الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة

موجز عن تاريخ الفلسفة: فلسفة العصور الوسطى

فلسفة العصور الوسطى

تميَّزت فترة العصور الوسطى المبكرة بغزوات البرابرة من الإمبراطورية الرومانية الغربية وانهيار حضارتها، وببناءٍ تدريجي لثقافة مسيحية جديدة في أوروبا الغربية.

إذ تمتد زمنيًّا من سقوط الإمبراطورية الرومانية في القرنين الرابع والخامس الميلاديَّين إلى عصر النهضة في القرن الخامس عشر.

وترتبط فلسفة العصور الوسطى ارتباطًا وثيقًا بالفكر المسيحي اللاهوتي، فأغلب أفكارها دينية لاهوتية. وقد أصبحت الأديرة هي مراكز التعلم والتعليم الرئيسة، واحتفظت بأولويَّتها حتى زمن تأسيسِ المدارس والجامعات الكاتدرائية في القرنَين الحادي عشر والثاني عشر.

أوغسطين (٣٤٥- ٤٣٠ ق.م):  

ولد القديس في طاجسطا نوميديا (سوق الأخرس- الجزائر حاليًّا) من أمٍّ مسيحية وأب وثني، ويُعدُّ من أوائل الشخصيات الفلسفية في العصور الوسطى، وقد صوَّر الفلسفة بأنَّها مدرسةٌ علم وفضيلة ووسيلة للحياة السعيدة، فاندفع في طلب الحقيقةِ؛ حقيقةِ مصير الإنسان.

ومنهجه الفلسفي ليس إلّا صورةً عن حياته، فقد رأى أنَّنا نجد السعادة بالفلسفة التي هي مطلبٌ لكل إنسان.

وأمَّا موضوع فلسفته فهو الإيمان والعقل، فالإيمان -بنظره- ليسَ عاطفة غامضة وتصديقًا عاطلًا من الأسباب العقلية، بل هو قبولٌ عقليٌّ لحقائق إن لم تكن مُدركَةً بذاتها كالحقائق العلمية؛ فهي مؤيَّدةٌ بشهادة شهود جديرين بالتصديق، وهم الرسل والشهداء، وبعلاماتٍ خارقة هي المعجزات.

وللعقل مهمة بعد الإيمان هي تفهُّمُ العقائد الدينية، ثم إنَّ العقل قادر على البحث وهو أسرع قبولًا للحق؛ إذ نقول: "آمِن كي تتعقل"، على أنَّ التعقل هنا يكون لِما هو قابل للبرهان كوجود الله وصفاته ووجود النفس وروحانيتها وخلودها.

لم يشكَّ أوغسطين في وجود الله، واحتلت فكرة الله نقطةَ المركز في مذهبه، فيقول: "إنَّ العالَم نفسَه بتغيُّره المنظم تنظيمًا عجيبًا، وبأشكاله البديعة؛ يعلنُ في صمت أنه مصنوع".

وتحدَّث عن النفس الانسانية بأنَّها صورة الله، وروحانيتها تجعلها واحدةً غير منقسمة كما اللهُ واحدٌ، وتجعلها الإرادة والذاكرة والعقل ثلاثيةً في وحدتها كما اللهُ ثالوث، وليس في النفس قوى متمايزة منها وإنَّما هناك أفعال مختلفة لها.

وفضلًا عن ذلك؛ فأوغسطين هو أوَّلُ مَن عالَج مسألة اليقين، لأنه عدّها المسألة المُقدَّمة على سائر المسائل، وتنقسم مناقشته للشك إلى قسمَين؛ قسم سلبي: يبين فيه أنَّ موقفَ الشك مُسرفٌ متناقض، وقسم إيجابي: يثبت فيه أنَّنا ندرك إدراكًا يقينيًّا حقائقَ موضوعية.

وعدَّ أنَّ حقائقَ كل من الرياضيات والأخلاق ضرورية وغير قابلة للتغيير وأبدية، ولا يمكن أن تأتي هذه الحقائق من عالم الأشياء الطارئة والزمنية ولا من العقل نفسه الذي هو طارئٌ وقابلٌ للتغيير وزماني أيضًا.

جون سكوت إريجينا (٨١٠ - ٨٧٧ م)   

فيلسوف إيرلندي، وأكبر أساتذة القرن التاسع، وهو أول فيلسوف مَدرسيّ عاصرَ الكنديّ أول الفلاسفة الإسلاميين.

وأوَّل مصنفاته كتابُ (في الانتخاب الإلهي)؛ وضعهُ استجابةً لطلب أسقفَين رغِبا إليه في أن يردَّ على رسالة لأحد الرهبان زعمَ فيها أنَّ الله ينتخبُ للجنّة أو للنار؛ فلا حرية ولا تبعية، وكان هذا الزعمُ قد أثارَ ضجة كبيرة فأيده بعض الناس في حين دافعَ كثيرٌ منهم عن الحرية، وجاء كتاب إريجينا مبيّنًا عن مصادره وعن نزعة عقلية جريئة، فهو يذكر بالطبع آياتٍ كثيرة من الكتب المقدسة، ويستشهدُ بشيشرون وأوغسطين وبوس؛ ولكنَّه يقول بوجوب الاحتكام الى العقل، فيذهب إلى أنَّ العقل يأبى التسليم بأنَّ الله ينتخب أهل النار ويقدم دليلَين؛ أحدهما: أنَّ علةً واحدةً بعينِها لا تُحدِثُ معلولَين متقابلين فلا يمكن أن نضيف إلى الله إرادةً للخير وأخرى للشر، والدليل الثاني: أنَّ الشر عدمٌ؛ فلا يمكن أن يكون الله علةََ إلا للوجود؛ أي للخير.

وأمّا كتابهُ الأكبر فهو (قسمة الطبيعة) الذي يقصد به نظامَ الوجود أو ترتيب الموجودات، إذ قسّم الطبيعة أربعة أقسام:

أوَّلًا: الله من حيث هو مبدأ الأشياء (الطبيعة غير المخلوقة الخالقة).

ثانيًا: الله هو وسط تقومُ الموجودات فيه وتتحرك به (الطبيعة المخلوقة الخالقة)

ثالثًا: الروح القدس (الطبيعة المخلوقة غير الخالقة)

رابعًا: الله من حيث هو غاية ترجِع إليها جميع الموجودات (الطبيعة غير المخلوقة غير الخالقة)

فالخلقُ عنده أزلي، والله يخلق الإنسان لمّا كان الله سابقًا وجودُه على الإنسان، لذلك فالله هو البداية والنهاية، وهو الأول والآخر، ومن الله جاء العالم، وإليه يعود.

ويعودُ الإنسان إلى الله على ست مراحل وهي: الموت، والبعث، وتحول الجسم الى روح، وعودة الطبيعة الإنسانية وقد صارت روحيةً بأكملها، وتأمُّلُ الحقيقة في ذاتها، وتتشبَّع فيها الطبيعة الإنسانية فتصبح إلهيَّةً كما يصيرُ الهواء ضوءًا والمعدن المصهور نارًا دون أن يتلاشى فيهما الجوهر.

والغرض الذي يرمي إليه هو فلسفة الدين، إذ يجد أنَّه لا فارق بين الدين والفلسفة فكلاهما صادر عن الحكمة الإلهية (الفلسفة الحقة هي الدين الحق).

جيوم دوفرني (١٢٤٩ - ؟ م):    

فيلسوف فرنسي، له كتبٌ لاهوتية وصوفية وكتابان فلسفيَّان في خلود النفس والعالم وهو أوغسطيني، ولكنَّه أُعجِبَ بالعلم الطبيعي لأرسطوطاليس.

وفي البرهنة على وجود الله؛ لا يذكر دليل المحرك الأول ولو أنَّه يعدُّ الله العلة الفاعلية الأولى، ويرى أنَّ العالَم ليس أزليًّا كما ذهب إليه أرسطو وابن سينا وغيرهم ولكنه حادثٌ كما بيَّنَ اوغسطين.

ويختلف تجوهر المخلوقات في الأرواح عنه في الماديات، فالأرواح صورٌ خالصة أو عقولٌ مُفارِقة، والنفس الإنسانية لديه صادرة عن العقل الفعَّال أو عقل فلك القمر كما يقول ابن سينا، ولكنَّها مخلوقةٌ من الله مباشرة وهو يذهب الى أنَّ النفسَ تُدرِك ذاتها. ثمَّ إنّه يؤيد العقل في الحكم الضروري الكلي.

القديس بونافانتورا (١٢٢١ - ١٢٧٤ م):

فيلسوف إيطالي وُلِد في مدينة بنيوريا، وتأثَّر بأوغسطين الذي هو مرجعه الأكبر. وله كتبٌ فلسفية ولاهوتية وصوفية، فمهمَّةُ الفلسفة -في نظره- معاونةُ اللاهوت والتكمل به، ومهمة اللاهوت التوجهُ إلى التصوف والانتهاء إلى الجذب، أمَّا الاجتزاء بالفلسفة؛ فإنَّه يشوّه وجه الحقيقة الكلية ولا يدَعُ للعالَم سوى قيمة طبيعية بحتة.

وللنفس عنده معرفتان أو عقلان: عقل أدنى وعقل أعلى؛ فهي تتجه بجزئها الأدنى نحو المحسوسات وبجزئِها الأعلى نحو ذاتها ونحو الله، إذ ليست كلُّ معرفة آتيةً من الحواس. والعقلُ الإنساني لديه متصلٌ بالحقيقة الدائمة، بيد أنَّه ينبّه لأنَّ هذا الاتصال ليس اتصالًا بذاتِ الله أو رؤيةً مباشرة؛ وإنَّما هو اتصال بفكرة الله المنطبعة في النفس.

واعتقد أنَّ الإيمان بوجودِ الله فطريٌّ وأنَّ التدليل على هذا الوجود مجرد تفسير لايماننا به ولكن إذا تبيَّن أنَّ فكرة الموجود والخير والضروري والكامل مكتسبة بالتجريد، فإنها تظل مجرد فكرة ولا تدل على وجود واقعي.

وطبيعةُ العالَم لديه مُغايِرةٌ لطبيعة الله، فالعالَم لم يصدر عن الله بالطبع بل صدر بالإرادة، وهذا يحتّم القولَ بوجود مثلِ المخلوقات في الخالق، وما دامَ العالَم لم يصدر عن ذات الله فقد أوجدَه من العدم، وما كان لأحد أن يضع المادة إلى جانب الصانع بوصفها مبدأً مستقلًّا عنه.

وقد كان لنظريّته في المعرفة أثرٌ قوي في الفكر، إذ قالَ عنه أتباعه الأقرب إليه منهم إلى أوغسطين أنَّ مذهبَه في جملته قويٌّ، ومحبوك الأطراف، وتتألَّق فيه مواهبُ عاليةٌ من حرارة الروح، وسمو الفكر، وجمال الأسلوب.

روجر بيكون (١٢١٤ - ١٢٩٤ م)

فيلسوف إنجليزي، لهُ شروح على الطبيعيات وما بعد الطبيعة لأرسطو وعلى كتاب العلل لأبروقلوس، وهي ثمرة تعلُّمه في أكسفورد.

وهو أوغسطيني يجعل للاهوتِ المقام الأول، ويصطنع جميعَ قضايا المدرسة الأوغسطينية.

ويمتاز بشعوره القوي بأهميَّة التجربة وضرورتها، وكان يقول بأنَّ (الفلسفة الطبيعية والرياضيات لا تكفي لتصحيح الأخطاء في العلوم، بل يجب أن يجمعَ إليها المجرب المهارة اليدوية في إجراء التجارب).

ويحصر بيكون وسائل المعرفة في ثلاثٍ؛ وهي: النقل والاستدلال والتجربة.

وهو أوَّل من سمَّى العلم التجريبي scientia experimentalis  من مبدأ أنَّ التجربةَ لها وظيفتان: تحقيق النتائج التي تصل إليها العلوم بالاستدلال، واستكشاف حقائق جديدة، فتنتهي إلى تكوين علم قائمٍ برأسه، لا يرجِع إلى علم من العلوم المعروفة، وهو العلم التجريبي.

فامتزجت فلسفةُ بيكون بالدين والعلم والعمل، وعالج كلَّ ما عالجه مفكرو عصره من مسائل لاهوتية وفلسفية، وزاد عليهم اشتغالُه بالعلم التجريبي فدلَّ على سعة اطلاع وحسن إدراكٍ للشروط اللازمة لتقدُّم العلم.

وبذلك فإنَّ أهم فائدة لهذا الفيلسوف هي تأسيس نظرية العلم التجريبي، فقد فطِنَ لفوائده، وتنبَّأ بمستقبله، ورسم لأوروبا طريقَ السيادة على العالم.

القديس توما الأكويني (١٢٢٥- ١٢٧٤ م):

فيلسوف لاهوتي إيطالي، كانت مسألة الله أو مبدأ الأشياء أوَّل مسألة تلقاها؛ فإنَّ الله أوّل الموجودات وأصلها، وفضلًا عن ذلك؛ فقد طرح دلائل الإمكان في العالم وبها يجعلنا نتصور فورًا أنَّ الله هو المحرك الأول الذي لا يتحرك، والعلَّة الفاعليَّة الأولى، والموجود الواجب لذاته، والكامل؛ مصدرُ كلِّ كمال، ومنظِّمُ العالم.

وبعد العلم بوجود الله حاول تعرُّفَ ماهيته، وفي حديثه عن الخلق ذكر بأنَّ الملائكة هم رأس الخليقة، وأمّا المرتبة الثانية من مراتب الخليقة فهي للإنسان المركب من جوهر روحي وآخر جسمي.

وفي حديثه عن الأخلاق؛ ينظرُ إلى الإنسان من حيث هو مريدٌ مختارٌ، فالأخلاق تتناول الأفعال الصادرة عن الانسان.

وأخيرًا؛ تحدَّثَ عن الدولة التي هي في نظره هيئةٌ مُوحَّدةٌ بتنظيم أفرادها؛ مثل الجيش، إذ يعاون عملُ الجندي فيه عملَ المجموع دون أن يختلط به، وأهم وظائف الدولة هي تأمينُ الجماعة من الخطر الداخلي والخارجي، وعلى المواطنين واجب احترام أولي الطاعة ما داموا يتوخون العدالة.

وهكذا نرى أنَّ العصور الوسطى لم تكن في الواقع سوى دورًا من أدوار تطور الحضارة الأوروبية وهي تسعى الى تحقيق إمكاناتها، والبحث عن الحقيقة، واكتشاف أسرار الطبيعة، وتحقيق الوسائل المؤدّيةِ إلى تطور الإنسانية.

مصادر المقال

1- بدوي، عبد الرحمن، فلسفة العصور الوسطى، دار القلم، لبنان، بيروت.

2- كرم، يوسف، تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، مصر، القاهرة.

3-هنا