البيولوجيا والتطوّر > علم الأعصاب

كيف يمكن تفسير الوعي البشري ضمن الدماغ؟

في دراسة تجريبية أجرتها أكاديمية العلوم الوطنية The Neurosciences Institute عام 1998؛ استخدم فيها العلماء تصوير الدماغ بالمجال المغناطيسي fMRI؛ إذ تُعدُّ هذه التقنية وسيلة فعالة للحصول على قياس نشاط باحات معينة من القشرة المخية ومناطقها عندما تنشط هذه الباحات استجابة لمحرض ما. ومن المعروف أن إدراك محرِّض ما ينجمُ عن عمل متناغم ونشاط مجموعات من العصبونات في القشرة المخية من الدماغ البشري.

ويكمن الوعي في الطريقة التي يولّد فيها الدماغ دارات loops من التلقيم الراجع المشحون بالطاقة؛ إذ يُشبه هذا التلقيم بمشاهدة مقطع فيديو عن طريق كاميرا تصور ما قد التقطته سابقًا، وهو يُشبه منظر الألعاب النارية لكنه يتولد باستمرار من المركز أو من  نفق حلزوني.

ما هو الـ VIDEO feedback؟

يمكنك مشاهدة ما نعني به هنا: 

نجمت هذه الفكرة عندما وصل أحدُهم كاميرا فيديو إلى تلفاز ووجَّه عدسة الكاميرا نحو التلفاز ليتشكَّل نتيجةً لذلك صورة مُقسَّمة تتحرك على نحو حلزوني متكرر، وكأن رؤيتنا تصبح في نفق فنشاهد الأنوار تتحرك في أثناء عبورنا النفق. وإذا ثنيت الكاميرا قليلًا؛ فإن النفق يتحوَّل إلى مشهد نابض داخل جهاز معبأ بالمرايا يُشبه الأسطوانة التي كنا نلعب بها في صغرنا ونشاهد فيها عدسةً من نوع خاص تجعل المشهد مكررًا في تناسق جميل.

ويمكننا أن نعدَّ التلقيم الراجع للفيديو مثالًا تقليديًّا عن السلوك الديناميكي المعقَّد؛ أي إنه ينشأ من التفاعل العشوائي بين الطاقة التي تسري عند الاتصال بالقرص الصلب لجهاز إلكتروني معين.

ومن المثير للاهتمام وصف هذا التفاعل بأنه كأثر التنويم المغناطيسي الذي يمكن أن يحدث مع أي شخص في المعارض والنوادي، بل إنه تجربة مثيرة للأعصاب مماثلة أثر تناول العقار المُهلوس Lysergic acid diethylamide وهو الذي يُعرف اختصارًا LSD.

يجدر الذكر بعمل العديد من العلماء على إيجاد العلاقة بين العقل والدماغ، ولكن؛ بقيت العديد من نظريات هؤلاء العلماء شائبةً أو تحمل بعض الثغرات وعلامات الاستفهام.

يقول العالمان Stanislas Dehaene (الذي يعمل على مشروع GLOBAL NEURONAL WORKPLACE MODEL)  وGIUEIO TONONI (الذي يعمل على مشروع نظرية المعلومات الموحدة) بأن الوعي ينتج من معالجة المعلومات في الدماغ عن طريق عمليات محاسبة عصبية مؤلفة من الأرقام (صفر وواحد) أو ما يُدعى بالبتات.

ولكن يواجه هذا الادعاء ثلاث مشكلات؛ وهي:

أولًا: عدم وجود توافق تام ما بين العلماء في التعريف الدقيق للمعنى المقصود  بالمعلومة.

ثانيًا: عندما يشير العلماء نحو كلمة معلومة في كلامهم؛ فهم يكونون في حقيقة الأمر يعنون الطاقة الفعَّالة التي تُنظِّم النشاط الحيوي في القطع المادية في أيِّ نظام.

ثالثًا: إن وسائل تصوير الدماغ مثل PET والرنين المغناطيسي الوظيفي والتخطيط الكهربي للدماغ لا تكشف أو تتقصى المعلومة في الدماغ؛ بل تغيرات توزع الطاقة واستهلاكها.

إليك توضيح صغير عن الدماغ والطاقة:

إن الأدمغة ليست كالحواسيب رقمية على شكل قطع إسفنجية، ولا يوجد معلومة في الخلايا العصبية ذاتها؛ إذ إن الأدمغة عبارة عن أدوات عضوية ذات قدرات متقدِّمة تُحوِّل الطاقة من المحيط والجسم إلى عمل موجَّه مقصود يُمكِّننا من الاستمرار؛ وبهذا -إن صحَّ القول- يمكن عدُّ الدماغ معالجًا الطاقة وليس المعلومة.

عن طريق فهم الفكرة القائلة بأن الأدمغة عبارة عن أجهزة معالجة للطاقة؛ فيكون ذلك بمثابة الخطوة الأولى لفهم كيفية دعم الدماغ للوعي، والخطوة التالية تتمثل في إعادة التفكير بهذه الطاقة أساسًا.

ما الطاقة؟

إن مصطلح الطاقة مصطلح مألوف للغاية، ولكن يشوب المفهومُ بعض اللغط عند الأغلبية، حتى علماء الفيزياء يُخطئون أحيانًا ويُعاملون الطاقة كأنها قيمة مجردة في المعادلات والقوانين لتصف التفاعلات الفيزيائية، وهذا أمر كافٍ.

ولكن عندما أطلق أرسطاطاليس كلمةَ طاقة (energia باللاتينية) كان يحاول أن يُحيط بحقيقة الواقع المحسوس ولماذا تعمل الأشياء في الطبيعة حولنا بالطريقة التي تعمل بها.

"يعود أصل كلمة طاقة في اللغة الإغريقية إلى مصطلح العمل في الفيزياء".

يختلف مفهوم كلمة "طاقة" الحقيقي عن المصطلح المجرد لها في علم الفيزياء المُعاصر؛ ومع ذلك فهو مرتبط به.

عندما ندرس ماهيَّة الطاقة حقًّا؛ سنتفاجأ بمدى بساطة التعريف؛ فالطاقة نوع من التغيير.

والطاقة الحركية عبارة عن تغيير تابع لحركة الجسم أو وجود فرق بين تغيُّرين. والطاقة الكامنة عبارة عن فرق ناجم عن الموضع أو الجهد.

يحدث معظم النشاط والتغيير في الطبيعة بسبب هذه التغييرات الحقيقية في الطاقة السابقة الذكر والأفعال المرتبطة بالقوى والعمل، وهي التي تختلف عن التغيرات المجردة بين الصفر والواحد ويعمل عن طريقها الحاسوب أيضًا. إن هذا الفهم الخاص بالتغير الحقيقي في الطاقة سيكون المفتاح الحقيقي لتفسير الوعي في الدماغ.

هل تعلم؟

يستهلك الدماغ البشري ما يُقدَّر بـ 20% من طاقة الجسم الكلية على الرغم من أن كتلته تشغل فقط 2% من كتلة الجسم كاملًا.

وتكلفة عمل الدماغ مرتفعة جدًّا أيضًا، ويتحمل التكلفة الخلايا العصبية التي تطلق ومضات من التغير في الطاقة عبر أنماط معقدة إلى حدٍّ كبير لا يمكن تخيله من التزامن والتنوع عبر الدارات العصبية الغزيرة الموجودة ضمن تلافيف الدماغ وطبقاته.

الشيء المميز حيال الدماغ الواعي هو أن بعضًا من تلك الدارات العصبية ومُسريات الطاقة تنقل وتلتف لتعود إلى المكان نفسه على نحو مشابه للكاميرا في حالة التلقيم الراجع إلى الفيديو وكأنك تضع مرآة أمامها.

ويُسبِّب ذلك في تشكُّل شلالات الانعكاس الذاتية من التغييرات الحقيقية تنشأ وتتولَّد مع تعقيد هائل جدًّا؛ وذلك هو ما نختبره كحالة من الوعي البشري.

خلاصة القول: إن أثر التلقيم الراجع إلى الفيديو هو أقرب تشبيه لتخيُّل عمليات المعالجة الخاصة بالوعي في الدماغ.

ما الدليل المقدَّم من علم الأعصاب؟

إن الدليل يقوم على تفسير الوعي البشري بوصفه عملية فيزيائية؛ إذ يدعم علم الأعصاب الاقتراحَ القائل بأن الوعي يعتمد على التلقيم الراجع المعقِّد للطاقة ضمن الخلايا العصبية.

والدليل على ذلك هو تمكُّن الباحثين مؤخرًا من اكتشاف طريقة دقيقة لقياس كمية الوعي التي يمتلكها أحدهم؛ إذ تقوم هذه الطريقة على إطلاق نبضات مغناطيسية نحو أناس أصحَّاء في حالة تخدير مع شرط كون أدمغتهم مصابة بشدة نتيجة لسبب ما، ثم يقيس الباحثون ما مدى تعقيد إشارات المخطط الكهربي الدماغي electroencephalogram EEG الصادرة، وهي التي تُعطي مؤشرًا عن مدى تفاعل الدماغ وردة الفعل تجاه النبضات المغناطيسية الواردة.

إنّ تعقيد مخطط الـ EEG يُمكنه أن يتنبَّأ بمستوى الوعي لدى الشخص؛ أي إنه كلما زاد تعقيد المخطط كلما زاد الوعي الذي يحمله ذلك الشخص.

وقد طور الباحثون بعض القياسات الحسابية بعد التدقيق في مخططات الـ EEG؛ وذلك عن طريق نَسب مستوى الوعي إلى كمية المعلومات التي تُعالَج في كل دماغ، ولكن كي نكون دقيقين؛ فإن الذي كان يُقاس حقيقةً في هذه الدراسة هو تنظيم تدفُّق الطاقة عبر الخلايا العصبية، وبالنتيجة فإنَّ مدى تعقيد تدفُّق الطاقة في دماغ شخص ما يُخبرنا عن مستوى الوعي الذي يحمله ذلك الشخص.

وبالطبع لا توجد دراسة مثالية؛ إذ لا يعلم أحدٌ ما هي كمية المخدِّر المطلوبة بالضبط لإعطاء قيم صحيحة عن الوعي. ولكن تقترح النظريات الجديدة أن بعض أدوية التخدير (مثل البروبوفول) تتداخل مع قدرة الدماغ على الحفاظ على دارات التلقيم الراجع Loops المعقدة في بعض مناطق الدماغ، ودون هذه الدارات سيُفقد التداخل الوظيفي ويتلاشى بين مناطق الدماغ وباحاته المختلفة؛ وبهذا اضطراب إدراك الوعي والحصول على نتائج خاطئة.

يمكننا تلخيص ما ذكرناه في الآتي:

بعد جهود العلماء العديدة والمضنية في مجال علوم الأعصاب والدماغ؛ توصَّل البعض إلى اعتقاد أن الوعي يعتمد على وجود تنظيم مُسريات الطاقة معقَّد وهائل في الدماغ، أو إشارات عود الدخول -كما يسميها عالم الأحياء Gerald Edelman- التي هي عبارة عن دارات تلقيم راجع متكرِّرة ناجمة عن نشاط العصبونات التي تربط مناطق الدماغ المختلفة ضمن كل كامل يتمكن من تأدية الوظائف والمَهام المختلفة لتأمين بقاء جنسنا البشري وتأقلمه.

وإذا أُثبتت صحة فرضية المركز الديناميكي؛ سيُصبح العلماء على علم أعمق بماهيَّة أساسيات الوعي البشري العصبية، وعلام يجب أن يبحثوا من أجل قياس الوعي، ثم إنهم سيتمكنون من فهم العديد من اضطرابات الوعي لدى البشر مثل الاضطرابات الفصامية والذهان وأمراض نفسية أخرى.

المصادر:

1- هنا

2- هنا