الطب > مقالات طبية

التسمُّم بالماء هل من الممكن أن يكون قاتلاً؟

أقبلت امرأة على شرب قرابة 30-40 كأساً من الماء، وكانت تتقيّأ بين كل كأس وأُخرى وتصرخ بأنّها لم تشرب بما يكفي، وعندما دخلت إلى النوم فارقتها الحياة.

أبدت الفحوص التي أُجريت على جسدها لاحقاً بأنَّ وظائفها الغدية كانت طبيعية وأنها لم تعانِ سوابقَ مرضيَّة سوى آفةً في الصمام التاجي في البُطين الأيسر، وكان تركيز الصوديوم عندها منخفضاً جدّاً 92 mmol/l (الطبيعي بين 132-144)، وحُدِّد سبب الوفاة بأنه نقص في الصوديوم نتيجة تسمُّم في الماء.

قد يبدو الأمر غريباً عندما نقول إنَّ الماء يمكن أن يكون سامّاً؛ إذ تحافظ أجسامنا على توازن الماء على نحو منظَّم جدّاً، فعند شرب كميّات كافية من الماء يتولَّد الإحساس بالشبع؛ إذ تبدأ المعدة بالانتفاخ ويبدأ إدرار البول للتخلُّص من الكميّات الزائدة عن حاجة الجسم من الماء.

وفقاً لقوانين الانتشار الفيزيائية؛ فإنَّ حركة الماء حرّةٌ بين أحياز الجسم الداخل الخلويّة والخارج الخلويّة وفق تركيز المواد المُنحلَّة والذي يُعرف بالأوزموليّة؛ إذ يحوي كل كغ من الجسم قرابة  285-290 mOsm من المواد المُنحلَّة التي تتكون من الصوديوم في السائل الخارج الخلوي والبوتاسيوم في السائل الداخل الخلوي، فأيُّ زيادة أو نقصان في حجم الماء سيُشارَك بين أحياز الجسم جميعًا.

عند تمدُّد السائل الخارج الخلوي كما في حالة شرب كميات هائلة من الماء؛ يحدث نقصٌ نسبيٌّ في كمية الصوديوم، فيتحرَّك الماء إلى داخل خلايا الدماغ وتبدأ الأعراض العصبية التي تتجلَّى بتخليط  ذهني وغثيان وإقياء وأعراض نفسية، ويمكن أن تصبح الأعراض شديدة في حال أصبح تركيز الصوديوم بين mmol/l90-105 أو أقلّ، لتنتهي بالسُّبات والموت.

تُشير كلُّ هذه الأعراض إلى التسمُّم بالماء، فعلى الرغم من وجود خطِّ سلامة كبير (بفضل جهاز تحكّم فيزيولوجي يقع في الوِطاء؛ إذ يؤمن التوازن بين خسارة الماء والوارد منها)؛ ولكن يمكن أن يُؤدي الاختلال في أحد العنصرَين إلى الأعراض السابقة.

إنّ الكلية هي عضو التصريف الأساسي للماء من الجسم؛ إذ تتحكم  بوظيفتها عن طريق عمل الهرمون المضاد للإدرار أو الأرجنين فازوبريسين AVP الذي يُصنَّعُ  في خلايا عصبية تقع في الوِطاء، ثم ينتقل عبر محاويرهذه الخلايا ليُختزن في الجزء الخلفي من الغدة النخامية، فيُعيد امتصاص الماء ويمنع خسارتها من الجسم، ويُفرَزاستجابة للعديد من المحفّزات؛ أهمّها: ارتفاع أوزمولية سوائل الجسم، والعكس؛ فإنّ أي نقصان في الأوزموليّة يؤدي إلى توقّف إفراز AVP فيُسبِّب إدرار البول.

إذاً؛ تُؤدي أية مشكلة كلوية أو في عمل الهرمون المضادّ للإدرار إلى أعراض التسمُّم بالماء؛ فمثلاً في زيادة إفراز AVP مثل الذي يكون في متلازمة الإفراز غير المناسب للهرمون المضاد للإدرار SIADH (متلازمة يحدث فيها إفراز للـ AVP غير متناسب مع الأوزمولية)؛ يحتفظ الجسم بالماء وقد تتطوّر أعراض التسمّم بالماء نتيجة ذلك.

يعتمد الإحساس بالعطش تفعيلَ مراكز الوعي في قشر الدماغ، فعلى الرغم من أنه إحساس واعٍ؛ ولكنه يتداخل في مراكز غير واعية في الوِطاء والتي تقع قرب المراكز المسؤولة عن إنتاج AVP، فمن غير المستغرب أنَّ التحفيز الشديد للعطش يمكن أن يحفِّز إطلاق AVP فيحافظ على الماء في الجسم.

أهمّ محفزات العطش هي زيادة الأوزمولية أو حجم الدم، وغالباً ما يرتبط العطش المرضيُّ غير المصاحب بهذا التحفيز بالأمراض النفسيّة كما في مرضى الفصام واضطرابات الشخصية والذّهان الحاد. ففي دراسة مقطعية cross sectional أُجريت على مجموعة من المرضى المتخلِّفين عقليّاً في مستشفى ليفيدسن شمال لندن؛ حُدِّدت عيّنة من المرضى يشربون 5 ليترات أو أكثر من الماء يوميّاً، وهؤلاء الذين من الصعب تقدير كميّة الماء التي يبتلعونها يوميّاً والذين يستغلُّون أية فرصة للوصول إلى الماء كالشرب من ماء الحمام، فعن طريق قياس الثقل النوعي لبول المرضى في المشفى؛ عُدَّ الثقل النوعي الذي يقلُّ عن 1.008 في ثلاث مناسبات لهؤلاء معياراً لتحديد العيّنة، وقُورنت الحالات مع مرضى غير مصابين بعطش مرضي والذين يُوافقون الحالات في العمر والجنس ودرجة الإعاقة العقليّة؛ فوُجد أنّ نسبة أولئك المصابين بعطش مرضي تبلغ 3.5%، وكان الارتباط شديداً مع مرضى الفصام والاضطرابات الشخصيّة والتوحُّد. وفي دراسات أخرى وُجدَت نسب أعلى تبلغ 17.5 % و6.6% من مصحَّات نفسيّة أمريكيّة. هناك عدّة نظريّات تُفسِّر سبب ارتباط الأمراض النفسيّة بالعطش الشديد؛ إذ يدفع القلق عند هؤلاء إلى شرب كميات كبيرة من الماء وحدوث نقص في الصوديوم؛ الأمر الذي يُسبِّب تدنِّياً في الوعي فيحدث حالة من إزالة القلق، ويمكن أن يكون نتيجة الإحساس بالفراغ ونقص طرائق فعّالة لإزالة القلق وتوافر الماء الدائم فيهمُّون بابتلاعه.

يمكن أن يُصاب الأشخاص الطبيعيون بعطش شديد يُؤدِّي إلى أعراض التسمّم بالماء بعد ممارسة تمارين رياضية مجهدة، ثم شرب كميات كبيرة جدّاً من الماء؛ إذ يمكن أن يترافق ذلك بخلل في عمل الكلية على طرحها أو عند الجنود الذين يتعرَّضون لأذيات حراريّة.

ثم إنه يمكن أن تُؤثر بعض الأدوية في إدرار البول عند أشخاص يتناولون كميّات طبيعيّة من الماء مثل سلفونيل يوريا وفنكريستين وسايكلوفوسفاميد ويُعرَف الأخير بأنّه يُعطَى لمرضى السرطان وزرع نِقي العظم؛ إذ يُحدث  تثبيطاً مناعياً، ولكن؛ إذا أعطي بجرعات أكبر من 50 mg/kg ترافق ظهور مستقلباته في البول بأعراض نقص صوديوم الجسم وزيادة تركيز البول.

إنَّ قدرة الجسم على موازنة الصادر والوارد من السوائل مهمَّة جداً في المحافظة على أدائه السليم، فكما قلنا سابقاً: اطمئن؛ فخطُّ السلامة كبير، ولكن؛ يُؤدِّي  تجاوزه إلى أعراض وخيمة!

المصادر

1-هنا

2-هنا

3-هنا

4- هنا

5-هنا

6 -هنا