علم النفس > المنوعات وعلم النفس الحديث

عقلية القطيع.

تصفُ عقليّةُ القطيع، أو عقليّةُ الغوغاء، كيف يتأثّرُ الناسُ بأقرانهم في تبنّي سلوكياتٍ معينة.

عقليّةُ القطيع تغزو في الحقيقةِ كلَّ واحدٍ منا.

قد يبدو أننا نسيطر على أفكارنا وسلوكنا، لكنّ علم النفس الاجتماعي يروي قصةً مختلفة.

علمُ النفسِ الاجتماعي هو الدراسةُ العلميةُ لكيفيةِ تفكيرِنا وتأثيرِنا وتواصلنا بعضنا  مع بعض.

نحن كائناتٌ اجتماعية، فمعظمُنا يتواصل مع الآخرين كل يوم.

نقضي ما بين (70) إلى (80) في المائة من ساعاتِ يقظتنا في ممارسةِ نوع من أنواع التواصل الاجتماعي؛ إذ إننا ننفق في المتوسط (30) في المائة من اليوم ونحن نتحدث، و(45) في المائة ونحن نستمع إلى الأحاديث.

يُعدُّ تأثيرُ الآخرين فينا أحد الدروسِ المستفادةِ من علمِ النفس الاجتماعي، و تظهرُ الأبحاثُ أننا لا نملك سيطرةً كبيرةً على أفكارِنا وتصرفاتنا مثلما نعتقد؛ بل نستمدُّ تلميحاتٍ من بيئتنا، ولا سيّما من الأشخاص الآخرين، عن كيفيّة التصرف.

إذا كان الآخرون يفعلون ذلك؛ فهذا يعني أنه صائب،  أليس كذلك؟!

ثمة استدلالٌ يستخدمه الكثيرون منا لتحديدِ ما يجب فعله  أو قوله أو شراؤه؛ وهو مبدأ الدليل الاجتماعي.

إننا ننظر إلى ما يفعله الآخرون لمعرفة الصواب.

يقول عالم النفس روبرت سيالديني في كتابه الأكثر مبيعاً (التأثير: علم نفس الإقناع): "عند التساؤل عما يجب فعلُه بصندوق الفشار الفارغ في دار سينما، أو عن سرعة القيادة على الطريق السريع، أو عن كيفية تناول الدجاج في حفل عشاء، نعُدُّ تصرّفات من هم يحيطون بنا بالغة الأهميةِ في تحديدِ الإجابة، وباختصار؛  إنه الدليلُ الاجتماعي.".

وفي تجربةٍ أجراها سيالديني لاستخدامِ مبدأ الدليل الاجتماعي لمنعِ السرقةِ البيئيةِ؛ فكّر في حالةِ منتزه (أريزونا بترفيليد فورست) الوطني. يصلُ زوّار المنتزه ويتعرّفون إلى سرقات المنتزه السابقة عن طريق لافتةٍ بارزة تقول: "تراثك يُخرَّب كلّ يومٍ بسبب الخسائر الناجمةِ عن سرقةِ الخشب المتحجر بمعدل (14) طن سنوياً، وفي معظمِ الحالات تُسرَقُ قطعةٌ واحدةٌ صغيرةٌ في كلِّ مرة.".

أزال (سيالديني) اللافتة من أحد طرق المنتزه لقياس أيّة اختلافاتٍ قد تحدث، فكانت النتائج على النحو الآتي: كانت السرقاتُ أقل بنسبة الثلث في الطريق الخالي من اللافتة، بالمقارنة مع المسارات التي كانت فيها اللافتة قائمة.

وبعبارةٍ أخرى؛ اعتقد الزوار أنه من الطبيعي أخذُ قطعٍ صغيرةٍ من الخشب لأنه الكثير منه يُسرَقُ كلّ عام.

إنه الدليل الاجتماعي مرة أخرى!

تعرّفنا إلى مبدأ الدليل الاجتماعي وكيفية تأثيره في الشخص وفق تصرفات الأشخاص الآخرين على الصعيد الفردي، فما الذي يحدث على صعيد الجماعة؟

وجدت إحدى الدراسات التي أجراها البروفيسور (ينز كراوس) في جامعة ليدز أن (5) في المائة فقط من الحشد تؤثّر في (95) في المائة الباقية. طلب الباحثون من (200) شخصٍ التواجدَ في قاعةٍ بدون أي توجيهات، ثم أعطوا كلاً منهم عشر توجيهاتٍ تقودهم إلى وجهتهم.

وفي النهاية تبعت المجموعةُ كاملةً الأشخاصَ العشرة.

عندما يجتمع الناس في مجموعات، يمكن أن تحدث أشياءٌ غير عادية، سواء أكانت جيدةً أم سيئة، وتخلق المجموعات مؤسسات اجتماعية مهمةً لا يمكن للفرد تحقيقها بمفرده، ولكن الجانب المظلم لهذه التحالفات موجودٌ أيضاً، فالانتماء إلى مجموعةٍ يجعل الناس أكثر عرضةً لإيذاء الآخرين خارج المجموعة.

تقول ريبيكا ساكس؛  أستاذةُ العلوم العصبية المعرفية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: "على الرغم من أن البشر يُبدون تفضيلاتٍ قويةٍ للمساواةِ والعدالةِ، ومحظوراتٍ أخلاقيةً ضدّ الأذى في سياقاتٍ عديدة، لكنّ أولوياتهم تتغير عندما يكون هناك (نحن) و(هم)، وغالباً ما تنخرط مجموعةٌ من الأشخاص في أعمالٍ تتعارض مع المعايير الأخلاقية الخاصة لكل فردٍ في تلك المجموعة؛ إذ تدفع الأفراد المحترمين إلى ممارسة الهمجية، فقد يمارسون أعمال النهب والتخريب، وصولاً إلى الوحشية الجسدية."

فما الذي يجعل الناس يستسلمون لعقلية القطيع، لا سيما عندما يصل الأمر إلى العنف؟

تقول تمارا أفانت؛ مديرة برنامج علم النفس في جامعة ساوث – سافانا: "يشرح لنا علم النفس الاجتماعي تفسيراتٍ مناسبةٍ لعقلية الجماعة أو الغوغاء، ويُمارَسُ العنفُ عندما يكوّن الناسُ جزءاً من مجموعة؛ إذ غالباً ما يفقدون وعيهم بذاتهم، أي بإحساسهم بالهُوية الفردية.".

يمكن للمجموعات أن تولد شعوراً بالإثارة العاطفية التي تؤدي إلى إطلاقِ تصرفاتٍ لا يمكن لشخصٍ ما أن ينخرط فيها لوحده. فكّر في آخر حدثٍ رياضيٍّ أو حفلة؛ ألا تلاحظ أنه من غير الوارد أن تصرخ أو تغني بالطريقة التي كنت عليها إذا كنت الشخص الوحيد الذي يفعل هذا!

ومن الواضح أن فقدان الإحساس بالهوية الفردية لا يقع في كل مرةٍ يجتمعُ فيها الناسُ في مجموعة؛ إذ ثمة بعضُ الخصائصِ التي تزيد احتمالية العنف كحجم المجموعة والهُوية المجهولة.

أولاً: يعتقدُ العديدُ من الأشخاص بتنصّلهم من مسؤولية السلوك العنيف عندما يكونون جزءاً من مجموعة؛ وذلك لأنهم يعدّون السلوك العنيف نابعاً من المجموعة بكاملها (فالجميع كان يفعل ذلك!)، وليس سلوكهم أفراداً.

عندما يكون الناس ضمن مجموعة كبيرة فإنهم يميلون إلى تجربة نشر أو توزيع المسؤولية.

كلما كانت المجموعة أكبر -عادةً-؛  كلما فقد أعضاؤها الوعي الذاتي وأصبحوا مستعدّين للانخراط في سلوكٍ خطيرٍ أكثر.

ثانياً: يؤدي إخفاء الهوية الجسدية أيضاً إلى تقليل المثبطات الاجتماعية، فما أن يشعر الناس أن سلوكهم لا يمكنُ إرجاعه إليهم؛ فإنهم يميلون أكثر إلى كسر الأعراف الاجتماعية والانخراط في العنف.

هذا وقد درست ساكس وزملاؤها مؤخراً عاملاً ثالثاً يعتقد العلماء المعرفيون أنه يؤثر في عقلية المجموعة، وهي الفرضية القائلة بأنه عندما يكون الناس في مجموعات؛ فإنهم يفقدون العلاقة التي تربطهم مع أخلاقهم ومعتقداتهم الخاصة، ويصبحون أكثر عرضةً لفعل بأشياء يعتقدون عادةً أنها خاطئة.   

وفي إجابةٍ لـ (تمارا أفانت) -مديرةِ برنامج علم النفس في جامعة ساوث – سافانا، عمّن هم الأشخاصُ الأكثرُ عرضةً للانخراط في سلوك القطيع، أجابت:

كلُّنا معرضون للمشاركة في سلوك القطيع، ولكن وجد الباحثون أن بعض خصائص الشخصية لها دورٌ في ذلك، وعلى سبيل المثال: من المرجّح أن ينخرط الناس في أعمال نهبٍ في الظروف الاستثنائية، ومثال ذلك ما حصل عندما كانت الموارد شحيحةً بعد إعصار كاترينا، والمراهقون الذين يشتركون في ميولٍ معاديةٍ للمجتمع ويفتقرون وجودَ روابطَ عائليةٍ وثيقةٍ هم أكثر عرضةً أيضاً للبحث عن الهوية الاجتماعية في العصابات.

في النهاية؛ نجدُ أن التفكير المدروس قد يقودنا إلى التأثير الاجتماعي، ومثالُه الواضحُ هنا عقليةُ القطيع وعلاقتها بالوعي الذاتي بأنفسنا، وبعلاقتانا مع الآخرين والمجتمع.  

المصادر

1- هنا

2- هنا

3- هنا

4- . هنا