كتاب > الكتب الأدبية والفكرية

فن الرواية، قصة نشأتها عبر التاريخ، الجزء الثاني

راجعنا في الجزء الأوّل أهمَّ أفكار ميلان كونديرا ورؤيته في ماهية فنّ الرواية، وتساءلنا عن تعريف الرواية وما تحمله لنا، وعن ضرورتها في هذا العالم، وسوف نُكمل في الجزء الثاني من المقال عن رؤية كونديرا للأدبِ الكافكويّ (نسبةً إلى كافكا) وغيره من أنواع الأدب العالمي.

قسم التعدد المعرفي الروائي والأدبي

هو مصطلح من ابتكار الكاتب النمساويّ أدالبير ستيفر، وهو النوع الأدبي الذي يتيح للقارئ مجالاً كبيرًا من الساحة المعرفيَّة، ولا تختص بالوجود البشريّ بذاته، بل كل عصر يحمل مجموعة معارف يجب توضيحها، نستطيع أن نسميها رواية علميَّة أو رواية معرفيَّة إنَّ صح التعبير، أو من الممكن أن نصفها بأنها كتاب علميّ كُتب بطريقةٍ أدبيَّة، فالناحية المعرفية من الرواية تتكون من اعتمادها على المراجع العلمية والثقافية، التي يستخلص منها القارئ معرفته التاريخية والعلمية والاقتصادية والجغرافية، مثلما يستخلص منها معرفته الفلسفية والوجودية، ومن الممكن أن تتكون الرواية من حوارٍ علميٍّ نشأ بسردِ أحداثٍ تقع في مُختبرٍ ما، وهكذا تكون قد أصدرت معرفة كاملة عما يحدث في ذلك المختبر للقارئ، وهنا نستطيع أن نصفها بأدب التعدد المعرفي.

نستخلص مصطلحًا شبيهًا به وهو الرواية المتعددة الأصوات، أو الرواية البوليفونية؛ وهي سمة من سمات السرد القصصي ونوع أدبي للرواية الحديثة الذي يفسر الواقع من عدة وجهات نظر متراكبة في آن واحد، ولا تعتمد على وجهة نظر وحيدة فحسب. ويصبح الواقع في داخلها أمرًا معقدًا للغاية، ولا يحاول إعادة إنتاجها فقط؛ لكنه يهدف إلى استبدالها داخل محيطها الأدبي، ونستطيع أن نأخذ روايات من الأدب الروسي، مثل رواية الأخوة كارامازوف للروائيّ ديستوفيسكي، وهي رواية تضاربت فيها الأفكار والآراء ووجهات النظر تضاربًا واضحًا، ومثّلت مصطلح الرواية المتعددة الأصوات بوضوح.

 

قسم حوار في الفن والموسيقا:

حسب رأي كونديرا؛ فإنّه لا يوجد فرقٌ كبيرٌ بين المقطوعة الموسيقية الكبيرة وبين الرواية الكبيرة، بل إنَّ الاثنين يعكسان فنًّا عظيمًا يعتمد على المنطلق نفسه من التركيب، ويصف ذلك بواسطة المزج بين تراكيب البوليفونيا، التي هي التطوير المستمر والمتزامن لصوتَين، أو عدّة أصوات مرتبطة فيما بينها على نحوٍ تام، وهكذا تحتفظ باستقلاليتها وكأنها قطعةٌ واحدة. والأمر لا يختلف عن الرواية، أو ولنقل البوليفونيا الروائيَّة، ولهذا يَجب أن تكون الرواية تَحمل النمط الموسيقيّ نفسه، وسوف يُكمل كونديرا شرح هذه الفكرة وكيف يمكن لنا مزج الرواية مع المقطوعة الموسيقية.

طالما كان ميلان كونديرا مهووسًا بالأرقام، ولكن ما سرّ هذا الهوَس بتقسيم الكتاب إلى أرقامٍ مُفصّلة؟

يرى كونديرا أنَّ الرواية -أو تلك المقطوعة الموسيقيَّة كما يصفها- يجب أن يكون فيها كل قسم مستقلًا بذاته في طريقة السرد، ولا يقصد هنا التغيرات الجذرية أو الانتقالية في الأحداث أو في الأماكنِ في الرواية -كما نعرفها في طريقة الكتابة الكلاسيكيَّة- بل يقصد وضع صيغة سردية خاصة لكل قسم، ليعيش القارئ جميع زوايا رؤية المُتخيِّل؛ السرد السببي، والسرد البنائي، والسرد الحلمي.

وهذا ما يسبب سرعة النبض في الرواية، مثل الموسيقا عندما تهدأ، وأنت تهدأ معها، ومن ثمَّ تعلو ويتسارعُ نبضك مع وتيرةِ الأحداث، يجب على القارئ أن يعيش الشعور نفسه مع الرواية، ويجب أن تُقسَّم الرواية على شكلٍ يوفّر لها أن تُعايَش بهذا الشكل. 

القصيدة هي هُناك، مُتخفية في مكانٍ ما:

يبدأ ميلان كونديرا هذا القسم بمقتبسٍ من يان سكاسيل، ويقول فيه:

"الشعراءُ لا يبتكرون القصائد، القصيدة هي هناك، متخفية بمكان ما، هي هناك منذ زمنٍ طويلٍ جدًّا، الشاعر لا يعمل سوى أن يكشف عنها"، وينتقل بنا إلى رواية "جوزيه سكفورسكي" لتكون مثالًا دقيقًا عن شرح معنى الأدبِ الكافكويّ، فإن كلمة "كافكويّة" المُستنبطة من عمل فنّيّ روائيّ، والتي حُدِّد معناها بواسطة الصُّوَر التي ألّفَها روائيّ فقط؛ تبدو كأنَّها القاسم المُشترك الوحيد لحالاتٍ أدبيّة وواقعيّة على حدٍّ سواء، والمفتاحُ لتفهمها هو علمُ السياسة أو الاجتماع أو سايكولوجية الذات البشرية.

لكن ليشرحَ معنى كلمة الكافكويّ شرحًا أدقّ؛ فقد قدّم لنا كونديرا أربعة مظاهر تصف الأدب الكافكويّ:

المظهر الأول: هو وصف متاهة اللانهاية في العمل الروائيّ، ونستطيع وصف ذلك؛ وبكلِّ دقّة؛ أنها الورطة التي يقع الإنسان فيها دون بصيصِ أملٍ بالخروجِ منها، وكأنهُ في متاهةٍ مظلمة، واشتُهر الأدب الكافكوي بإسقاطه لهذه الفكرة لوصف الأنظمة المخابراتيّة والاقتصادية والسياسية القمعية.

المظهر الثاني: يشبه وجود بعض الشخصيات في الرواية، إنّه يشبه وجود ظل خاطئ في المتاهة المظلمة، وهنا الظل يغلب عليه طبع المثالية في التعامل والنظرة إلى الأمور، وبذلك يُقسَّمُ العالم إلى قسم أفلاطونيّ يسعى وراء المدينة الفاضلة، وهم من يشكلون الظل الخاطئ، لعدم فهمهم حقيقة العالم العبثي، وقسم مادي بشري، يسعى إلى حقيقة الحقيقة في هذه المتاهة. ويُشير الأدب الكافكوي إلى أنَّ هذه الأقسام متصادمة تصادمًا تامًّا، فالإنسان الذي يعامل هذه الحياة على أنها يجب أن تكون مثالية على نحوٍ تام؛ أي مدينةً فاضلة؛ سوف ينتهي به الأمر إلى تعبٍ مُزمن من التصادُم مع القسم الآخر، وإن صحَّ التعبير، هو يتعب من انعكاسِ أوهامه الخاطئة في خيالهِ المَحدود، ومن هذه النقطة حاول مفسرو الأدب الكافكويّ وصفه بأنّهُ أدبٌ لاهوتيّ، ولكن كونديرا عارض تلك الفكرة، بل وصفها بمصطلح "اللاهوتيَّة الزائفة" وهذا لأنه يرى أنّ كافكا قد لامس الواقع البشري والتفاصيل الإنسانية ملامسةً كاملة، دون الاستناد إلى الرمزية الدينية ومحاولة تفسيرها أو الاستعانة بها. وفسَّر ردّة الفعل تلك من مفسري الأدب الكافكوي بأنّه تفسير لاهوتي، إذ أينما تتألّه السلطة تُنتج آليًّا لاهوتها الخاص بها، وأينما تتصرف مثلَ إله توقظ اتجاهك مشاعرَ دينيّة.

المظهر الثالث: يبدأ بتوضيح هذا المظهر بشرح شخصية راسكولينكوف في رواية الجريمة والعقاب لـ ديستوفيسكي، وكيف تحمّل عبء ذنبه، ليستريح في أرضِ القعاب، وهي حالةٌ معروفة عندما تبحثُ الخطيئةُ عن العقاب، أمّا عند كافكا ما هو أسوأ من ذلك، فالضحيةُ مغلوبٌ على أمرها، والمُعَاقَب لا يعلمُ سببَ عقابه، وهذا يعيدنا إلى المظهر الأول من الأدب الكافكويّ، وهو المتاهة المُظلمة، حتَّى إنَّ الضحية تبدأ بالبحثِ عن ذنبها، ويودُّ أن يشرح أحدهم سببَ العقاب، فيترجّى الجلادَ لكي يعترفَ لهُ ما ذنبه، ويرتاح.

يُذكرنا هذا المظهر بأحد المقتبسات التي سردَها ميلان كونديرا في النصف الأول من الكتاب، إذ يقول: "من الصعب أن يكون المرءُ شهيد اللاشيء".

يشرح كونديرا ذلك بمثال من رواية سكفورسكي:

" ما دام ك. لا يعرف التهمة الموجهة إليه، فإنَّهُ يقرِّر، في الفصلِ السابع، أن يستقصي حياته كلها، وكلَّ ماضيه، حتى في أدنى تفاصيلهِ أهميةً. آلة الشعور الذاتيّ بالذنب، شرَعت في الاشتغال، إن المتهم يبحثُ عن خطيئته!"

المظهر الرابع: وهو ما وصفه كونديرا بالرعبِ الهزليّ، ويرافق ذلك سردٌ من رواية سكفورسكي نفسها، ويقول: إن الكافكوي يقودنا إلى داخلِ المزحة، إلى جوفها، إلى الرُّعب الهزليّ.

في الرعب الهزلي، لا تُمثّلُ الكوميديا بذاتها "التراجيكوميدي" إن المأساويّ هُنا ليس ليجعل الرعب أقلَّ حدَّةٍ وقابلية للتحمّل، بل ليجعله أكثر رُعبًا.

ستُّ وستّون كلمة

يشرح ميلان كونديرا في هذا القسم كيف بدأ بالتفكير بالكلمات المفتاحية للرواية، وقد تمَّ ذلك بعد أن تُرجِمَت روايته "المزحة" إلى عدَّةِ لُغاتٍ مُختلفة، وهذا ما ترك أثرًا كبيرًا في نفسه، وكان الدافع الأول ليصنع قاموسه، ويعرض لنا قاموسه بالكامل في القسم الأخير من الكتاب، الكلمات ذات الصدى القوي، التي يصعب على القارئ تجاوزها دون أن يصله المعنى المقصود، ويرافق تلك الكلمات رؤية كونديرا لها.

معلومات الكتاب:

الكتاب: فن الرواية.

اسم الكاتب: ميلان كونديرا.

ترجمة: خالد بلقاسم.

دار النشر: المركز الثقافي العربي-الدار البيضاء-المغرب.

تاريخ النشر: 2017.

عدد الصفحات: 189 صفحة.