كتاب > الكتب الأدبية والفكرية

فن الرواية، قصة نشأتها عبر التاريخ، الجزء الأول

طالما كانت المدرسةُ الأدبيَّةُ أحدَ شموس الحداثة والنهضة نحو فكرٍ أكثرَ قدرةً على فهم الوجود البشري، ثمَّ إنّها تفتح لنا -نحنُ القُرّاء- أبوابًا مُتعددةً للتفكيرِ والمعرفة، وكأنّها نوعٌ استثنائيٌّ من التأريخ لروح العصر، وفي طلائع هذه المدرسة تَقِفُ الرواية باعتزاز وفخر يليق بها وبما قدمته لصياغة النفس الإنسانيَّة، والوجود، وتجسيد الثقافة الاجتماعية السائدة أو الثورة عليها، ووضعت بصمَتها في المعايير كافّةً؛ الاجتماعية منها والاقتصادية والسلطوية والفلسفية، وأكثر ما يُميّز الرواية أنها تُكتَب بالفن المُتجسِّد في رؤية الكاتب لا غيره، وفي هذا المقال سوف نتحدث عن فن الرواية.

تَعمَّقَ الإنسان في متاهات الفلسفة والتفكير والإثارة مع الروايات من حقبةٍ زمنيَّة غابرة، فالأدب العالمي منصةٌ حُرّة تَحمل روحَ كُلٍّ منّا ليجدَ شيئًا من ذاته، ولنتذكر دائمًا أنَّ الروائيّ لا يكتبُ ليُرضي القارئ بقدر ما أنّه يكتب ليُرضي وجوديته وباطنه الفلسفي، تاركًا بين الصفحات خطوةً نخطوها لننتقل إلى مرحلةٍ أفضل من فهم الذات البشرية؛ ولأنَّ هذه الأفكار غيرُ مُطلقة، بل نسبيَّة إلى حدٍّ كبير، وتَختلفُ بين روايةٍ وأُخرى وقدرةِ كاتبٍ وآخر "وهذا إن عددنا أنَّ كُلَّ ما كُتِب من ترتيب أحداثٍ وسرد وتأسيسِ شخصياتٍ تتداورُ الحوار بينها، هو يستحق الوصف الذي ذُكر أعلاه" اخترنا لكم كتابًا يُجسِّدُ معنى فن الرواية، ويشرح مداها الفلسفي وأثرها في التاريخ وفي صقلِ الوعي البشريّ ليكون بمرتبةٍ أفضل، وهو كتاب الروائيّ والمُفكر ميلان كونديرا، سوف نكتشف في هذا الكتاب رؤية كونديرا لتعريف الرواية وغايتها وأهميتها وفلسفتها.

ميلان كونديرا هو كاتب وفيلسوف فرنسي من أصول تشيكية، يبدأ كونديرا في كلامه عن الرواية من مقولات فلسفيَّة وتاريخيَّة تبدأ مع هوسرل في الفلسفة، ومع تولستوي في الرواية. وتقوم هذه المقولات على أن الفلسفة هي تعبير عميق عن الوجود والحياة والواقع الملموس، فيقول ميلان كونديرا:

"عالمُ النظريّات ليس عالمي، هذه التأمّلات هي تأمّلات مُمارسٍ لفنّ الرواية، فمجموع أعمال كُلّ روائيّ تنطوي على رؤية ضمنيّة عن تاريخ الرواية وعن ماهيتها. هذا التصوّر عن الرواية المُحايث لرواياتي هو الذي جَعلتهُ يُفصحُ عن نفسه في هذا الكتاب"

في مقدمة الكتاب يتحدث ميلان كونديرا عن تحوّل الفلسفة إلى شكلٍ آخر وهو الرواية، مُدَّعيًا أنَّ العلم وبعضًا من الفلسفة قد تناسيا كينونة الإنسان، ورغبتهُ بلغةٍ يَنجبلُ معها ليكتشف ذاته أكثر، وهي الرواية. وكيف استطاعت الرواية أن تُجسِّد الوجود الإنسانيّ، فالروائيّ يَبدأ بالبحث عن ذاته وتجسيده بوصفها إنسانًا قبل أيّ شيء، وطالما حاولَ الروائيين وصف باطن الإنسان في كل حقبة زمنية وهذا انطلاقًا من الغوص في ذواتهم وانتهاءً بالغوصِ في كل ذاتٍ بشرية تَتجسَّدُ في نصوصهم.

ينتقل بنا كونديرا إلى تاريخ نشوء الرواية في أوروبا الوسطى، حتى إنّه يربط نشوء فن الرواية كاملًا بتلك الحقبة الزمنيَّة، ومن هُنا يُقدّم فكرته وهي ربط  نشوء الرواية باندلاع الحرب والألم والقمع، من السُلطة والطبقة البرجوازيَّة، فالرواية أول من أطلقَ السؤال الآتي "لِمَ الحرب؟" وبرأيه فإنَّ فنّ الرواية في تلك الحقبة الزمنيَّة اعتمد إجابةً واحدة، قُدِّمت بأشكالٍ مُختلفة وهي؛

"لا هدف لها إطلاقاً، إنها عنف القوّة الذي لا يريد سوى إرادته، إنه اللامعقول الخالص".

يحاول ميلان كونديرا بهذا التساؤل توضيحَ أثر الواقع على نشوء الرواية، وطالما تنشأ الروايات من بين ركام الحروب والألم والانكسار العاطفي أو الصراع الداخليّ؛ وبمعنىً أدقّ؛ فالرواية لا تُكتب دون أن تَطرح سؤالها الأول وهو "لِمَ الحرب؟" ولا تنتهي إلّا بإجابة فلسفية لا ترضخ للواقع والانتماء بقدرِ رضوخها للرؤية المُحايدة التي تُشرِّح أفكار الشخصيات؛ الظالم، المظلوم، الضحية، البطل، الخائن، المجنون، الحكيم، السُلطة..إلخ. وحسب رأيه فهذا هو أهمُّ منطلقات الرواية، فهي ليست تأريخًا يكتبه المُنتصر وليست تقريرًا أكاديميًّا يكتبه المُنتمي، بل هي فلسفة داخليَّة تتحدث من منطلق الفنّ الصارخ ضد هذه الفوضى، فنّ يَعكس رؤيته لا أكثر.

يتساءل كونديرا: هل مِن المُمكن أن تموت الرواية؟!

يوضح لنا الكاتب هُنا بثقة أن هُناك ما يُسمّى روح الكتاب، ولهذا يَنفي موت الرواية على نحو نهائيّ، فالرواية تَملك روحًا تُغذّيها وهي روح العصر وتَنتقل من شكلٍ إلى آخر، ولكن الموت! هذا أصعب ما يمكن أن يَحدث. كونها المرآة التي تَعكس للإنسان وجوده وفلسفته وغايته ومخاوفه، ولكن مع ذلك؛ يفترض كونديرا جدلًا أنَّ الرواية سوف تَختفي، وبرأيه أنَّه حتى لو حدث ذلك فهو لا يُفقِد الرواية قيمتها، بل يعني أنها أصبحت في عالمٍ غيرِ عالمها، وكم سيكون ذلك العالم خاملاً دونَ الرواية!

ويَصف ميلان كونديرا أنَّ الرواية هي الروح الأكثر تعقيدًا، وهذا التعقيد يتناسب مع عُمر الرواية، فكل رواية تقول للقارئ أنَّ الأمور أكثر تعقيدًا ممّا يتخيَّل، ولأنّ الرواية وليدة الوعي الاجتماعي في كُلِّ زمن، فهي روحٌ تزداد حدّة فلسفتها مَع كُل تقدمٍ للوعي البشري.

القسم التالي من الكتاب هو قسم على شكلٍ حواريّ بَين كريستين سالمون وميلان كوندرا، نَجد في هذا الحوار تفاصيل رؤية كونديرا لكثيرٍ من الروايات من الأدب العالمي مثل ديستوفيسكي الذي يَعدُّه فيلسوفًا روائيًّا قدم فلسفته الوجودية بواسطة شخصياتِ رواياته، ويعدّه مُمثلًا للرواية المتعددة الأصوات، وإضافةً إلى ذلك؛ يَعدُّ فرانز كافكا أنّه أحدث ثورةً في الأدب لن يحدث مثيلٌ لها.

من أهم الأفكار التي تتضح في الحوار هو توجه ميلان كونديرا إلى مقولة دانتي:

" في كُلِّ فعلٍ يكون القصد الأول للذي يَفعل هو أن يكتشف نفس صورتهُ الخاصة"

ليَشرح لنا كونديرا رابط وجود فنّ الرواية مع هذا المُقتبس الفلسفيّ. ففعلُ الرواية بحدِّ ذاته فعلٌ قائمٌ لاكتشاف الـ "أنا"، مَن يكتب الرواية هو شخص ينفذ مقولة دانتي حرفيًّا، بطريقةٍ فنيَّة، وعلى هذه الوتيرة يحاول كونديرا بكلِّ جهد أن يصوغ رابط الوجود والإنسان والرواية، فيقول:

"إن الإنسان والعالم مرتبطين مثل ارتباط الحلزون وصَدفته، والرواية هي أحد الوسائل التي تُشير إلى هذا الرابط"

وترتبط كلُّ رواية بالمنحى التاريخي الذي كتبت فيه، لتصيغَ رؤية الروائيّ كما يراه، وتشرح الـ "أنا" السائدة في ذلك العصر، فلا تقع الرواية في الواقع بل في الوجود بالكامل، فالروائيّ ليس مؤرخًا ولا نبيًّا، بل مكتشفَ وجود.

ينتقل بنا ميلان كونديرا لنغوص قليلًا في رواية المسرنمون وهي ثلاثية كتبها هرمان بروخ وتتألف من:

باسنوف وتعني الرومانسية

إش وتعني الفوضى

هوغناو وتعني الواقعيَّة

تقدّم لنا هذه الملاحظات عُمقَ الوجود الإنساني المُستخلَص حين الوصول إلى العدم، وحسب رأيه؛ مهما بلغ اقتناعك بعدميَّة هذه الحياة فأنت تطمح إلى ترك شيء منك في الوجود، وحتَّى بعد موتك وانتقالك إلى العدم تتمنى أن تموت على نحوٍ يَليق بالوجود، فيقول كونديرا:

"إذا كان مُرعبًا أن يكون المرء محكومًا بالإعدام، فإنه لا يطاق البتّة أن يكون الحكم عليه بلا سبب، أن يكون شهيد اللاشيء"

يحارب كونديرا الواقع المهيمن على أوروبا في تلك الفترة، ويوجِّه مخالبه اليسارية نحو الطبقة الحاكمة، ويصفها بأنَّها مُقسّمة إلى حاكم علويّ، وهو من يرتدي لباس القس، والحاكم الدنيوي، وهو من يرتدي زيّ العسكر، وهذه المقارنة تتضح في الأحداث بين بطل الرواية باسنوف وزوجته التي لا تُحبه.

قسم ما وراء السببيَّة

يتجسَّد هذا الطابع اللاسببي واللاعقلاني واللامتوقع في النفس البشريَّة، تلك التصرفات الساذجة التي نعزوها إلى تبريرات لا تقلُّ سذاجة أيضًا، ويستعين ميلان كونديرا لتوضيح ذلك بقصَّة قصيرة عن رجل وامرأة لم يستطيعا أن يعترفا بحبهما بعضهما لبعضٍ "لسببٍ ما" وأرجعوا ذلك الضعف إلى "سببٍ ساذج".

ولأنَّ الإنسان طالما حاول أن يفعل ذلك، وهو ما يسميه الكاتب التعبير الغامض للفعل الإنسانيّ، تعبيرٌ لا يُدرَك إدراكًا عقلانيًّا، بل هو أعمق من أن يُفسَّر تحت راية العقلانية، وهذا ما تسعى الرواية جاهدة إلى شرحه فلسفيًّا، ويُشرح هذا التعبير اللاعقلانيّ عن طريق ملاحظاتٍ عن رواية "آنا كارنينا".

معلومات الكتاب:

الكتاب: فن الرواية.

اسم الكاتب: ميلان كونديرا.

ترجمة: خالد بلقاسم.

دار النشر: المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب.

تاريخ النشر: 2017.

عدد الصفحات: 189 صفحة.