التعليم واللغات > اللغويات

علامات الترقيم في عصر الإنترنت

لعلامات الترقيم دلالاتٌ رمزيةٌ ومقاصدُ ومعانٍ وأماكنُ توضع فيها، فهي حين تدخل على النص لتضبطَه وتهذبَه وتنظمَه وترتبَه، وقد أُلّفت العديد من الكتب التي تشرح قواعد استخدام علامات الترقيم وتُفصِّل في مواضعها ودواعي استخدامها؛ مثل الشَّرْطَة بنوعيها القصيرة (-) والطويلة (—) والفاصلة (،) والنقطتين المتعامدتين (:) والفاصلة المنقوطة (؛) التي أثارت - وتثير - جدلًا كبيرًا بين المختصين اللغويين، حتى المعتدلين منهم.

يقول المختص اللغوي (ديفيد كريستال): "ينزعج الناس أحيانًا من اللغة ولا يعرفون السبب"، وقد لا يكون السبب إلا عدمَ فهمٍ ناتجًا عن خرق قاعدة من قواعد علامات الترقيم، وفي عصر الإنترنت اليوم أُحدثت الكثير من التغييرات على اللغة ولم تكن علامات الترقيم استثناءً، ولكنّ عددًا من المختصين اللغويين أكدوا أن الاستخدامات المبتكرة لعلامات الترقيم ليست أمرًا يدعو إلى الارتياب ولا حتى الاستنكار، وبالرغم من محاولة هذه الحقيقة إثبات نفسها، ما زال هناك خوف من المرونة في التعامل مع علامات الترقيم والتمرد على القواعد المنصوصة التي لها عراقة تاريخية ليس من السهل تجاوزها.

من "قتل" النقطة، ولماذا؟

طالما كانت النقطة الأكثرَ تواضعًا من بين علامات الترقيم، فهي سهلةُ الاستخدام ومحددةُ المواضع، ومع ذلك فقد بدأت تصبح محطّ الأنظار والأفكار وبابًا للجدل في الآونة الأخيرة، ولعلك سمعت مؤخرًا أن مجموعة من الكتاب المتمردين (كما يصفهم الصحفيون) لم يعودوا يضعون النقاط في نهاية جملهم الكاملة. لقد كان حياد النقطة أمرًا مسلَّمًا به في اللغة المكتوبة، فهي مجرد علامة تدل على تمام الجملة، ولا شيء أكثر من ذلك، ولعلك تعتقد أن فقدان نقطة صغيرة في نهاية السطر ليس من شأنه أن يثير كل هذا الاهتمام، لكن الأمر ليس كذلك!

قد لوحظ أن للنقطة تأويلاتٍ خاصةً في الرسائل النصية والمحادثات عبر الإنترنت، وأن الناس يستخدمون هذه النقطة ليس فقط لإنهاء الجملة، بل أيضًا للإشارة إلى استيائهم وغضبهم، فكأن أحدهم يقول: "لست سعيدًا بالجملة التي أنهيتُها للتو." وقد خلصت دراسة إلى أن الرسالة النصية المنتهية بنقطة يمكن أن تبدو أقل صدقًا وأقلّ جديّة بالمقارنة مع الرسالة نفسها إذا كانت مكتوبة بخط اليد ومنتهية بنقطة، ويرى البعض أن إضافةَ نقطة في آخر نص إلكتروني قد تشير إلى غضب الكاتب أحيانًا، وعلى سبيل المثال فكتابة "لا." على هذا النحو تعني أن المحادثة قد انتهت، ولكن "لا..." بهذه الطريقة المفتوحة ستُفهم القارئ أنه يمكنه المتابعة كونها متبوعة بعلامة ترقيم أقل جديّة من النقطة.

ويرى البعض أن النقطة مفيدة جدًا في تمييز الجمل في نص طويل، ولكنها تبدو غير ضرورية ومحمَّلةً بمعنى فظ إذا ما كانت في نص قصير، لا سيما أن رسائل الدردشة عادة ما تكون منفصلة وسهلة القراءة نسبيًا، ما لا يجعلها بحاجة إلى نقطة، ونتيجة لذلك صار المستخدمون يميلون إلى تخفيف حدّة النقطة مستبدلين بها علامة الحذف (…)، أو جعل الجملة أكثر حماسة وتأكيدًا فيختمونها بعلامات التعجب (!!!) التي تبدو ألطف من غيرها.

بعد حياة بريئة تمامًا للنقطة كان دورُها فيها فصلَ الجمل عن بعضها بهدوء - تتساءل عقول فضولية - ما الذي أغضب الناس منها؟ إن القواعدَ الصارمة، المذكورة في كتب شرح قواعدِ علامات الترقيم وأساليبِ استخدامها والتي تنطبق بسهولة على الكتابة الرسمية، لم تعد تنطبق على الرسائل القصيرة والتي غالبًا ما تكون جملًا نصف مصاغة ونصف منتهية ومتتالية بطريقة، وهكذا فقد خرجت علامات الترقيم عن مهمتها التقليدية وبدأت تؤدي دورًا ليس فقط في بناء المشاعر بل في عدد لا يحصى من الطرائق البلاغية المختلفة.

وأما مَنْ قتل النقطة؛ فعلى الرغم من أن الموضة الحالية هي استخدامُ علامة الحذف والشرطة في النص لتخفيف صدمة نهاية الجملة، هناك في الحقيقة متهم وحيد، ألا وهو البداية التلقائية للسطر الجديد، فهي التي عملت على تعطيل وظيفة النقطة في الرسائل الفورية، ولكن الشائعات بخصوص زوالها مبالغٌ فيها إلى حد كبير، فليس من المتوقع أن تموت النقطة في وقت قريب .

علم نفس علامات الترقيم

في ورقة بحثية بعنوان "علم نفس علامات الترقيم" نُشرت عام 1949، ناقش (إدوارد ل. ثورندايك) علاماتِ الترقيم وقواعدَها، واستبعد كونَها غيرَ قابلة للجدال، وقد سَخِر كُتَّابٌ كثر في الماضي من موضة علامات الترقيم التي تظهر وتختفي وفقًا لنوعية القارئ، ويقول (ثورندايك): "أكثر من عُشر علامات الترقيم في المجموعة الأولى لأعمال شكسبير الصادرة عام 1623 والطبعة الأولى من نسخة الملك جيمس للكتاب المقدس الصادرة عام 1611 كانت عبارة عن نقطتين متعامدتين، أما الآن (في النصوص المعاصرة) فقد أصبحت النسبة نحو 1,5٪". وعلى عكس تناقص النقطتين المتعامدتين في نصوص اليوم، صارت علامة الحذف (...) تتكرر في كل مكان، ويُخشى أن النقطتين (:) والشرطة السفلية (_) قد حذفتا تمامًا. (وكون الورقة البحثية أُنجزت عام 1949، فربما حُسبت كل هذه العلامات باليد، ما يبين الشغف الحقيقي للبعض بموضوع علامات الترقيم).

ويقول الفيلسوف (تيودور و. أدورنو): "لا يوجد عنصرٌ تشبه فيه اللغةُ الموسيقا أكثر من علامات الترقيم، فالفاصلة والنقطة تتوافقان مع نصف الإيقاع والإيقاع الحقيقي، ونقاط التعجب تبدو مثل ضربات صنج صامتة، وعلامات الاستفهام كأنها نبضات موسيقية".

في البداية كانت علاماتُ الترقيم إشاراتٍ مبسطةً تهدف إلى مساعدة القارئ على القراءة السليمة حين يقرأ بصوت عالٍ للجمهور وترشده إلى تأدية النص بالتلحين والنغمة والوقفات الضرورية التي يقصدها المؤلف الغائب، وهي تُذكِّر بأن اللغة منطوقة أساسًا، وإن كانت مكتوبة، ومن ثم بدأت علامات الترقيم تأخذ أماكنها الثابتة الحالية عندما طور الكُتَّاب والناشرون رموزًا وقواعد للّغة الأدبية الصامتة، فأصبح تعلُّمُ علامات الترقيم ووضعُها في المكان المناسب يهدف إلى الاستعراض والهيبة والقدرة على الكتابة أكثر مما يهدف إلى ضبط إيقاع المكتوب، وأصبحت علامات الترقيم دليلًا على القواعد الجيدة ولا تُعدُّ أمرًا سيئًا في فقرة مزدحمة، بل إضافة مفيدة تعطي ترتيبًا ووضوحًا للمعنى والفكرة.

علامات الترقيم في عالم الإنترنت والدردشة

تُعدُّ الرسائل أو الدردشة عبر الإنترنت أقل رسمية، وقد تطوّر استخدامُ علامات الترقيم في الرسائل النصية والدردشة والمراسلة الفورية بسرعة كبيرة، ووفقًا للمختصة اللّغوية (لورين سكوايرز) فقد تطورت لغة الإنترنت لتصبح سجلًا لغويًا قائمًا بذاته، حتى إن البعض يذهب إلى عدِّها لهجةً لها أساليبُ تطور خاصةٌ ومعانٍ اجتماعيةٌ ومقاصد، ولها محادثاتُها ذاتُ المعاني الضمنية. لنأخذ مثلًا الابتكارات اللغوية المتمثلة في الاختصارات القديمة كـ(brb ويعني "سأعود بعد قليل" be right back) الذي غالبًا ما يُلفظ كما يُكتب، والاختصار (gr8 بمعنى "عظيم" great) الذي ما زال محبوبًا لدى مستخدمي الهواتف القدامى والجدد، وأيضًا المتغيرات الإملائية التي تعكس صوت الكلام والتأكيد داخل النص مثل (جيييييد جددددًا) وبالطبع الكلمة الشهيرة (omg والتي تعني "يا إلهي")، وعلامات التعجب المتتابعة (!!!!)، ويوجد بالطبع الكثير لقوله عن علامات الترقيم وحياتها الغريبة في عالم الإنترنت.

وفي وجود الرسائل الفورية والنصوص والتغريدات، تعود علامات الترقيم إلى جذورها لتصبح طريقةً لنقل إشارات اللحن والكلام في غياب الصوت والرؤية، ومثلما هو الحال في الصور المتحركة والرموز والصور التعبيرية، فإن الترقيم هو طريقة أخرى للرسائل القصيرة في لغة الإنترنت التي تستخدم مواردها اللغوية المحدودة لتوصيل الإشارات العاطفية والفوارق الدقيقة والمعاني، وتغييرها من صيغة مكتوبة بحتة إلى خطاب نصي سريع يبدو أقرب إلى اللغة المنطوقة منه إلى المكتوبة، وتؤدي الرموز والصور التعبيرية في لغة الإنترنت أيضًا دورًا كبيرًا في الحالة الوصفية لنقل الإشارات العاطفية لكنها لا تكفي، فالرمز الغاضب ربما يدل على الغضب ولكنه أيضًا قد يحمل المظهر الساخر المتهكم للغضب.

تساعد علامات الترقيم الأشخاص على التفاوض في العلاقات الاجتماعية عبر الإنترنت، فيمكنك الآن قراءةُ الكثير من المعاني الضمنية من نصٍّ قصير جدًا وعددٍ قليل من الرموز بفضل الطريقة التي تطورت بها استخداماتُ الترقيم لتوضيح نيَّات المتحدث الحقيقي بمهارة.

قد يثير أيُّ انحراف دقيق عن معايير لغة الإنترنت بعض الدهشة لدى مستخدميه اليوم، لا سيما في أسلوب كتابة الرسائل القصيرة. وتجاهلُ علامات الترقيم ليس قرارًا سليمًا؛ إذ إن فقدانها أو استخدامها بطريقة عشوائية قد يثير ارتباكًا وسوء فهم، وعدمُ وضع علامةِ استفهام في سؤال بريء مثل "في أي وقت"، أو اختصارُ كلمة قصيرة اختصارًا مفرطًا قد يُعَدُّ دليلًا على قلة الاهتمام أو الانزعاج، أما إذا افترضنا انقراض علامات الترقيم من نصوص الإنترنت في المستقبل فسوف يكون هناك حينها الكثير من المعاني التي لن نفهمها بسهولة ولن تتضح إلا من سياق النص .

المصدر:

هنا

الدراسات المرجعية: 

 
Resources
JSTOR is a digital library for scholars, researchers, and students. JSTOR Daily readers can access the original research behind our articles for free on JSTOR.
Enregistering internet language
By: LAUREN SQUIRES
Language in Society, Vol. 39, No. 4 (September 2010), pp. 457-492
Cambridge University Press
We Learn What We Do: Developing a Repertoire of Writing Practices in an Instant Messaging World
By: Gloria E. Jacobs
Journal of Adolescent & Adult Literacy, Vol. 52, No. 3 (Nov., 2008), pp. 203-211
Wiley on behalf of the International Reading Association
The Psychology of Punctuation
By: E. L. Thorndike
The American Journal of Psychology, Vol. 61, No. 2 (Apr., 1948), pp. 222-228
University of Illinois Press
Punctuation Marks
By: Theodor W. Adorno and Shierry Weber Nicholsen
The Antioch Review, Vol. 48, No. 3, Poetry Today (Summer, 1990), pp. 300-305
Antioch Review Inc.