الاقتصاد والعلوم الإدارية > اقتصاد

افتقار الاقتصاديين إلى فهم دورة الأعمال.

كان من المفترضِ أن تكون أعقابُ الأزمة المالية التي حدثت في 2007-2008 لحظةَ انتصارٍ على الاقتصاد؛ إذ حالت دونَ انهيارِ نظامي التمويل والتجارة العالميين، ليظهر الأمر وكأنَّ الاقتصاد قد حقَّق انتصارًا بعد العديد من الدروس والتي كانَ أشهرها وأشدُّها أزمة ثلاثينيات القرن الماضي (أزمة الكساد الاقتصادي)؛ وهي أزمةٌ اقتصاديةٌ حدثت عام 1929م مرورًا بعقد الثلاثينيات وبداية عقد الأربعينيات، وتُعدُّ أكبر وأشدّ الأزمات الاقتصادية في القرن العشرين.

ومع أن سياسة الإصلاح التي اتُّبِعت كانت مفيدة؛ ولكن كشفت الأزمة المالية عن عدم وجودِ معرفةٍ كافية عند الاقتصاديين فيما يخصُّ دورة الأعمال، وهذا يُعدُّ خبرًا سيئًا عند الجميع!

نعلم بأن الهدف من أولئك الذين يدرسون الاقتصاد الكُلِّي هو فهمُ تقلُّباتِ الاقتصاد واكتشاف متى يجب على الحكومات أن تتدخل أيضًا، ولكنَّ الأمرَ ليس بهذه السهولة؛ إذ غالبًا ما يُسبِّب الركود كثيرًا من الآثار السلبية. والحلُّ لا يكمنُ في مَنح الاقتصاديين بيانات مُتعددة ليستطيعوا تقديم تحليلٍ إحصائيٍّ دقيق، لأنهُ من الصعب التمييز بين التقلُّبات التي تحدث على المدى القصير والتغيرات الاقتصادية الهيكلية الناتجة عن الديموغرافيا (أي الخصائص الكمية للسكان؛ كالكثافة السكانية والتوزيع والنمو...إلخ) أو التكنولوجيا.

لمعرفة معلوماتٍ أكثر عن الاقتصاد الكلي ودورة الأعمال اضغط هنا

بحلول القرن العشرين؛ سعى بعض المفكِّرين لفهمٍ أفضلَ للمال في عالم الاقتصاد، وكيفَ يمكن لسِوُء إدارته أن تُسبِّب المشكلات. وقد أسَّس جون ماينارد كينز John Maynard Keynes (وهو اقتصاديٌ بريطانيُّ الجنسية) نظريةً الكينزية بالاقتصاد Keynesian economics، وتُركِّز هذه النظرية على دور كلا القطَّاعين العام والخاص في الاقتصاد؛ أي الاقتصاد المُختلط؛ إذ يختلف كينز مع السوق الحر الذي يُطالب بعدم تدخل الدولة (أي إنه مع تدخل الدولة في بعض المجالات)، فيرى أنَّ هذه الحالة تعود إلى نقص الطلب المرتبط بالتغيرات في سلوكيات الادِّخار والاستثمار، وعلى الرغم من أن الحكومات استخدمت السياسةَ النقديةَ والماليةَ على حدٍّ سواء؛ ولكنَّ نهجَ الكينزيين لم يتَّفق على الإطلاق مع الاقتصاديين ذوي التفكير الكلاسيكي الذين يُؤكِّدون أنَّ الأسواق تعمل على نحوٍ أفضلَ بحدٍّ أدنى من التدخل الحكومي. ووجد العديد من الكُتَّاب فكرةَ السوق الحرة لـ "آدم سميث" فكرةً أكثر إقناعًا من الحمائية (السياسة الجمركية)؛ وهي السياسة الاقتصادية لتقييد التجارة بين الدول عن طريق رفع الرسوم الجمركية على السلع المستوردة و تحديد كمِّياتها بهدف حماية أصحاب الأعمال والعمال في بلدٍ ما، والتي كانت منتشرةً في ذلك الوقت.

من أجل معلوماتٍ أكثر عن السياسة المالية اضغط هنا;

ويختلف الاقتصاد الكلاسيكي عن الاقتصاد الكينزي الذي يدعم سياساتٍ مثل الإنفاق على الرغم من عجز الميزانية، والسيطرة على المعروض النقدي، والضريبة التصاعدية لمواجهة الركود، واللا مُساواة في الدخل. ويرفض معظم علماء الاقتصاد الكلاسيكي هذه الأفكار ويُؤكِّدون أن تدخل الدولة لا يُنعش الكساد الاقتصادي، بل على العكس؛ إذ يرى الكلاسيكيون تدخل الحكومة في الاقتصاد سببًا في الكساد الكبير في الولايات المتحدة.

في عام 1963؛ نشر ميلتون فريدمان Milton Friedman وآنا شوارتز Anna Schwartz تاريخَ الولايات المتحدة النقدي الذي أعاد إحياء النظرية النقدية التي سادت قبل حدوث الكساد؛ والتي تقول بأن الاستقرار النقدي قادرٌ على إصلاح جميع أمراض الاقتصاد الكلي.

واعترف الاقتصاديون الآخرون -ومنهم إدموند فيلبس Edmund Phelps وروبرت لوكاس Robert Lucas- بأن الناس يتوقَّعون تغييرات في السياسة ويُعدِّلون سلوكَهم استجابة لذلك، وتوقَّعوا أن التحفيز الدائم (أي محاولة زيادة الطلب) في نهاية المطاف يُؤدِّي إلى تسارع التضخم؛ إذ أُثبت هذا التوقُّع عن طريق النمو الهائل في الأسعار في السبعينيات.

أعاد الكينزيون (أتباع النظرية الكينزية) تجميعَ أنفسهم في السنوات التي أعقبت ذلك، وأخذوا بعين النظر الأفكارَ التي انتُقِدوا بها، وبنوا نماذج الـكينزية الجديدة التي تستند إليها كثيرٌ من التنبؤات الحديثة.

وقدَّم طرحُ الأفكار الكينزية والكلاسيكية الجديدة نهجًا جديدًا لإدارة دورة الأعمال، وأُسندت هذه المَهمَّة إلى المصارف المركزية التي وعدت بإبقاء الغطاء على التضخم، فاعتُمد هذا النهج في جميع أنحاء العالم وبدا أنه صالحٌ للعمل؛ إذ أصبحَ الركود أقلَّ تواترًا وحِدَّة وصار التضخُّم منخفضًا ومُستقرًّا وأصبحت التوسُّعات أطول.

ولكن لم يكن كل ذلك على ما يرام؛ إذ لقيَ الإجماع الكينزي الجديد رفضَ العديد من الاقتصاديين لاتِّباع نظرية الـ"نيو كلاسيك" الكلاسيكية الجديدة؛ وعملوا فترة طويلة على نحوٍ منفصل، وحاول البعض من المؤمنين في نظرية الكينزية الجديدة أن يجعلوا نماذجهم تابعةً للفكرة الكلاسيكية القائلة بأن التقلُّبات طبيعيةٌ ولا تتطلَّب أيَّ تدخل؛ لكن أدَّى ذلك في بعض الأحيان إلى استنتاجاتٍ غير معقولة. فعلى سبيل المثال؛ عُدَّ انخفاضُ التضخم في أوائل الثمانينيات حدثًا غير مرتبطٍ في السياسة النقدية.

كان لدى الكينزيين الجُدد مشكلاتهم الخاصة، وفي محاولة لإرضاء النقاد؛ بنوا نماذجَ رياضيةً هدفت إلى إظهار فكرة أنَّ القرارات التي يتخذها الأفراد الذين يُفكِّرون بعقلانية وبنظرة مستقبلية يمكن أن تقود إلى الركود.

وغالبًا ما تُرافق اللاعقلانيةُ الناسَ ويختلف سلوكهم في مجموعاتٍ عن السلوك الذي تَفتَرِضه النماذج الاقتصادية، والتي تُظهِرُ المجتمعَ على أنه عبارة عن مجموعة أفرادٍ متطابقين. ولكن على الرغم من ذلك فإنَّ هذه النماذج مُعقَّدة بما يكفي لتُناسب أي حدثٍ تقريبًا، ولكنها لا ترقى لاستطاعة تفسير سبب حدوثها بالدرجة الأولى.

بقيت الفجوةُ -بين العديد من الاقتصاديين الكلاسيكيين الجُدد والكينيزين الجدد- غير ممكنة السَّدّ، وأوضح بول رومر Paul Romer في بعض أبحاثه الأخيرة أن هذه المجموعات المتنافسة (أي أتباع الكلاسيكية الجديدة والكينزية الجديدة) لم يكونوا قادرين على دعم حُججهم ومُساندتها بالحقائق المُثبتة أو حتى إمكانية المناقشة بأسلوبٍ فعَّال، ولكن على حدِّ تعبير البروفيسور لوكاس؛ فقد حُلَّت المشكلة الأساسية للوقاية من الكساد.

نفض العديد من المُفكِّرين الغبارَ عن مؤلفاتهم مثل هيمان مينسكي Hyman Minsky وتشارلز كيندلبيرغر Charle Kindleberger، وأعادوا نشرَ كتاباتهم عن الفائض المالي بعد الأزمة المالية. وفي خطاب عام 2005 إلى البنوك المركزية؛ حذَّرَ راغورام راجان Raghuram Rajan (وهو أكاديميٌ أدارَ البنك المركزي الهندي لاحقًا) من مخاطر بناء النظام المالي، لكنه حصل على استقبالٍ بارد!

طرحَ بحثٌ جديدٌ أسئلةً عديدةً عن مسألة الدَّور الملائم للسياسة المالية والمخاطر المرتبطة بالتدفُّقات المالية، وأسئلة عن العلاقة بين البطالة والتضخم؛ إذ نجد أنَّ نهجَ الاقتصاد الكلي الذي يُفضِّله الاقتصاديون في البنوك المركزية والهيئات التنظيمية ووزارات المالية قد أخطأ مرارًا وتكرارًا في تكهُّناته على مدى العقد الماضي، مُتوقِّعًا أن أسواق العمل ستلتئم جروحها بسرعة؛ أي ستجد الحلول لمشكلاتها.

ولكن ليس واضحًا أن الاقتصاديين قادرون على ترك خلافاتهم بعيدًا؛ لهذا يجب على الاقتصاد الكلي أن يتعامل مع مشكلاته المعرفية في حالِ كان يأملُ الحفاظَ على نفوذه والحدَّ من الأضرار الناجمة عن الأزمة المقبلة، لأن الاقتصاديين تعلموا شيئًا رئيسًا واحدًا وهو: هناك دائمًا أزمةٌ أخرى.

المصادر:

هنا

هنا