العمارة والتشييد > التشييد

دارُ الأوبرا في سيدني.. من مشروعٍ فاشل إلى لائحة التراث العالمي

من منّا لم يرى صورَ دارِ الأوبرا في سيدني؟ ذلك التصميم الاستثنائي الذي يشدّ ناظريك بسقفه الغريب الفريد الذي يعدُّه الكثيرون التحفة المعمارية الأبرز في القرن العشرين.

لنتعرف في هذا المقال المصاعب التي واجهت هذا المشروع، وهل استحقَّت هذه التحفة المعمارية الأموال التي دُفِعَت من أجلها أم لا؟

 

"إنَّ بناء المنشآت الأصيلة التي تعبِّر عن الموهبة وتوفِّر القدر الأكبر من المتعة سيكون موضعَ فخرٍ وثقةٍ للحكومة، ليس اليوم فقط ولكن لمئات السنين القادمة".

من كلمة جون جوزيف كاهيل John Joseph Cahill  رئيس حكومة New South Wales  في مؤتمرٍ حول إنشاء دارٍ للأوبرا عام 1954.

لمحة عن المشروع:

في الأوّل من شباط عام 1956 أُعلِن عن مسابقةٍ دوليَّةٍ لاختيار تصميمٍ لدار الأوبرا، وطُلِب أن يتكوَّن المشروع من قاعتين إحداهما بسعةِ 3000 مقعدٍ والأخرى بسعةِ 1200 مقعدٍ، وطُلِب أن يتضمن التصميم مطعمًا وقاعتي اجتماعات لاستضافة مختلفِ الأحداث الفنيَّةِ والثقافيَّة.

بعد تقديم 233 اقتراح أُعلِن عن نجاح تصميم المعماري الدنماركي جورن أتزن Jorn Utzon ذي الـ 38 عامًا نظرًا لكون تصميمه أصيلًا وإبداعيًّا؛ إذ صمَّمه  دون الحاجة للذهاب إلى الموقع لرؤيته، واعتمد على الصور والخرائط فقط.

وبعد موافقة أتزن عُيِّن أوفي أروب Ove Arup وشركاؤه مهندسين مسؤولين عن الدراسة الإنشائية للمشروع عام 1958، وبدأت أعمال البناء عام 1959.

المشكلات التي رافقت المشروع:

ترافق المشروع مع مجموعةٍ من المشكلات المتعلِّقة بالتمويل والتنفيذ والتأخير الزمني، ويمكن إجمالها بالآتي:

1- لم يكن في نيَّةِ الحكومة كما تبيَّن في السنين اللاحقة لإنشاء صندوق المشروع أن تموِّل المشروع حتى نهايته، ولم يأخذ اختيار التصميم بالحسبان خبرةَ المتقدِّمين لمثل هذا النوع من المشاريع الضخمة؛ إذ لم يتوصَّل فريق العمل إلى التصميم الكروي للسقف حتى المدَّة الممتدَّة بين عامي 1961 و1962، أي بعد ثلاث إلى أربع سنوات من بدء التنفيذ. وربما اختُصِر وقت التنفيذ لو اعتمد الفريق تصميمًا معماريًّا مألوفًا في ذلك الوقت؛ إذ كانت القوى المؤثِّرة على العناصر الحاملة تُحسَب يدويًّا، وكان مشروع دار الأوبرا هذا من أوائل المشاريع الكبرى التي استخدمت التصميم بمعونة الحاسب CAD، بالإضافة إلى استخدام الحواسيب في تحليلِ الأحمالِ الداخليَّةِ للسقف، مما شكَّل تحديًّا هندسيًّا كبيرًا.

2- تعاقب على إدارة وتنفيذ المشروع العديد من أصحاب القرار، ووفقًا لمعايير ميتشل Mitchell criteria التي تصنِّف صاحبَ القرار الفاعل تبعًا لثلاثة شروط أساسية؛ القوَّة والأهليَّة والسرعة، يمكن القول أنَّ مشروع دار الأوبرا في سيدني لم يحظَ بمن تجتمع فيه كافة هذه المعايير؛ ففي البداية كانت حكومة New South Wales   هي المسؤول الأساسي عن المشروع محقِّقةً جميع معايير ميتشل، ثمّ انتقلت هذه المسؤولية إلى لجنة الحكم التي انتقت الفائز بتصميم الدار، ولكنَّها افتقدت قوَّة التأثير اللازمة بعد اختيارها للفائز، ممَّا جعل الفائز بالمنافسة Jorn Utzon مع Ove Arup المشرف على التصميم الإنشائي المدير الفعلي والمثالي للمشروع. إذ كان من المفترض أن يتَّخذ Utzon كافة القرارات المتعلقة بالتصميم والبناء والتطوير، ولكنَّه لم يكن مديرًا مثاليًّا، فقد كان عنيدًا ورفض الإصغاء إلى حلول المهندسين حول السّقف، وفي السنوات الأولى من المشروع عمل أتزن من أوروبا ورفض تفويض المهام؛ فعلى الرّغم من أنّه معماريٌّ لامع لكنَّه لم يكن مديرًا ناجحًا، وكان همُّه الوحيد الحفاظَ على الأصالةِ المعمارية للسقف بغضِّ النظر عن الكلفة وزمن الإنجاز. وبعد استقالة Utzon عام 1966 لأسبابٍ تتعلق بالتمويل عيَّنت الحكومة كلًّا من Hall Todd وLittlemore مكانه، ومارست عدَّةُ أطرافٍ شكلًا من أشكال التدخُّل في المشروع، وأهمُّ هذه الأطراف هيئة الإذاعة الأسترالية the Australian Broadcasting Commission ABC.

3- سبَّبت حالةُ عدم اليقين وعدم وضوح الهدف والتغيير المستمر في أسلوبِ التنفيذ وكادر العمل الكثير من المشاكل؛ إذ بُنِيَت أجزاءٌ من المشروع (قشريات السقف) ثمَّ هُدِمَت وأُعِيدَ بناؤها مجددًّا، بسبب عدم وجود منهجيَّةٍ معيَّنةٍ للتنفيذ وخاصَّةً بما يتعلَّق بإنشاء قشريَّات السقف، ولم تكن الحكومةُ متأكِّدةً ممَّا تريده من المشروع، فبعد أن ضمَّ التصميم الأصلي مسرحين، أخبرت الحكومة أتزن لاحقًا بأنَّها تريد أربعةَ مسارح، ممَّا تطلَّب منه إعادةَ تصميمِ بعض أجزاء المبنى وأخَّرَ الإنشاء.

4- بسبب التغييرات التي طرأت على مخطَّطات المشروع وما رافقها من تأخير أصبح التقديرُ الدقيقُ لتكلفة هذا العمل الضخم صعبًا، وأصبحت الكلفة والوقت المقدرين للمشروع غير كافيين، واستمرَّت التكلفة بالارتفاع ممَّا طرحَ مشكلةً حول كيفيَّةِ تمويل هذا المشروع الضخم، فعلى الرغم من أنَّ الحكومة لم تضع سقفًا للأموال المتوفِّرة في البداية، لكنَّها بعد أربع سنوات حدَّت التمويل ممَّا سبَّب إحباطًا لأتزن حتى استقالته عام 1966. زادت الحكومةُ تمويلَ المشروع لاحقًا، معتمدةً على المردود الذي يدرُّه قطَّاع اليانصيب، لكنَّ أتزن رحلَ آخذًا معه فكرته وما عمل عليه من مخطَّطات، ثمَّ أكملَ المشروع فريقٌ من المعماريين الأستراليين بقيادة بيتر هال  Peter Hall  الذي وضعَ التصاميم الجديدة بهدف إكمال المشروع. واتَّضح سوء تقدير الكلفة بمقارنةِ ما رُصِدَ للمشروع بدايةً (7 مليون دولار أسترالي) وما صُرِفَ فعليًّا حتى نهاية المشروع (102 مليون دولار أسترالي)، إضافةً إلى سوء تقديرِ الزمن اللازم للإنجاز؛  فقد استغرقَ التنفيذ 14 سنةً وهو أكبر بكثير من الزمن الذي قُدِّر لإنهاء المشروع والبالغ 4 سنوات.

تمويل المشروع:

على الرغم من مرورِ حكومة الولاية بمشكلةِ تمويل المشروع عام 1966، لكنَّها لم تكلِّف دافع الضرائب إلَّا القليل، أمَّا القدر الأكبر من الكلفة فقد غُطِّيَ عن طريق عائدات يانصيب الولاية الدوري.

حالة البناء في الوقت الحالي:

يضمُّ البناء حالياً قرابة 1000 غرفةٍ، تتضمَّن الصالات الخمس الكبرى، بالإضافة إلى وجود بهوِ استقبالٍ وخمسِ غرفٍ للتدريب وأربعةِ مطاعم وستَّة مسارح وردهةٍ واسعةِ المساحة ومكتبةٍ ومكاتب إدارية وستين غرفةٍ لتغيير الملابس وغيرها.

أضيفت دار الأوبرا في سيدني عام 2007 إلى قائمة التراث العالمي من قبل اليونيسكو، وتستضيفُ حاليًّا قرابة 3000 حدثٍ ومناسبةٍ سنويًّا بحضورٍ إجمالي يقارب 2 مليون شخص.

الدروس المستفادة من هذا المشروع:

● أهميَّةُ التخطيط الجيد وإتمام التصاميم على نحوٍ كامل قبل التنفيذ الذي يوفِّرُ الكثير من الوقت والمال.

●أهميَّةُ استشارة الخبراء قبلَ البدء بمشروعٍ متفرِّدٍ بتصميمه، إذ قُدِّرت الكلفة الأولية للمشروع والرسومات الإنشائية دون استشارة خبراء الإنشاءات؛ ممَّا قاد إلى إعادةِ التصاميم عدَّة مرَّات، وأدَّى إلى المزيدِ من التأخير الزمني الذي كان من الممكن تجنُّبه.

● يؤثِّرُ اختيارُ المواد والتصميم النهائي على كلفة الصيانة كثيرًا، فاختيار مواد هذا المشروع وخصوصًا الإكساء الخارجي سبَّب تكاليفًا عاليةً للصيانةِ الدوريَّة.

● أهميَّةُ وضع إستراتيجيَّةٍ جيِّدةٍ لإدارة المشروع خصوصًا في المشاريع الكبيرة وغير المسبوقة، فعلى الرغم من أنَّ أتزن مهندسٌ معماريٌّ لامع، لكنَّهُ كان مديرًا سيئًا للمشروع، ولو توفَّرت فيه مقوِّمات المدير الناجح إضافةً إلى إبداعه المعماري لكان ذلك في صالح المشروع.

● أهميَّةُ دعم الحكومة للمشروع وتأييدها لخطَّة التنفيذ؛ إذ أنَّ التمويل اعتمد أساسًا على عائدات اليانصيب الحكومي، ممَّا أمَّن الأموال في مرحلة الإنشاء، ولا يزال الدعم الحكومي للمشروع مستمرًّا في مرحلة التشغيل.

هل نجح المشروع أم لا؟

تبيَّن أثناء مرحلةِ الاستثمار أنَّ هذا البناء المعماري الفريد لم يكن قادرًا على تغطيةِ مصاريفه وحده، ولذلك تلقَّى الدعم الحكومي على نحوٍ مستمر، وإذا أضفنا كلفةَ الإنشاء سيكون المشروع خاسرًا خسارةً كبيرة من وجهةِ نظرٍ اقتصادية، فإنَّ قيمةَ أيقونةٍ معماريَّةٍ كهذه تثير الجدل؛ إذ لا تستطيع الأرقام تقدير القيمةِ التي يمثِّلها هذا المشروع لسكَّان المدينة.

المصدر: 

هنا

هنا