علم النفس > القاعدة المعرفية

الاضطرابات النفسية والمخدرات والإبداع

ماذا يجمع بين إدغارد ألان بو، فيرجينيا وولف، وفينسنت فان غوخ؟

جميع هؤلاء المبدعين عانوا من أمراض عقلية صعبة، فهل من المعقول أن تكون العبقرية مرتبطةً فعلاً بالجنون؟!

أجابت عن هذا السؤال طبيبة العصبية كاي جاميسون في مؤتمر لجمعية الطب العصبي بأن هذه الاضطرابات العصبية هي المحرك (المؤلم) وراء إبداعهم حقاً، حيث قامت بملاحقة الإصابات العقلية ضمن عائلاتهم ووجدت أن العديد من أقاربهم من الدرجة الأولى عُولجوا في مصحات نفسية أو انتحروا أو عانوا من أمراض عقلية مدى الحياة مثل الهوس والشيزوفرينيا والاكتئاب وغيرها. الخلفية الوراثية للإصابة باختلالات عصبية لم تكن فقط موجودة لديهم بل بشكلٍ قوي أيضاً، الكاتب المشهور ارنست همنغواي وحفيدته (عارضة الأزياء) مارغو همنغواي انتحرا رغم الفارق الزمني والحياتي بينهما لكن مصيرهما كان نفسه مكتوباً في حمضيهما النوويين وبالمجموع سبعة من عائلة همنغواي قتلوا أنفسهم، الأمر الذي يزيد السؤال عن سبب بقاء مثل هذا الخلل العقلي القاتل في المخزون الورائي البشري.

حسب الإحصائيات فالاضطراب ثنائي القطب يتواجد لدى الكتاب بشكل خاص أكثر من جميع المبدعين الآخرين، لماذا؟

فسّرت هذا جاميسون بأن المرحلة الهوسية من الاضطراب ثنائي القطب تمنح الكاتب طاقة وقدرة تحمل هائلة فيتجاهل النوم، يواجه المخاطر وتتوسع مخيلته وانفتاحه لتفكير أوسع. بينما تقوم صدمة اليأس التي تنهي المرحلة الهوسية بإغراق المؤلف في أعماق المعاناة البشرية، فيندمج في أكبر وأعمق أبعاد ما يمكن أن يختبره الانسان فيتأمل معنى الحياة ويجابه الموت ويناضل ضد عذاب اليأس لينجو. ثم تأتي مرحلة البحث في الذات التي تزيد من نقد النفس وتزيد من التعديل على ما كتب أثناء المرحلة السابقة.

فالفنانون الذين يُعالجون من مثل هذه الاضطرابات سَيُجردون من إبداعهم ومن قدرتهم على إدراكه، أما المجتمع فسَيُجرد من روائع خالدة كلوحات فان غوخ وقصائد ادغار الان بو التي لم تكن لترى النور لو أُودعوا في المصحات و المشافي النفسية. لذلك نجد بذور هذه الاضطرابات رغم قسوتها باقيةً ضمن الموروث البشري لحاجة المجتمع لثمارها.

رغم أن هذا المزيج القوي من العبقرية و الجنون يُفرض على بعض الفنانين بعشوائية ورائية إلا أن العديد منهم يقبل بهذه الصفقة الشيطانية ويتناول المخدرات ليبلغَ قمماً جديدة في فنه. كما أن العديد من الفنانين المعاصرين تحدثوا بتفصيل عن أثر الـ LSD في الارتقاء بهم نحو مستويات جديدة لم يتخيلوها قط. فقد سرع الكوكائين من وتيرة أجهزتهم العصبية حتى أُجبروا على إعادة تسجيل مقطوعاتهم و أغنياتهم عدة مرة بسبب سرعتهم الهائلة.

إن الهوس والاكتئاب والاضطرابات الأخرى تكون مدمرة للإنسان عادةً فهي لا تعيق المصابين بها فقط بل تدمر علاقاتهم الشخصية، وتفكك عائلاتهم، و تكلف المجتمع الكثير فحتى الناس الاقوياء يعانون الأمرين في سبيل المحافظة على حياتهم تحت وطأة هذه الأعراض التي تتسبب بها هذه الاضطرابات اللامُسيطر عليها. فالآخرون الذين يعملون على إحداث هكذا اضطرابات عن طريق المخدرات سيُصابون بنفس تلك الأعراض المهددة للحياة بل ولدرجات أخطر وأشد بسبب الادمان وسمية هكذا وسائل.

جيمي هيندريكس، الفيس بريسلي، جيم موريسون، ستيف كلارك، هؤلاء فقط أمثلة عن الفنانين الذين ماتوا بسبب جرعات زائدة من المخدرات. بالإضافة للمصيبة التي حملها الادمان إلى هؤلاء يدور السؤال عن الدافع، فهل فعلاً كانت الوسيقى التي تركوها تحت تأثير الأدوية تساوي الموسيقى التي اُسكتت قبل ولادتها ولن تُسمع مجددا بسبب موتهم المبكر؟

هذه المخدرات التي تسبب الإدمان تُفعّل عمل دارة المكافأة في اللوزة – الجسم المخطط - القشرة الأمامية في الدماغ، التي تعتمد على الناقل العصبي (الدوبامين) ولكن الجهاز العصبي يفقد حساسيته له مع الوقت مما يدفع المدمن لزيادة الجرعة للوصول لنفس الإحساس مما يدمر هذه الدارة في النهاية ويجعل المخدر وسيلة المدمن في تجنب الالم والضغط النفسي الذي يُصاب به عند انسحاب تأثير المخدر دون الوصول إلي النشوة، وعند هذه المرحلة من الإدمان فإن الجزء من الجهاز العصبي الذي يتحكم بالشدة النفسية يتفعّل بشكل مزمن، فنفس الزيادة المفاجئة من الهرمونات التي تُفعّل استجابة القتال أو الهرب في الوطاء واللوزة تتفعل في حالة التوقف عن تناول المادة المخدرة وتصبح هذه المادة وسيلة للتغلب على الخوف الناتج وليس للحصول على مكافأة.

إدمان الكوكائين، والميثامفيتامين والأفيون سائد بين الكُتاب المعروفين كـ ستيفان كينغ، وهانتر تومبسون وتشارلز ديكنز، الـLSD استخدم أيضاً من قبل بعضهم كـ تومبسون وجيسنبرغ. ولأن الكتاب والمؤلفين عادة لا يحظون بنصيب نجوم الروك من الثروة فقد كان الإدمان على الكحول ملجأهم، فبالاضافة إلى من تم ذكرهم نجد تينسي ويليامز، ف.سكوت فيتزجيرالد، وأشهرهم في الشرب كان أرنست همنغواي.

الضربة الثالثة لهذه الصفقة الشيطانية لاستخدام المخدرات لتحفيز النشاط الابداعي هي الآثار السمية، ففي دراسة لجامعة كامبردج نشرت عام 2012 لآثار الكوكائين على الدماغ، كانت نتائج الرنين المغناطيسي قد أظهرت ضموراً يعادل ضعف المعدل الطبيعي للتقدم بالعمر في الأفراد المُتعاطين للكوكائين ما يعادل خسارة 3 سنتمترات مكعبة من المادة الرمادية كل عام (خسارة حوالي الـ100 سنتمتر مكعب منها يخفض بشكل كبير من القدرة الإدراكية للدماغ) فالمناطق الأكثر ضمورا كانت الفصوص الجبهية والصدغية و هي من المناطق الأكثر تأثيراً على الوظيفة الإبداعية.

و في دراسة جديدة أخرى كشفت عن آلية أخرى غير متوقعة لسمية الكوكائين حيث تتفاعل جملة الأنزيمات P450 في الكبد مع الكوكائين لتشكل مركباً وسطياً عالي الألفة [كوكائين-تيول] الذي يرتبط بالبروتينات ويؤكسدها بشكل قوي لحد إمكانية الكشف عنه من خلال التحاليل حتى بعد عدة شهور من تناول المخدر. بالإضافة لوجود عدد كبير من الأدلة على تزايد أذى المخدرات عند استعمالها في مرحلة المراهقة الأمر الذي يُبالغ فقدان الإدراك في المراحل اللاحقة من الحياة وتراجع كبير في معدل الذكاء بسبب مرور الدماغ بتطورات كثيفة أثناء هذه المرحلة.

يتجاوز الناس عادة الحد في تناول الأدوية والمخدرات بسبب مشاكل شخصية، العديد من المصابين باضطرابات عقلية ومن ضمنهم الفنانون يلجأون للمخدرات ليتأملوا في ذاتهم و لكن بعضهم يتعاطى عمداً ليعزز قدراته الإبداعية. العبقرية والجنون مرتبطتان حقاً وبعض الفنانين مستعدون ليدمروا أنفسهم في سبيل تغذية أعمالهم الفنية، لكن هناك فرقاً كبيرا بين الفنانين الذين يبدعون تحت حملٍ ثقيل وضعته عليهم بعض الاضطرابات التي وُجدت لديهم وأولئك الذين يسببون تلك الاضطرابات لأنفسهم اصطناعياً، فالعمل الفني الذي ينتجه من تجاوز محنته هو دليل انتصاره عليها وتحويله الألم إلى إبداع، أما ما ينتج عن اضطرابات بسبب المخدرات، فهو منتج هذه المخدرات بحد ذاتها وليس الشخص.

في النهاية لا بد أن نذكر عدداً من التساؤلات التي قد تتوارد إلى الذهن:

- هل على الكُتاب - أو غيرهم من المبدعين - علاج أنفسهم اذا شُخصوا بأحد الاضطرابات رغم ان هذا العلاج سيُقلص قدرتهم الإبداعية بشكلٍ كبير؟

- هل يبرر أي عمل فني مهما كانت قيمته الأذى الذي سيلحق بالإنسان إذا حاول تحقيقه عن طريق المخدرات؟

- هل كنا سنصل لموسيقى الروك بدون المخدرات؟

- إذا قبلنا استخدام الكوكائين و الميثامفيتامين وغيرها من قبل الموسيقين لتقديم موسيقى تبهرنا، ما سيكون الفرق بيننا وبين من يقتل إنساناً آخر في سبيل التسلية والمتعة الشخصية؟

ملاحظة: الاضطراب ثنائي القطب: كما قد يسمى بالداء الهوسي الاكتئابي، اضطراب عقلي يسبب تغيرات شديدة في المزاج ومستوى النشاط والقدرة على ممارسة أعمال الحياة اليومية. أعراضه شديدة وتختلف عن التقلبات التي يتعرض لها الإنسان العادي من فترة لأخرى. قد توثر على العلاقات الشخصية والأداء في العمل أو المدرسة كما قد تؤدي للانتحار. يمكن معالجته والمصابون به يستطيعون التمتع بحياة طبيعية من كافة النواحي.

المصدر:

هنا

مصدر الصورة:

هنا