمــانه    جَموحٌ إلى العليا حَرونٌ عن الدَّنـسْ

تتَّضح هنا الفروق الدلالية بين مديح حفصة التقليدي لوالي غرناطة - الذي ورد سابقًا- وبين مديحها المشبع بالإعجاب والحب لمحبوبها؛ فقد رأت فيه السيِّد المطلق (سيِّد أهل زمانه) الذي لا يمكن لأحد إنكار سيادته هذه، واستعارت صفات الخيل الأصيل (جَموح، حَرون) بصيغة المبالغة الصرفية (فَعُول) لتصف قوة تطلُّعه إلى المجد ورفضه الذلَّ والنقائص، فليس غريبًا إذًا أن تغارَ حفصة على محبوبها وتخشى فقدانه.

ويمكن إيراد تمثُّلات الغيرة في أشعار الركونية وأخبارها فيما يأتي:

غيرة من الطبيعة:

ظهرت في خبر لقاء حور مؤمّل؛ فقد حمَّلت حفصة في شعرها مكوِّناتِ الطبيعة الحيَّة والصامتة مشاعرَ غيرتها، فالروضُ يبدي الغلَّ والحسد لهما، وكذلك النهر وطائرُ القُمري، ولم تعلُ النجوم في الأفق إلا لتراقبهما! وهي صورةٌ نادرةٌ للطبيعة في الشعر الأندلسي أظهرت غَيرة الركونية على محبوبها. في حين أنَّ الأندلسيين طالما قرنوا الغزل والوصف الجميل بالطبيعة.

(في الجزء الأول من المقال: هنا)

غيرة من الرقيب:

ظهرت في خبر لقاء الكِمامة حين تطفَّل الشاعر الكُتنديّ عليهما؛ إذ لعنته وشتمته بغضبٍ شديد وأمعنت في هجائه على نحوٍ يُظهِرُ انفعالَها العاطفيَّ المتوتِّر، ثم سمَّته الحائل، وبرَّرت لمحبوبها ذلك بقولها له: "لأنه يحول بيني وبينك إن وقعت عيني عليه"، فأوحى ذلك كله بغيرتها الضمنية من الرقيب أيضًا.

(في الجزء الأول من المقال: هنا)

غيرة من الجارية:

بلغ حفصة أن أبا جعفر ابن سعيد عَلِق بجاريةٍ سوداء البشرة فأقام معها أيَّامًا، فكتبت إليه:

يا أظـــرفَ الناسِ قبل حالٍ   أوقعَه في وســـطه القـــــدَرْ

عشـــقتَ سوداءَ مثل لــــيلٍ   بــــدائعَ الحُســــنِ قد ســـتَرْ

لا يَظهرُ البِشـــرُ في دُجاها    كلَّا ولا يُبصَـــــرْ الخفَــــرْ

باللهِ قُـــل لـــي وأنتَ أدرى    بكلِّ من هــــامَ في الصُّوَر

مَن الذي حبَّ قــبلُ روضًا     لا نَـــــور فيه ولا زهَـــرْ؟!

تبدأ حفصة أبياتها بخطاب محبوبها بخداع لغويٍّ قريب المعنى (يا أظرف الناس)؛ فتوحي بامتداحه بالكياسة والذكاء أول وهلة لتنفي هذه الصفات عنه على الفور بتتمَّة البيت (قبل حالٍ أوقعه في وسطه القدر)؛ أي فقد كان أحسن الناس إلى اللحظة التي أحبَّ فيها هذه الجارية. ثم تتَّخذ الركونية موقفًا عنصريًّا تجاه الجارية-المنافِسة لها أساسُه الغَيرة منها، وتستمدُّ من لون بشرتها كل صفات القبح وتُعمِّمها على الأبيات؛ وبمعنىً أدقّ؛ تستغلُّ سواد بشرة الجارية لنفي الجمال عنها وإخفاء معالمه.

إن غَيرة الركونية تدفعها إلى الاستخفاف بحذق محبوبها وذكائه، والإمعان في تقبيح الجارية-المنافِسة، وقد أفاد تكرار حرف النفي (لا) في تأكيد انتفاء كل ملامح الجمال عنها، وخرج غرضُ الاستفهام في البيت الأخير إلى الاستنكار والنفي أيضًا؛ فلا أحد يُحبُّ حديقةً لا زهر فيها ولا نُوَّار؛ على حدِّ تعبيرها. وقد استغلَّت لونَ الجارية الأسود بعنصريةٍ وعدوانيةٍ واضحتَين ليكون بمنزلةِ اللالون أو الستار المُظلِم الذي يبتلع كل ألوان الجمال التي يرغب الرجل فيها، فلا طلاقة الوجه تبدو، ولا حُمرة الخجل، ولا بياضُ النُّوَّار، ولا ألوان الزهور المختلفة (في نظر الركونية)، وتتجمَّع معاني الإخفاء في التراكيب (بدائع الحسن قد ستر، لا يَظهر البِشر، لا يُبصَر الخفر)، وربّما أرادت أن توحي إلى ملامح جمالها هي التي أصرَّت على غيابها في هذه الجارية.

الغيرة المُطلَقة:

تتضخَّم غيرة الركونية على محبوبها وتُسيطر عليها؛ فتتجاوزُ الرقيبَ والطبيعة والمنافس، إنها غيرة من كل شيء حتى من المحبوب نفسه، غيرةٌ تدفعها إلى الاستعانة بطاقة التعابير الصريحة المباشرة كلها والمبالغة فيها؛ إذ تقول:    

أغــارُ علــيكَ من عَينَيْ رقيبي   ومـــنكَ ومن زمانِكَ والمكانِ

ولو أنَّي خَــبَأْتـكَ في عـــيوني   إلى يومِ القـــيامةِ ما كــــفاني

تتجمَّع (أنا) الركونية المُحِبّة الغَيور وتُفصح عن نفسها أمام المحبوب-المخاطب في تركيب مباشر وتقريري (أغارُ عليك)، ثم نراها تحاول تحديد نطاق غيرتها فيتَّسع تصاعديًّا من أعين رقيبها (الاجتماعي-السلطويّ) لينتقل إلى المحبوب نفسه ثم إلى محيطه الوجودي الكلي زمانيًّا ومكانيًّا في انزياحٍ دلالي واضح يُولِّد مفهومًا جديدًا للغَيرة ويُعبِّر عن قوة العاطفة في تناوب الضميرين (أنا) و(أنتَ) وفي تكرار (مِن) السببية والواو العاطِفة. ثم ترتدُّ الركونية إلى ذاتها الحالمة بتملُّك المحبوب تبتغي اقتناصَه من الواقع وإخفاءه في عينيها إلى نهاية الزمان، لكنها تعرف ضمنيًّا أنَّها حتى في هذه الحال لن تنال مرادها في حماية علاقتهما ولن ترتوي منه، فهي تفتتح التعبير بالأداة (لو) التي تفيد هنا تقرير الجواب (ما كفاني) وإثباته على الإطلاق سواءٌ أخبَّأته في عينيها إلى أن تحيا الحياة الآخِرة (كما تعتقد) أم لم تخبِّئه؛ أي هي أساسًا تغار عليه ولا تكتفي منه وحتى إذا تملَّكته وأخفته على الأعين جميعها فلن تتغيَّر هذه الحال، وستبقى كلٌّ من غيرتها عليه وخشيتها من فقده مطلقتَين.

إنَّ رقة التعابير وصراحتها وانزياحاتها أعطت البيتين قيمة إبداعية جمالية قلَّ نظيرها في الشعر النسائي العربي القديم.   

    

آلام البعد والفراق:

استحكم العداء واشتدَّ بين أبي جعفر ومنافسه في حب الركونية عثمان والي غرناطة، ولما كان الوالي أسود البشرة (أو مائلًا إلى السواد) -كما ورد سابقًا- فقد اتَّخذ أبو جعفر منه موقفًا عنصريًّا أيضًا؛ وذاك لتصغيره في عينَي حفصة كما فعلت هي في قصة الجارية؛ إذ قال لها بأسلوب استعلائيٍِّ مبالَغٍ فيه: "ما تحبين في ذلك الأسود وأنا أقدر أن أشتري لك من سوق العبيد عشرةً خيرًا منه؟"، فكان أن بلغ هذا الخبر مسامع الوالي عثمان وأضمر له نيَّة القتل.

ولم يكن أبو جعفر غافلًا عن نوايا الوالي تجاهه، ثمَّ حدث أن التحق أخوه وقريبٌ له بجيش ابن مردنيش العدوّ الأبغض لعثمان، فوجد أبو جعفر في ذلك فرصةً للتخلُّص من منافسه، وأراد ركوب البحر إلى ابن مردنيش، فترك غرناطة وذهب إلى مالقة، ولكنه ترك خلفه محبوبته حفصة التي بدأت تتجرَّع مرارة البعد عنه، وبدأ شعرها ينحو منحىً آخر يمتزج فيه الشوق مع الألم والدمع والإحساس العميق بالحرمان؛ إذ نجد حقول مفردات دلاليَّة جديدة مثل "البعد" و"الغياب" و"الحرمان" و"الحزن" و"الذكرى"، كما في قولها تُرسل السلام الذي يفيض بالوجد إليه، السلام الذي تتفتَّح به البراعم ويُحرِّض أوراق الشجر على الكلام، فالمحبوب يسكن ذاتها ولو كانت عيناها لا تراه، ثم تُؤكِّد حفظها الحب في بُعده، وأن نسيانه مستحيل:

ســـلامٌ يُفــــتَّحُ في زهـــــرِه الـ    ـكــمامُ ويُنطِقُ ورقَ الغصــونْ

على نـازحٍ قد ثَوى في الحشــــا    وإنْ كانَ تُحـــرَمُ منه الجفــونْ

فلا تحسَـــبوا البُـــــعدَ يُنسِـــيكم     فذلكَ والله مــــا لا يكــــــــونْ

وفي موضع آخر؛ تُشبِّهه بالنجم الذي يعلو سماء حياتها، وأنَّ غيابه أحال الكون ظلامًا أمام عينيها بعد أن كان مشرقًا بحضوره:

ولو لم تكن نجمًا لما كان ناظري   وقد غبت عنه مظلمًا بعد نوره

ولكن هناك في مالقة حيث مضى أبو جعفر؛ لم تمرَّ مدةٌ قصيرةٌ حتى أُلقي القبض عليه، فأمرَ الوالي بقتله صبرًا*، ويورد ابن الخطيب في إحاطته أن أحد أصحابه التقاه مقيَّدًا، ثم وجده في اليوم التالي مصلوبًا سنة (559هـ / 1163م).

لم تكن حفصة التي تتوق إلى رؤية محبوبها تنتظر هذا المصير المؤلم على كل الخوف والقلق الذي عاشته في حضوره وغيابه، فقد مرَّت أيامها مظلمةً حزينةً في بُعده عنها، لكنَّ ما نالته من مرارة الانتظار ولوعة الشوق لم يكن إلا خبر مقتله، فجهرَت بحزنها وألمها ولبست ثياب الحِداد عليه وبكتهُ طويلًا حتى تُوعِّدت بالقتل، ولكنها لم تكترث للتهديد وكأنَّ حياتها انطفأت هنا بفقدانها أعزّ الناس وأحبّهم إليها، راثيةً إيّاه:

هـــدَّدوني من أجل لبس الحِــــداد   لِحــبيبٍ أردَوه لـــي بالحِــــــــدادِ

رَحِــــمَ اللهُ مَـــن يجــــودُ بدمــــعٍ   أو ينـــــوحُ على قــتيل الأعــادي

وسَــقتهُ بمثــــل جـــــودِ يـــــديـهِ؛   حيثُ أضحى من البلاد؛ الغوادي

(توعّدوني لأنّني لبست ثياب الحداد على محبوبي الذي سفكوا دمه بالسيوف، فليرحم الله كل من يبكي ويندب مَن قتلَه الأعداء، وليجُدِ السحاب الماطر بسقاية قبره أينما كان مثلما كانت كفّاه تجود بالعطايا)

يورد ابن الخطيب في نهاية قصة حفصة عبارةً قاسية عنها: "ولم يُنتفَع بعدُ بها"؛ أي لم تتزوج ولم يعُد للحياة أي معنىً عندها، وربما ما يُؤكِّد ذلك أنَّها هجرت غرناطة وسافرت إلى مراكش، ثم تولَّت تعليم النساء في دار الخليفة المنصور (حفيد عبد المؤمن) بقية عمرها حتى وافتها المنية سنة 580 أو581 هـ (في حدود 1184 أو 1185م).

إضاءة وتركيب:

وقف المقال أمام قصّةِ حبٍّ خالدة متناثرة الأجزاء في متون الكتب التراثية الأندلسية، ثم حاول لملمة أجزائها مستعينًا بالتسلسل التاريخي والمنطقي المُتاح ومستنيرًا ببعض الدراسات الحديثة، ولكنّه بُنِيَ على أساسَين فنيَّين أيضًا هما: شكل الخطاب (Discourse Form) وموضوع الخطاب (Discourse Theme). وإذا كان لا يمكن الجزم بدقة الترتيب الذي ورد تفصيليًّا، فإنّه يمكن التخمين إلى حدٍّ كبير أنّه خطابٌ قريبٌ في إطاره الزمني-الترتيبي العام من القصة الأصلية. ويمكن إجمال بعض النتائج في النقاط الآتية:  

مثلت نصف مقطّعات الركونية الشعرية تقريبًا جزءًا من سرد مبنيٍّ على الحوار الشعري بينها وبين محبوبها الذي يتّخذ عمومًا شكل السؤال والجواب (دعوة ورد/عتاب واعتذار…)  وتُسبَقُ بمقدّمة بسيطة للقصة على لسان المصنّف-الراوي الذي يؤطّر هذا السرد، مع حضور أبي جعفر في سردٍ واحد فقط بوصفه راويًا ثانيًا، لذلك فإنّ هذه المقطعات ليست نصوصًا شعريّة قائمةً بذاتها وإنّما ترد في سياق حوار شعريّ أو شعري-سرديّ، فهي إمّا تنتظر الجواب أو تحمله؛ أي هي محفَّزة ومحفِّزة على الكلام والفعل.

ذُكِرَ في أغلب النصوص الشعرية الحوارية أنّها مكتوبةٌ على رقعة ومُرسَلةٌ إلى المحبوب، وهذا يشير إلى شكلٍ من أشكال الخطاب الأدبي التواصلي والتفاعلي بين المحبّين في العصر الأندلسي قد امتدّ قرونًا؛ إذ ذكره ابن حزم الأندلسي (ت 456هـ) في كتابه الشهير "طوق الحمامة" تحت باب سمّاه "المراسلة"، ووصفه بقوله: "حتّى إنَّ لِوصول الكتاب إلى المحبوب وعِلمِ المُحبِّ أنَّه قد وقع بيده ورآه لَلذةً يجدها المحبُّ عجيبةً تقوم مقامَ الرؤية، وإنّ لِردِّ الجواب والنظر إليه سرورًا يعدل اللقاء".

تحدّثت معظم أشعار الركونية -المستقلّة أو المتضمّنة في حوار- عن محبوبها، لتجسدَ صفات الرجولة المعنوية والحسية التي تستهويها فيها؛ وعبّرت عن معظم المشاعر التي تجلّي الحبَّ، وتبدّت عناصر أنوثتها في الخطاب بالتدلُّل والإغراء بمفاتن جسدها، والتهكّم اللطيف، والغضب الشديد في حضور المنافس أو الرقيب.  

اعتمدت الركونية مبدأ المخالفة في بعض شعرها ومواقفها، إذ حاججت محبوبها واستخفّت بأقواله وناقضته عدّة مرّات، وكأنّها تبارزه في الشعر وابتداع المعاني، وعلى الرغم من أنَّ صورها الشعرية تقليدية في معظمها، لكنَّ سياقها ضمن الحوار هو ما منحها جمالية الانزياح والمخالفة، إضافةً إلى جماليّة بيتَيها في الغيرة.

وأمَّا في قضية مخالفة العادة الاجتماعية فنعود إلى ما ورد في كتاب العمدة لابن رشيق القيرواني: "والعادة عند العرب أنَّ الشاعر هو المتغزل المتماوت، وعادة العجم جميعًا أن يجعلوا المرأة هي الطالبة، والراغبة، والمُخاطِبة"، ويورد أبياتًا لعمر بن أبي ربيعة يتحدّث فيها عن امرأةٍ غمزته وحاولت استمالتَه واللحاق به، فيعلّق كثيّر عزّة على الأبيات بقوله: "أهكذا يقال للمرأة؟ إنّما توصف بأنّها مطلوبةٌ ممتنعة".

وبالطبع فقد وُجِدت شاعرات معاصراتٌ للركونية -أو سبقنها زمنيًّا- تناولن كثيرًا من الموضوعات الشعرية التي تناولتها، وممّا لا شكّ فيه أنَّ المرأة في المجتمع الأندلسي تمتعت بحريّة أكبر من نظيراتها في المشرق، ولذا فإنَّ مخالفة الركونية للعادات الاجتماعية يحتاج إلى إلى مزيد من التثبُّت والتحقق والبحوث التاريخية، كي لا تُحاكم بمعايير منقوصة لا تتحرى النسق الاجتماعي الحقيقي آنذاك. ولكن يمكن القول أنَّ إفصاح المرأة الشاعرة عن عواطفها وتغنّيها بملذاتها الحسية ومفاتن جسدها ليس أمرًا كثير التواتر في المصادر العربية، أو أُهمِل ولم يُنقل كلّه، وهذا يؤكّد تفرّد تجربة الركونية لا في أقوال محدّدة فحسب، بل في سياقها العام الشامل أشعارًا وأخبارًا.

وفي مدار الأفق الاجتماعي لا يمكن إغفال الخطابات العنصرية التي وردت في أشعار الركونية ومقولة محبوبها، التي ترفضها القيم الإنسانية النبيلة رفضًا قاطعًا، ولكنَّ طبقة العبيد والجواري كانت جزءًا من المجتمع في ذلك العصر الذي عرف مظاهر عنصريةً عديدة. وليس بعيدًا أن تكون الغيرة قد أوقعت كلًّا منهما في تلفُّظ مقولاتٍ غير إنسانية تنحازُ إلى العرق واللون، إذ ترد أشعار لأبي جعفر يتغزّلُ فيها بغلام ساقٍ أسود البشرة ويمتدح وجهه ولونه وشكله!     

حكَمَ الواقعُ المضطرب على الركونية بأن تعيش في قلق وخوف بجوار محبوبها ثم أن تفقده وتكمل حياتها وحيدةً، ولكنْ لا يمكن إغفال موقفها القيمي والإنساني الإيجابي على الرغم من حجم مصيبتها؛ إذ أبرزت وفاءً وإخلاصًا كبيرَين لمحبوبها، وتوجّهت إلى تعليم النساء في دار الخليفة إلى آخر حياتها، فجسّدت أنموذجًا فريدًا لقوّة المرأة المثقفة وإخلاصها على مر العصور. فما رأيكم في قصتها؟!

الهوامش:

*أن يُقتَل صبرًا: أن يُحبَس حتّى يموت، أو يُعلّق على خشبة ويُرمى ويُترك حتى يموت.

المصادر الإلكترونية:

هنا

هنا

المصادر الورقية:

[1] الغرناطي، أحمد بن إبراهيم، صلة الصلة (ملحق بكتاب الصلة لابن بشكوال)، تحقيق: شريف أبو العلا العدوي، مصر، القاهرة، مكتبة الثقافة الدينية، (2008م)، ط1، ج3، ص459.

[2] ابن الخطيب، لسان الدين محمد، الإحاطة في أخبار غرناطة، مراجعة وتقديم وتحقيق: بوزياني الدراجي، الجزائر، الجزائر، دار الأمل، (2009م)، ط1، ج1: صص 419-430/ ج2، صص 60- 67.

[3] ابن دحية، عمر بن حسن، المطرب من أشعار أهل المغرب، تحقيق: إبراهيم الأبياري، حامد عبد المجيد، أحمد أحمد بدوي، راجعه: طه حسين، لبنان، بيروت، دار العلم للجميع، (د.ت)، ص 10.

[4] ابن الأبّار، المقتضب من تحفة القادم، تحقيق: إبراهيم الأبياري، مصر، القاهرة - لبنان، بيروت، دار الكتاب المصري - دار الكتاب اللبناني، (1989م)، ط3، ص219.

[5] المقري التلمساني، أحمد بن محمد، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، حققه: إحسان عباس، لبنان، بيروت، دار صادر، (1968م)، ج2: ص 262، 330/ ج3: ص 218/ ج4، صص 171- 196.

[6] ابن سعيد، علي بن موسى وآخرون، المُغرب في حُلى المَغرب، حققه وعلق عليه: شوقي ضيف، مصر، القاهرة، دار المعارف،(د.ت)  ط4، ج2، صص 103، 104، 138- 139، 164-168، 264.

[7] ابن سعيد، علي بن موسى، رايات المبرّزين وغايات المميّزين، حققه وعلق عليه: محمد رضوان الداية، سورية، دمشق، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، (1987)، ط1، صص 157، 158، 161-163، 170- 171.

[8] الحموي، ياقوت، معجم الأدباء؛ إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، حققه: إحسان عباس، لبنان، بيروت، دار الغرب الإسلامي، (1993)، ط1، ج3، صص 1182-1186.

[9] الحموي، ياقوت، معجم البلدان، لبنان، بيروت، دار صادر، (1977)، ج3، ص 63.

[10] الناصري، أحمد بن محمد، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، تحقيق وتعليق: جعفر الناصري، محمد الناصري، المغرب، الدار البيضاء، دار الكتاب، (1997م)، صص 78-159.

[11] ابن عذاري، أحمد بن محمد، البيان المُغرِب في اختصار أخبار ملوك الأندلس والمغرب، حققه وضبط نصه وعلق عليه: بشار عواد معروف، محمود بشار عواد، تونس، تونس، دار الغرب الإسلامي، (2013م)، ط1، ج2: ص 144، 172، 238.

[12] ابن حزم، علي بن أحمد بن سعيد، طوق الحمامة في الألفة والألاف، حققه وصوبه وفهرس له: حسن كامل الصيرفي، قدّم له: إبراهيم الأبياري، مصر، القاهرة، (دون دار نشر)، (1950)، صص 33- 34.

[13] ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ، راجعه وصححه: محمد يوسف الدقاق، لبنان، بيروت، دار الكتب العلمية، (2003م)، ط4، ج9، ص، 408، 416.

[14] ابن فارس، أبو الحسين أحمد، معجم مقاييس اللغة، تحقيق وضبط: عبد السلام هارون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، (1979م)، ط2.

[15] ابن منظور الإفريقي المصري، محمد بن مكرم، لسان العرب، لبنان، بيروت، دار صادر، (د.ت)، ط2.

[16] المعجم الوسيط، مصر، القاهرة، مجمع اللغة العربية، مكتبة الشروق الدولية، (2014م)، ط4.

[17] القيرواني، الحسن بن رشيق، العمدة في صناعة الشعر ونقده، حققه وعلّق عليه ووضع فهارسه: النبوي عبد الواحد شعلان، مصر، القاهرة، مكتبة الخانجي، ط1، (2000)، ج2، ص 788، 789.

[18] ابن هشام الأنصاري، جمال الدين، مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، حققه وخرج شواهده: مازن المبارك، محمد علي حمد الله، راجعه: سعيد الأفغاني، سورية، دمشق، دار الفكر، (1964)، ط1، صص 284، 286- 289.

[19] بالنثيا، آنجل جنثالث، تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة: حسين مؤنس، مصر، القاهرة، مكتبة الثقافة الدينية، (د.ت)، صص 40- 49، 242- 248.

[20] مكي، الطاهر أحمد، دراسات أندلسية في الأدب والتاريخ والفلسفة، مصر، القاهرة، دار المعارف، (1987)، ط3، صص 78- 96.

[21] شافع، راوية عبد الحميد، المرأة في المجتمع الأندلسي؛ من الفتح الإسلامي إلى سقوط قرطبة، مصر، القاهرة، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، (2006)، ط1.

[22] عباس، إحسان، تاريخ الأدب الأندلسي، عصر الطوائف والمرابطين، الأردن، عمان، دار الشروق، (1997)، ط1، صص 26، 65- 66، 130- 131.

[23] برانس، جيرالد، علم السرد، الشكل والوظيفة في السرد، ترجمة: باسم صالح، لبنان، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، (2012).