الفيزياء والفلك > علم الفلك

ثقبٌ أسود يمنحك سجلًّا نظيفًا ومستقبلًا جديدًا

ماذا يوجد داخل الثقب الأسود؟

في معظم الحالات؛ هناك شيء يُسمّى "المُتفرّدة" أو "Singularity"؛ وهي منطقة شديدة الكثافة وتمتلك جاذبيةً لا تُصدَّق ولا يستطيع حتى الضوء أن يفلت منها، فلا تغامر بالاقتراب؛ إذ بمجرد دخولك إلى أفق الحدث -وهي حافة الثقب الأسود الخارجية- سينتهي بك الأمر متمزقًا إلى شرائط من الذرّات التي تُسحَب إلى أعماق الثقب الأسود، ولكن قد يكون هناك استثناء واحد؛ فقد كشف علماء الرياضيات في الآونة الأخيرة عن سيناريو أكثر فِطنة.

فإذا دخلت إلى ثقب أسود من نوع Reissner-Nordström-de Sitter فإن طبيعةَ الكون الحتمية ستنهار ولن يكون ماضيك ومستقبلك متصلَين، وسوف ينزلق الماضي ببساطة، في حين يُفتَح عدد لا نهائي من العقود الآجلة أمامك، فكيف يكون هذا؟

يتشكّل الثقب الأسود عندما ينهار نجمٌ في المرحلة الأخيرة من حياته على نفسه بفعل جاذبيّته الخاصّة، ووفقًا لحل "ريزنر نوردستروم" الرياضيّ للنسبيّة العامة؛ فإن الثقب الأسود المشحون كهربائيًّا قد يخلق منطقة ثانية تقع ضمن أفق الحدث تُعرف باسم أفق كوشي، وهنا تحديدًا يُصبح الزمان والمكان مجهولَين، في حين تُصبح القدرة على التنبؤ بالمستقبل -رياضيًّا- مستحيلة.

ويحاول فيتور كاردوسو من جامعة لشبونة وزملاؤه مؤخرًا تخيّل هذه الثقوب السوداء نظريًّا، ومن الناحية الحسابية توصلوا إلى بعض النتائج الغريبة جدًّا؛ فقد يبدو دخول أفق كوشي أمرًا لطيفًا في البداية، ولكن؛ كم من الوقت ستستغرق في تحديد أية حياةٍ من حيواتك اللامتناهية التي ستتابع بها؟

وحتى إذا اخترت حياتك، فلن تكون قادرًا على مغادرة أفق كوشي، فلماذا يحدث هذا في المقام الأول؟

وإذا كان هذا صحيحًا؛ فإن هذه الظاهرة النظريّة الغريبة تتحدى الطبيعة الحتمية للنسبيّة العامة لآينشتاين، وحتى الآن صمدت النظرية على نحو مذهل أمام أي شيء ألقته الفيزياء على وجهها، فعلى سبيل المثال؛ يمكننا التنبؤ بالظواهر الفلكية بدقة مدهشة، وفي الواقع يمكن فهم أي شيء يحدث في الكون -تقريبًا- ويُتنبَّأُ سلوكه رياضيًّا، شريطة أن نعرف كل شيء عن أصله؛ لكن أحد الأماكن التي تنهار فيها النسبيّة العامّة موجود هنا في أفق كوشي لثقب أسود من نوع Reissner-Nordström-de Sitter.

لهذا فإن السبب وراء اختفاء الماضي وضياع المستقبل هو دمج المكان والزمان معًا داخل هذا الأفق،  في حين تأخذ نسبية آينشتاين بالحسبان وجودَ متفرّدة داخل الثقوب السوداء ودون هذه المتفرّدة ستفشل، الأمر الّذي يشكّل أزمةً فيزيائية حقيقيّة.

يجادل الفيزيائيون حول مفهومٍ نظريّ يسمّى "تخمين الرقابة الكونية القوي" الذي اقترحه أول مرة في السبعينيات الفيزيائي البريطاني روجر بنروز؛ فإذا حدث أي انحراف طفيف في قوة الجاذبية الهائلة لنجم في طور الانهيار فإن الثقب الأسود سينتهي في نهاية المطاف بمتفردة دون أفق كوشي. لكن الدراسة الجديدة التي أداها كوردوزو وزملاؤه أثبتت  أنه من الممكن وجود أفق كوشي في كونٍ آخذٍ في التوسُّع بمعدل دائم مثل كوننا.

ويعتقد كوردوزو وزملاؤه أن الشحنة الكهربائية التي تتميّز بها الثقوب السوداء من نوع Reissner-Nordström-de Sitter تسمح بمقاومة الجاذبية الهائلة للمتفردة ومن ثم إفساح المجال لتشكّل أفق كوشي.

وإذا كانت فكرة محو الماضي والحصول على عدد لا نهائي من الاحتمالات المستقبلية هي فكرة مربكةً لديك؛ فكن مطمئنًّا؛ إذ إن الفريق البحثيّ الذي أثبت هذه الفكرة رياضيًّا لا يدرك ما قد تعنيه هذه التجربة في الواقع؛ إذ يقول أحد أعضاء الفريق البحثي: "نعلم أنه بإمكاننا تعيين احتمالات أن تكون قطة شرودنجر حيّة أو ميتة، ولكن؛ إذا سقطت القطة داخل أفق كوشي لن نتمكن حتى من حساب هذه الاحتمالات".

وقد درس كوردوزو وزملاؤه قوتين متعارضتين يعتقد أنهما تسيطران على هذا النوع الخاص من الثقوب السوداء؛ فمن جهةٍ تسيطر الجاذبيّة داخل الثقب الأسود، ومن جهةٍ أخرى؛ فإن تأثير البيئة الخارجيّة يدمّر قوة الجاذبية الداخلية؛ تتفوق قوة البيئة الخارجية في أنموذج الباحثين على الجاذبية داخل الثقب الأسود، وعلى الرغم من أن أي انهيارٍ ناجمٍ عن انتصار البيئة الخارجية قد يلحق أضرارًا بالغة بأفق كوشي؛ ولكنهم وجدوا أن هذا لن يدمره تمامًا وفقًا لحسابات علماء الرياضيات البرتغاليين.

أما الفيزيائيون الداعمون لفكرة الرقابة الكونية؛ فإنهم يعتقدون أن نجاح فكرة هذه الدراسة نظريًّا لا يجعلها بالضرورة ناجحة على أرض الواقع، فقد صمدت حدسية الرقابة الكونية بقوة ضدَّ كل التحديات التي واجهتها في العقود القليلة الماضية، ومع ذلك؛ فإن دراسة جامعة لشبونة هذه هي أقوى دحض حتى الآن لحدسيّة بنروز.

المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا