التاريخ وعلم الآثار > النهضة الأوروبية و أعلامها

دافنشي ...مخترعا

إنه أشهر فنان متعدد المواهب و الفنون على الإطلاق. إن عبقري عصر النهضة هذا هو فنان و مخترع سبقت أفكاره العصر الذي كان فيه.تحدث عن الدبابات و بزة الغطس و المروحية إلا أنه برزت دلائل غير مشهورة تشير إلى قصة مختلفة عن القصة التي نعرفها. كان لديه إلمام بالمعرفة في عصره و كان يستمد من هذه المعرفة،فهل من الممكن أن نجم القرون الوسطى هذا في النهاية لم يكن عبقريا صاحب أفكار سابقة لعصره?

من خلال تحقيق يغوص في قضايا التطور التقني في أوروبا في القرنين ال 15 و ال 16 و باستخدام تقنيات حديثة لدراسة اللوحة الأكثر شهرة في العالم سنفتح ملفات محيرة تحيط بليوناردو دافنشي.

إيطاليا القرن السادس عشر هي حقبة من أعظم حقب الابتكار في مجال العلوم و الفنون الهندسية التي شهدها العالم على الإطلاق ولربما الشخصية الأكثر شهرة هي ليوناردو دافنشي حيث تحول هذا الرجل في القرون التي تلت وفاته إلى أيقونة و رمز لعصر النهضة الإيطالية.التحقيق في كيفية وصول ليوناردو لهذه الشهرة يبدأ في عام 1452 في بلدة فينشي في توسكاني،هو ابن لقيط لفلاحة فقيرة و كاتب عدل من طبقة النبلاء. و بالرغم من بداياته المتواضعة استمر ليوناردو في البحث عن كل سبل التعلم ولكن بعد وفاته بفترة طويلة بدأت تتوضح الأفكار و النظم الهائلة التي ركز ليوناردو مواهبه عليها. أصبح بالإمكان البحث في مذكراته للمرة الأولى في أواخر القرن التاسع عشر.بدأ العالم الألماني جان بول ريختر بنسخ عدد من مذكراته ومن ثم ترجمتها.ومع نشر عمله في أواخر القرن التاسع عشر أصبح محتوى مذكراته متاحا للعالم.

مندهشين بالأفكار و الإبتكارات التي تحدث عنها في مذكراته بدأ الناس يعدون ليوناردو عبقريا بمواهب تفوق الطبيعة. تغيرت الآراء بشأن ليوناردو بفضل العلماء الذين أدركوا معرفته الهائلة و تنوع مواهبه و بالتالي بدأت شهرته تزداد. بدأوا يرونه رجلا قادرا على أي شيء تقريبا مع ذلك يكشف الخبراء عن دليل عن أن بعض أفكاره الواردة في مذكراته لم تكن نابعة من ذهن ذلك العبقري ذاتها في الواقع إن موهبة ليوناردو المميزة أتاحت له الاتصال المباشر مع محركي عصر النهضة.

في أواخر القرن الخامس عشر خطف راعي الفن لودفيكو اسبنوزا دوقة من ميلان من ابن أخيه وقد استولى على عرش الأسرة في ميلانو في قصر اسبنوزا و استعان بأهم الفنانين و المهندسيين لتزيينه.في عام 1482 انضم ليوناردو للمجموعة التي اختارها اسبنوزا وبقي في القصر 17 سنة. في عام 1496 انتقل لوكا باتشيولي عالم الرياضيات البارز إلى بلاط اسبنوزا و بينما كان يدرس في ميلانو تعرف على ليوناردو الذي تعلم الكثير عن الرياضيات من لوكا باتشيولي وبالتالي نشأت بينهما علاقة تلميذ و استاذ. في عام 1499 غزا الفرنسيون إيطاليا و أطيح باسبنوزا من الحكم و بعدها أصبحت ميلانو بدون حاكم.غادر ليوناردو و باتشيولي المدينة ولكنهما استمرا في تعاونهما.ساعد ليوناردو بعدها باتشيولي وله الفضل في رسم الشكل المتعدد السطوح وهو من أسس أعمال باتشيولي الأكثر تميزا-التناسب الإلهي- إن المعرفة الرياضية التي اكتسبها بينما كان مع باتشيولي هي أساس معظم الأعمال الهندسية التي أصبح مشهورا بفضلها لاحقا. والرياضيات ليست العلم الوحيد الذي تعلمه ليوناردو من الآخرين،إذ تكشف المزيد من التحقيقات عن مصدر إلهام بعض أشهر اختراعات ليوناردو الشهيرة،بزة الغطس و الدبابات و الطائرات.هل من الممكن أن ليوناردو دافنشي لم يتصور هذه التصاميم المستقبلية?!

في بداية عصر النهضة بدأت سيينا تشهد ازدهارا في مجال التقدم التكنولوجي و بعدما ازدهرت فيها الأنشطة تحولت سيينا إلى مركزا للابتكار الهندسي.انبعثت حركة جديدة حاولت الجمع بين التكنولوجيا الكلاسيكية و تطور الأجهزة الاختبارية.ماريانو تاكولا هو في مقدمة هذا الجيل الجديد من المهندسين. تعد إنجازات تاكولا خطوة مهمة وهي عبارة عن مخطوطات مليئة بالصور لمئات الآلات إنها ثورة بما كان موجودا من قبل.تكتظ مدن عصر النهضة الإيطالية بالتماثيل لسكانها السابقين اللامعين ولكن المستغرب هو عدم تكريم تاكولا كما يجب بالرغم من وجود 5 كتب من أعمال هذا المهندس الثوري والتي هي أكبر دليل على ابداعاته.هذا ومن الصعب تجاهل أوجه الشبه بين رسوم تاكولا و محتوى مذكرات ليوناردو وهناك أيضا دليل وثائقي على أن ليوناردو رأى عملا لتاكولا.

فرانشيسكو دجورجيو وهو مهندس لامع آخر من سيينا ورث كل مخطوطات تاكولا واعتمد في بعض أعماله عليها وحسن نوعية الرسوم و التصميمات تماما كما فعل ليوناردو لاحقا مستندا إلى أعمال دجورجيو.

وبالتأكيد فإن ليوناردو يمتلك مخطوطة واحدة من إرث دجورجيو بقيت محفوظة في مكتبة ليوناردو الشخصية ولا تزال على هوامشها ملاحظاته الخاصة.وقد تم العثور على دليل لأعمال تاكولا في مخطوطة ليوناردو و هو دليل كاف على أن ليوناردو اطلع على أعمال تاكولا.

ورث فرانشيسكو دجورجيو كل مخطوطات تاكولا و امتلك ليوناردو إحدى مخطوطات فرانشيسكو هذه وبالتالي حصل انتقال للمعرفة من تاكولا إلى فرانشيسكو دجورجيو ومن ثم إلى ليوناردو.

في مخطوطات مهندسي سيينا هناك صور لأجهزة تنفس تحت الماء و المفاجىء أن عددا منها يشبه تلك التي صورها ليوناردو.هنالك سجلات من بداية القرن الخامس عشر عن محاولات تجهيز أشخاص للغوص في الماء و بدا تصميم ليوناردو أنه يجمع بينها كلها.

إذا لم يخترع ليوناردو أول قناع للغطس تحت الماء لكنه عمل على تحسين النموذج الأولي على نحو بارز وعمل على تحسين الجهاز من الناحية التقنية. لايخفى على أحد أن ليوناردو كان رائدا في مجال الطيران ويقال أنه أول من فهم مبادىء الطيران ويحتفى به في يومنا هذا كمخترع لأجهزة طيران لا تعد ولا تحصى تنقل الإنسان جوا بدءا من المناطيد و الطائرات الشراعية وصولا إلى طائرات الهيلوكبتر.

كان إيلمر راهبا في دير يعود للقرون الوسطى في مامسبري بإنجلترا.ولد على الأرجح في عام 980 أو 985 ميلادي و توفي بعد فترة وجيزة من الغزو النورمندي.هو رجل فاق عصره موهبة خاطر مظهرا شجاعة لامثيل لها و بطريقة ما ربط أجنحة بيديه و قدميه ليطير مثل الطيور مستغلا النسيم ليطير من أعلى البرج و بالفعل طار على ارتفاع بزيد عن 200 متر و لكن بسبب قوة الرياح سقط أرضا و كسر قدميه و أصبح بعد ذلك أعرجا.مع ذلك فإن سقوط إيلمر وكسره لقدميه لاتعني بأن محاولته لم تكن ناجحة. بدأ على ارتفاع 25 مترا وحلق لمسافة 200 متر وهذا رقم جيد وفق معايير الطيران الشراعي العصرية. صحيح أن هبوطه لم يكن موفقا إلا أن طيرانه كان جيد جدا مع ذلك.الحقيقة أن إيلمر لم يتمكن من حفظ توازن جهازه وهو نفسه عرف أين أخطأ.أدرك سبب عدم توازن وسيلته التي استخدمها في الطيران وهو أنه نسي أن يركب ذيلا وبالتالي فهو شخص من القرون الوسطى لديه في ذهنه صورة لطائرة حديثة.إذا قبل قرون من ولادة دافنشي بدأ الناس بابتكار مبادئ الطيران!

تنسب رسوم آلات الطيران البدائية إلى مهندسيين ايطاليين قبل عصر ليوناردو و رسومه ويعتقد بأن دافنشي استلهم من هذه الأفكار لابتكار أجهزته الأكثر تعقيدا.لكن مع الفحص الدقيق تبين أن أيا من آلات طيران ليوناردو لم تمثل في الواقع روعة هندسية كما كان يعتقد.الكثير يعتبر ليوناردو عالما و مخترعا لامعا وبالتأكيد رسومه لٱلات الطيران هي من أشهر أعماله لكن يجب ألا نقع في الخطأ و نعتقد أن أجمل رسومه هي اختراعاته العبقرية لأنها بالتأكيد ليست كذلك.لم تكن أي من آلات الطيران هذه تعمل حتى تصاميمه لطائرات الهليكوبتر كانت معيبة.على الأرجح فإن مروحية ليوناردو الشهيرة استوحيت من لعبة طيران أحضرها تجار أوروبيون من الصين وبالتأكيد كانت الفكرة ستنجح كنموذج لعبة.مالم يفهمه ليوناردو على مايبدو أنه لايمكن زيادة طول شيء بهذه السهولة.لايبدو أنه فهم العلاقة بين الحجم المتزايد والوزن المتزايد وبالتالي إن صنعنا نسخة عملاقة من هذه اللعبة الصينية فلن نولد قوة الدفع التي يحتاجها طيار ليرتفع ويحلق في الجو. إن التقدم الذي نعتقد بأن ليوناردو حققه في مجال الطيران لايبدو ناجحا أو مميزا.يمكننا القول أنه نسخ أجهزة طيران كانت معروفة و أضاف إليها وليس في عمله هذا شيء غير اعتيادي كما أن عددا من مهندسي عصره الغير معروفين حاولوا تحقيق نتائج مماثلة وابتكروا آلات مشابهة.المثير للسخرية أنه منذ ألقي الضوء على مذكرات ليوناردو ،نسبت إليه ابتكارات لم ينسبها هو لنفسه بوما.وفي الوقت ذاته جرى تجاهل المبتكرين الحقيقين للتصاميم التي عثر عليها في المذكرات.

إن صورة ليوناردو عبقريا في الهندسة يعيش في عصر لم يكن مستعدا لأفكاره الثورية هو أمر لايمكننا بعد الآن تأكييده فليس من العدل أن يعد شخص سابق لعصره فيما هو يدين بذلك كثيرا لتقاليد العصور الوسطى و عصر النهضة الذي كان يعيش فيه.مع ذلك عده معاصروه الرجل الذي يستطيع تغيير وجه الفن.لقد درب عدد كبير من الفنانين وبالتالي كان من الطبيعي أن يذهب ذلك الفتى إلى هذه المكانة.سرعان ماظهرت موهبة ليوناردو المذهلة كفنان ،في البداية عرف كنجم صاعد واعتبر شخصا ذا موهبة عظيمة جدا.لكن مواهب ليوناردو الاستثنائية تتجسد في أشهر لوحاته " الموناليزا". منذ أن سرقت في عام 1911 و تركيز وسائل الإعلام في ذلك الوقت على القصة أصبحت هذه اللوحة جزء من الوعي العالمي وعاد ليوناردو مرة أخرى للأضواء.فيما يتعلق بالموناليزا فإنها على الأرجح ملخص كبير لما كان يستطيع فعله.

باسكال كوت مهندس ومخترع صمم و طور أجهزة رائدة في التصوير الإلكتروني.لقد ابتكر كاميرا تستخدم تقنية متعددة الأطياف لرؤية كل طبقة من اللوحة الرائعة.هذه اللوحة تعطي القدرة على رؤية مسودة رسم ليوناردو فتمكننا من رؤية قصة اللوحة و المراحل المختلفة لرسمها.تسنت لباسكال فرصة فريدة من نوعها لدراسة لوحة الموناليزا وقد أنتج صورة طبق الأصل للوحة من خلال المسح الضوئي المتعدد الأطياف. توضح طريقة باسكال على نحو علمي تقنية الطبقات المتعددة التي استخدمها ليوناردو والتي تسمى "سوفوماتو" أو المزج التدريجي للألوان كما تكشف أيضا كيف كثف دافنشي اللون بواسطة الإشباع.إنها تظهر كيف أن ليوناردو أضاف طبقة بعد طبقة من اللون لخلق الظلال.هذه الطريقة مميزة جدا ولم ينجح أحد في محاكاتها.

في رسوم ليوناردو ظهرت عبقريته الحقيقية وفيما لم يكن ذلك المخترع المبدع الذي جسده التاريخ إلا أن مجموعة من المواضيع التي عثر عليها في مذكراته تكشف عن حجم معرفته. هي تختلف من حيث الموضوع بدءا بعلم الفلك والطب وصولا إلى الرسم ونظريات الألوان. كما تشمل معرفته مجموعة متنوعة من المواضيع التي لم يسمع بها حتى في عصر النهضة. مع أن المؤرخين و الباحثين كتبوا عنه على طريقتهم فإن تفوق ليوناردو دافنشي في مجال الفن وبعد 500 سنة تقريبا على وفاته مازال صامدا أمام اختبار الزمن.

المصادر

ناشيونال جيوغرافيك