الفيزياء والفلك > علم الفلك

الثقوب السوداء: من خربشة على الورق إلى حقيقة كونيَّة

لم يكن لدى علماء الفلك في القرن الماضي سوى فهم بسيط لِمَا يجعل النجوم تستمر على قيد الحياة، فقد كانوا يعلمون أنَّ النجم هو كرة من الغاز الساخن تحاول الحفاظ على توازنها؛ فيحاول الغاز أن يُفلت إلى الفضاء المحيط، ولكن تعيده الجاذبية مرة أخرى، أما في النجوم التي تشبه الشمس؛ فيتحقق التوازن  ما دام الغاز يحرق باستمرار الوقود الناتج عن التفاعلات النَّووية في قلب النجم.

ولكن، ماذا لو انتهى الوقود النوويُّ للنجم؟

من الواضح أنَّ الجاذبية تنتصر في حال توقَّفتْ عمليات الاندماج النوويّ، وقد رصد الفلكيُّون فعليًّا نجومًا انتصرتْ فيها الجاذبية؛ مثل "الأقزام البيضاء"؛ فكتلة القزم الأبيض تعادل كتلة الشمس، لكنَّ الجاذبية الهائلة قلَّصتْ حجمه ليبلغ حجم الأرض؛ أيْ (أصغر مليون مرة من حجم الشمس)، وهذه البقايا النجمية المُحترقة كثيفة لدرجة أنَّ ذرَّاتها مُتراصَّة تراصًّا لا يُُصدََّق؛ فأيُّ انضغاط إضافي قد يسحق الذرات؛ وهذا هو الأمر الذي افترض العلماء استحالته سابقًا؛ بسبب قوانين الفيزياء الكوانتية.

في ثلاثينيات القرن الماضي، كان الشاب الهنديُّ تشاندراسخار يسافر على متن القطار من الهند إلى إنجلترا ليكمل دراسته هناك، وكان يمضي وقت رحلته؛ مثل أيِّ فيزيائيٍّ شغوف؛ محاولًا التوصل إلى معادلات تَصِف استقرار النجم.

وقد توصَّل تشاندراسخار إلى أنَّ الجاذبية تضغط النجم أكثر فأكثر إلى أنْ تتحرَّك إلكتروناته بسرعة الضوء هاربةً من الذرَّة؛ فينهار النجم في نهاية المطاف تحت تأثير كتلته مُشكِّلًا جسمًا هائل الجاذبية يُعرف اليوم "الثقب الأسود". ولم ينتهِ الأمر هنا، فقد حَسَبَ تشاندراسخار الحدَّ الأدنى من الكتلة التي تخوِّل النجم أن يتحوَّل إلى ثقب أسود، ووجد أنَّها تبلغ قُرابة 1.44 من كتلة الشمس؛ وهو ما يُعرف اليوم بــ"حدِِّ تشاندراسخار".

ولكن كان"الثقب الأسود" غريبًا، وجاذبيته لا تُصدَّق؛ ممَّا دفع العلماء إلى إهمال أفكار هذا الشاب الجديد، حتى إنَّ الفلكي الإنجليزي الشهير آرثر إدنجنتونن سخر منه، وعلَّق بالقول: "لا بدَّ من قانون طبيعيٍّ يمنع النجم من هذا السلوك الغريب"، وقد كان لهذا النقد اللاذع أثرٌ نفسيٌّ كبير على تشاندراسخار؛ ممَّا دفعه إلى ترْك المملكة المتحدة عام 1937، والاستقرار في الولايات المتحدة حتّى وفاته عام 1995، ولكنَّ إدنجتون كان مخطئًا، فقد أثبتَ العلمُ صحَّة كلام تشاندراسخار، ونال جائزة نوبل عام 1983!

وقد ظهر في السنوات اللاحقة سيناريو آخر جديد، فعندما تتجاوز كتلة النجم حدَّ تشاندراسخار، تتحطَّم الذرّات لتكوِّن النيوترونات المتبقّية جسمًا تبلغُ مساحةُ سطحه قُرابة 12 ألف كيلومتر مربع، ويسمَّى "النجم النيوترونيّ"؛ الذي اكُتشِفَ فعليًّا سنة 1960.

كان كارل شفارتزشيلد أوَّل من تنبَّأ بالثقوب السوداء اعتمادًا على النسبية العامَّة لآينشتاين عام 1916، لكنَّ عقودًا طويلة مرَّت قبل أن يأخذ العلماء فكرةَ الثقوب السوداء على محمل الجدِّ، وكان ذلك ليكون مستحيلًا لولا ذكاء تشاندراسخار؛ الذي أثبتَ أنَّ الثقوب السوداء هي مصيرٌ محتمل لنجم يحتضر.

فهل هناك حالة متوسطة بين الثقب الأسود والنجم النيوترونيّ؟ وهل من الممكن وجود نجم كتلته أكبر من النجم النيوتروني، وينهار على نفسه متحوِّلًا إلى حساء من الكواركات، ويتمتَّع بضغطٍ كبير يمنعه من الانهيار إلى ثقب أسود؟

وعلى الرغم من عدم رصْد هذا النجم الكواركي حتى الآن، لكنَّ الفيزياء النظرية تسمح بوجوده، وربما يكون حاله حالَ الثقوب السوداء؛ ينتقل من كونه فكرة غريبة، وبعيدة الاحتمال إلى أنْ  نرصده.

ومن يدري، فقد يكون في أيِّ مكان في أرجاء الكون.

المصدر:

هنا