الطب > طب الأنف والأذن والحنجرة

الورم الكوليستيرولي وضعف حاسة التذوق

إن المسؤول عن الرغبة القوية التي تدفعنا إلى تذوق الحلويات وعن سيلان لعابنا عند التفكير في الطعم الحامض هو عصبٌ ذو مسارٍ مُعقَّد؛ والذي يُسمى عصب حبل الطبل، فما هذا العصب؟ وما علاقته بأمراض الأذن الوسطى؟

ينشأُ عصبُ حبل الطَّبل من العصب الوجهيّ، ويكون ذلك قبل دخول الأخير قناتَه العظميّة التي تتوضَّع على جدار الأذن الوسطى الداخليّ؛ إذ يحمل حبل الطبل الأليافَ القادمة من البراعم الذوقيّة التي تتوضَّع على ثُلثي اللسان الأماميّين، فضلاً عن حملِهِ الألياف الصادرة إلى الغدد اللعابية تحت اللسان والفكّ، فهو مسؤول عن التذوّق وإفراز اللعاب في الجهة الموافقة له من الفم. ولكن نلاحظُ في مسار حبل الطبل أنَّه يكون مجرّداً من قناته العظميّة عند دخوله الأذن الوسطى تاركاً نفسه في وضعٍ حساسٍ جداً، وهو مُعلَّق بين فتحتين عظميَّتين تقعان على جدارَي الأذن الوسطى الأمامي والخلفي، واللتان تُشكِّلان مدخل حبل الطبل ومخرجه.

ولكي نعلم العلاقة الوثيقةَ بين الأذن الوسطى وحبل الطَّبل؛ علينا أولاً أن نعرف هيكلها التشريحيّ قليلاً؛ إذ تتكون الأذنُ البشرية من ثلاثة أقسام؛ وهي: الأذن الخارجية والأذن الوسطى والأذن الداخلية، وتُشكِّل الأذن الوسطى بِنية التوصيل العظمي للصوت من مجرى السمع الخارجي إلى سائل الأذن الداخلية، وأساسُ هذه البِنية هي عظيمات السَّمع الثلاث المُتمفصلة فيما بينهما، وهي المطرقة والسّندان والرّكابة؛ إذ تسكنُ في تجويفٍ محفورٍ في العظم الصدغيّ وهذا التجويف مُكوِّنٌ للأذن الوسطى ويُسمى جوف الطبل، ويُملأ جوفُ الطَّبل بالهواء بفضل أنبوبٍ يصلُ بينه وبين البلعوم الأنفي ويُسمى "نفير أوستاش"، ومَهمَّته مساواة الضغط في الأذن الوسطى مع الضغط الهوائي لتجنب حدوث ضغط سلبيّ فيها يؤدي إلى انسحاب غشاء الطبل إلى الداخل.

ويتصل الجزءُ الخارجيُّ من جوف الطّبل بغشاء الطَّبل الذي يتكوّن من جزءٍ رخوٍ في الأعلى وجزءٍ متوتّرٍ في الأسفل. ويتّصل الجزء الخلفيّ من جوف الطبل -والذي يُعرفُ بالغار- بالخلايا الخشائية المملوءة بالهواء، والتي تشكّلُ جزءاً من العظم الصدغيّ. ويُشكّل سقف الجوف الطبليّ حاجزاً يفصل بينه وبين البِنى داخل القحف في الأعلى.

يدخل عصب حبل الطَّبل جوفَ الأذن الوسطى من الجدار الخلفي بعد أن يترك قناته العظميّة ليمرّ إلى الداخل من عنق المطرقة، ويخرج من جدار الجوف الأمامي.

منظرٌ تشريحيٌّ لعصب حبل الطبل داخل الأذن الوسطى A ) خلف حلقة غشاء الطبل الليفية B) عند عنق المطرقة C) بعد خروجه من العصب الوجهي.

إنَّ العلاقة الوثيقة بين الأذن الوسطى وعصب حبل الطبل دفعت العديد من الدراسات إلى تسليط الضوء على الرابطة بين آفاتها -خصوصاً المزمنة منها- وضعف حاسة التذوق، وأهم هذه الآفات التي تُصيب الأذن الوسطى هي الورم الكوليستيرولي.

قد يوحي اسمه بأنه تكاثر ورميّ، وأن للكولسترول دوراً في تشكُّله، وهذا ما اعتقده العلماء في الماضي، ولكن؛ هذه التسمية خاطئة ولا تُشير في الحقيقة إلى تكاثر ورميّ ولا دور للكولسترول في تشكُّله. بل هو تجمُّعات سليمة من خلايا بشروية تُشبه خلايا الجلد؛ فهو في الحقيقة يعني "الجلد في الموقع الخطأ"، وعلى الرغم من الأسئلة في مدى صحّة هذا المصطلح؛ فقد احتُفظ به في الأدب الطبي.

الورم الكوليستيروليله نوعان: خِلقي ومُكتسب؛ أما الخِلقي فينجم عن بقاء الخلايا البشروية خلف غشاء الطبل في مراحل تطوُّر الجنين. أما المكتسب فهو ينجم عن وجود ثقب في غشاء الطبل غالباً، ومن أجل تفسيره فهناك أربع نظريات:

نظرية الحؤول الحرشفيّ التي تقول بأن الالتهاب المُزمن يُسبِّب زيادة تصنُّع في الطبقة المخاطية التي تُبطِّن الأذن الوسطى.

2) ثقب في غشاء الطبل؛ والذي يسمح للخلايا البشروية للطبقة الخارجية من غشاء الطبل بالهجرة عبر هذا الثقب إلى جوف الأذن الوسطى.

3) فرط التصنُّع القاعدي؛ أي إنَّ خلايا غشاء الطبل القاعدية ترتشح وتنتقل إلى الأذن الوسطى عبر غشائه القاعدي.

4) نظرية الجيب الانسحابي؛ وهي الأكثر قبولاً في الوسط الطبيّ؛ إذ يُسبِّب الضغط السلبيّ داخل الأذن الوسطى -الناجم عن سوء عمل نفير أوستاش- انسحابَ غشاء الطبل إلى الداخل؛ فيُنتِج جيباً تتجمَّع فيه الخلايا البشروية مُهاجرةً إلى الأذن الوسطى عن طريق ثقب فيه.

يستمرُّ تجمُّع الخلايا البشروية -والذي يُشكِّل المبدأ المشترك لجميع نظريات تشكُّل الورم الكوليستيرولي- عن طريق الهجرة والتكاثر على مدى أشهر وسنوات، مُطلقاً تفاعلات التهابيّة وأنزيمات حالّة تُسبِّب تآكل عظيمات السمع، وقد يمتد إلى سقف جوف الطبل ويتجاوزه مُحدثاً أعراضاً عصبية، ولأن عصب حبل الطبل يفتقر إلى الحماية العظمية؛ فهو عُرضة للتأثيرات الالتهابية. وقد استُخدم مقياس التذوق الكهربائي لدراسة هذه التأثيرات من أجل تقييم حاسة التذوق عند مرضى الأذن الوسطى في مجموعة من التجارب، ويتميز هذا الجهاز بدقَّته العالية في تقييم عتبات التذوّق؛ إذ نضع قطب الجهاز الموجب على اللسان ويبقى القطب السالب في يد المريض، ثم يُطلقُ حافز كهربائيّ يمكن التحكّم بشدّته، ويُشير المريض حين يشعر بالطعم المعدنيّ و تُسجّل عتبة التذوق لديه حينها.

وعند إصابة حبل الطبل بأحادية الجانب؛ يُشير المريض إلى أن حاسة التذوق على الجانب الطبيعي أقوى بكثير من الجانب المصاب، وتكون إصابته بآفات الأذن الوسطى تدريجيّة على مدى سنوات؛ إذ لا يكون المريض مُدركاً تَغيُّر حاسة التذوق، وتُعوّض الغدد اللعابيّة في الجانب السليم الجفافَ الناجمَ عن إصابتها في الجانب المصاب فلا يشعر المريض بجفاف في الفم.

وفي دراسة أُجريت على مرضى التهابات متنوعة في الأذن الوسطى؛ وُجد أنَّ 62% من هؤلاء الذين يملكون التهابات مزمنة في العلية والغار يُعانون ضعفاً في حاسة التذوق، وأنَّ 72% من هذه الحالات لديهم فقدان تامّ في حاسة التذوق، وارتبط ذلك بطول مدة الأعراض لديهم والتي تتَّفق مع التطور الطبيعي للورم الكوليستيرولي المُتطوِّر ببطء والمُدمِّر للبِنى المجاورة.

وفي دراسة أخرى أُجريت على مرضى مصابين بأورام كوليستيرولية في الأذن الوسطى؛ وُجد أنَّ الذين يعانون ورماً كوليستيرولياً من نمط الجيب الانسحابي في الجزء المتوتر من غشاء الطبل لديهم انخفاض واضح في عدد براعم التذوق وانخفاض في حسِّ الذوق مُقارنة بأولئك المصابين بورم كوليستيرولي من نمط الجيب الانسحابي في الجزء الرخو من غشاء الطبل. ويعودُ ذلك إلى أنَّ الورم الكوليستيرولي في الجزء الرخو يمتدُّ إلى الخلايا الخشائية في الخلف، ولا يتأثر عصب حبل الطبل المتوضّع في جوف الأذن الوسطى في هذه الحالة، في حين يُسبِّب الورم الكوليستيرولي في الجزء المتوتر من الغشاء تراجعَ كامل الغشاء وضغطاً على عصب حبل الطبل، إضافة إلى دور الوسائط الالتهابية التي يطلقها الورم والتي تُسبِّب تدميراً في العصب قد لا يكون هناك رجعة فيه.

قد يكون ضعف حاسّة التذوّق أو فقدانها علامةً سريريةً مهمةً تعكس آفة مدمرة صامتة في الأذن الوسطى، فعادةً ما يتظاهر الورم الكوليستيرولي بنقص السمع وسيلانٍ كريهِ الرائحة من مجرى السمع الخارجيّ، ولكن قد يُؤخر تطور الآفة البطيء ظهورَ هذه الأعراض، وإذا تأخر العلاج المُناسب؛ فقد تتطوّر اختلاطات مهمة لهذا الورم خاصّة عند وصوله إلى جوف القحف، وذلك نظراً إلى وجود حاجز رقيق يفصل بين جوف الأذن الوسطى وبنى الجهاز العصبي المركزي.

إن تشخيص رؤية الورم الصحيح بمنظار الأذن والصورة السريريّة التي يأتي بها المريض إضافة إلى الصور الشعاعيّة؛ جميعها لها أهمية كبيرة في تطبيق العلاج المناسب، والذي يكون عادةً بإزالة الورم جراحياً.

قد لا تعود الوظيفة السمعية أو الذوقية بعد الجراحة، ولكن؛ يمكنها منعه من الامتداد كي لا يُسبِّب أذيات إضافية؛ لذلك على المريض الحذر عند تكرار حدوث التهابات في الأذن الوسطى أو عند وجود سيلان مزمن من الأذن ومراجعة الطبيب المُختصّ فوراً.

المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا