علم النفس > المنوعات وعلم النفس الحديث

الذكاء؛ علاقته بالدماغ والجينات والبيئة.

الذكاء؛ من أكثر المواضيع جدلًا في علم النفس، ما هو؟ وما الذي يحدد مستوى الذكاء حقًّا ؟

أهو جيني أم مكتسب وقابل للتعلم؟ وإن كان جينيًّا؛ فما هي الجينات التي تؤثر به؟

وما علاقة الدماغ بالذكاء و كونه جينيًّا أم لا؟

كانت تلك التساؤلات -ومازالت- موضع بحث كثيرٍ من العلماء على مرّ العصور، وعلى الرّغم من تواجد بعض الغموض فيما يخص الذكاء حتى الآن؛ لكن أُجيب عن الكثير من التساؤلات بعد التمكّن من دراسة الجينات -على نحوٍ تفصيلي إلى حدٍّ ما- وتصويرِ الدماغ البنيوي والوظيفي.

وفي الحقيقة؛ حتى الحيوانات تُظهِر عددًا من الأنواع المختلفة للذكاء؛ عادة ما تكون تلك الأنواع عواملَ حاسمة وواجبة للبقاء، وتتراوح تظاهراتها  من السّعي نحو جمع مصادر الغذاء والفرار من المفترسات إلى التشارك في المهمّات وتوزيعها على أفراد المجموعة ( مثل مجتمعات النمل )، وتمتلك الفيلة والقرود أنواعًا من التعاطف والاهتمام أيضًا - والتي هي نوع من أنواع الذكاء-؛ ممَّا يوطّد العلاقات فيما بينهم ويزيد فرصهم في البقاء.

وأما بالنسبة إلينا نحن البشر؛ سمح لنا ذكاؤنا -الذي كان تفاعليًّا في البداية- في إيجاد حلول لتحديات الطبيعة، ومن ثم أصبح استباقيًّا مكّننا من استخدام المصادر البيئية لتطوير وسائل وقائية لمشكلات مستقبلية، وتجلى ذلك عندما استطاع البشر السيطرة على مشكلة البقاء والتغلب عليها؛ ممَّا مكّننا لاحقًا من توظيف الذكاء في تطوير الفنون والمهارات الأخرى،  وما يجعل الذكاء البشري مختلف عن الحيوانات هو قدرة البشر على تغيير البيئة؛ عن طريق الزراعة على سبيل المثال.

والآن؛ لننتقل إلى تعريف الذكاء..

الذكاء، وعلى الرغم من خضوعه لمدى واسع من التعريفات-إذ تباينت التعريفات لاعتماد كلّ منها على منهج مختلف؛ بعضها يعتمد على علم النفس وبعضها على الفلسفة وبعضها اعتمد على دراسة الذكاء وظيفيَّا-؛ لكن تتضمن معظم تعريفاته القدرة على التفكير المنطقي وحل المشكلات والتعلم من التجارب والتكيف مع التغيرات البيئية، ويشمل وظائف إدراكية عديدة؛ مثل الفهم والملاحظة والذاكرة واللغة والتخطيط.

والآن؛ نأتي إلى السؤال الأكثر جدلًا؛ هل الذكاء جيني أم مكتسب؟ أي هل ورث معظم العباقرة والعلماء ذكاءهم عن آبائهم أم أنهم استطاعوا تطويره في أثناء التعلم والتجارب العلمية والحياتية؟

للإجابة عن هذا السؤال؛ أجرى العلماء العديد من الدراسات لمعرفة الجينات المسؤولة عن الذكاء؛ لم تحدد هذه الدراسات - قطعيًّا- الجينات المسؤولة عن الذكاء، وإنما وجدت أنّ عددًا ضخمًا من الجينات تشارك في تحديد مستوى الذكاء، و أن لكلٍّ منها مساهمة قليلة في تحديد مستوى ذكاء الفرد.

ولكن ثمّة نتيجة أخرى مهمّة على نحوٍ خاص؛  يزداد التأثير الجينيّ في الذكاء -الذي قِيسَ- من ٢٠٪ في مرحلة الطفولة إلى ٤٠٪ في المراهقة وإلى ٦٠٪ في مرحلة البلوغ، وتشير بعض الدلائل إلى أنّه من الممكن أن يزداد التأثير الجيني إلى ٨٠٪ في مرحلة البلوغ المتأخرة، ثم يعود لينخفض إلى ٦٠٪ بعد سن ٨٠ عامًا. 

وقد طرحت هذه النتائج سؤالًا جديدًا؛ لماذا تتغير هذه النسبة بين الطفولة والبلوغ؟

ولعلّ التفسير الممكن هُنا هو أنّ الأطفال يبحثون عن تجارب ترتبط بنزعاتهم الجينيّة، فسيكون من المنطقي افتراض أن التجارب التي نمر بها في حياتنا لها تأثير تراكمي في مستوى الذكاء؛ إذ تستطيع هذه التجارب تحويل الجينات إلى تعبير ظاهري (أي تزيد التجارب والتعلم من التعبير الجيني ).

وقد أظهرت دراسة أخرى أن التأثير الجيني ذو علاقة بالحالة الاجتماعية والاقتصادية؛ إذ توصل الباحثون في هذه الدراسة إلى أن التأثير الجيني في الذكاء يزداد على نحوٍ كبير عند الأسر ذات الحالة الاجتماعية والاقتصادية الأفضل؛ ما يعني أنّه في حالة الأسر ذات الحالة الاجتماعية والاقتصادية السيئة؛ لا تتاح للفرد فرص جيدة للتعلّم والبحث عن تجارب ترتبط بنزعته الجينية، وبذلك؛ فإنّ العديد من الجينات المسؤولة عن الذكاء لديه لا تتحول إلى تعبير ظاهري يتمثل بما يسمى الذكاء.

فالبيئة تؤثر أيضا في الذكاء، والعوامل التي لها علاقة ببيئة المنزل الذي يسكن فيه الطفل والرعاية الأبوية والتعليم والمصادر المتاحة للتعليم والتغذية الجيدة؛ يساهم جميع ما ذكر آنفًا في تغيّر مستوى الذكاء.

ولكن؛ كيف تؤثر هذه الجينات في الذكاء؟

بعد العديد من الدراسات التي أجريت لمعرفة الجينات المسؤولة عن الذكاء؛ وجد الباحثون أن الجينات الأكثر ارتباطًا بمستوى الذكاء هي تلك المعنيّة في السبل التي تؤدّي دورًا في تنظيم تطوّر الجهاز العصبي والموت الخلوي المبرمج ( وهو أسلوبٌ طبيعي لموت الخلايا اللازم في التطوّر الجنيني ).

هل هذا يعني أن الذكاء عند البشر يعتمد على الآليّات الجزيئية التي تدعم تطور الجهاز العصبي وحمايته في أثناء فترة الحياة ؟ نعم.

وهل توجد مناطق محدّدة في الجهاز العصبي مسؤولة عن الذكاء؟

يمكنُ أن يقدّمَ فهمُ مكيانيكية الدماغ التي تكمن وراء هذه القدرة العقلية فوائد فردية ومجتمعية عظمى .

ووسط العديد من الأبحاث التي تدرس تأثير الجهاز العصبي والدماغ تحديدًا في الذكاء؛ سنتحدث عن أهمه:

١-  دراسات التصوير العصبي البنيوية والوظيفية تدعم الاتصال بين الفصّين الجبهي والجداري للدماغ بوصفهما ذي صلة بالذكاء، ووِجد أيضًا أن هذه الاتصالات الجبهية الجدارية تكمن وراء القدرات الإدراكية التي تتعلق بالفهم واللغة وخاصةً الذاكرة، وبما أن القدرات الإدراكية ( خاصة الذاكرة العاملة ) والذكاء يشتركان بالشبكة الجبهية الجدارية في الدماغ ؛ فالتنبؤ بالاختلاف في الذكاء اعتمادًا على المعطيات والبيانات في الذاكرة من الممكن أن يكون صحيحًا.

٢-  اختبر Li et al فرضية أن مستويات الذكاء المرتفعة تقتضي فعالية عالية بانتقال المعلومات في الدماغ؛ تضمنت هذه الدراسة الاتصالات داخل نصف الكرة المخية الواحد بالإضافة إلى الاتصالات بين نصفي الكرة المخية، ونتيجةً لهذا البحث؛ وُجدَ أن كفاءة الدماغ في تكامل المعلومات بين مختلف أقسامه ذات علاقة باختلاف مستويات الذكاء، ووجِد التأثير الأعلى لهذه الخاصية  في الفصّين الجبهي والجداري للمخ.

٣-  وُجدت مناطق محددة في الدماغ تكون فيها كمية المادة البيضاء ( والتي تمثل كثافة محاوير العصبونات ودرجة تكوّن الميالين)  والمادة الرمادية ( والتي تمثل كثافة أجسام العصبونات وتغصناتها ) ذات صلة بمستوى الذكاء؛ إذ تدعم المادة الرمادية القدرة على معالجة المعلومات؛ في حين تدعم المادة البيضاء فعالية تدفق المعلومات في الدماغ.

و في دراسة أجراها   Chiang et al على ٢٣ توءم حقيقي و ٢٣ توءم مختلف؛ وُجد أن العوامل الجينية تتوسط العلاقة بين الذكاء والمادة البيضاء في الفصوص الجبهية والجدارية والفص القذالي اليساري للدماغ بنسبة ٥٥٪ إلى ٨٥٪ .

وأخيرًا؛ نتوصل إلى نتيجة مفادها  أن بيئة الشخص و جيناته تؤثر بعضها في بعض، ومن الصعب فصل التأثيرات البيئية عن الجينية فيما يتعلق بالذكاء، وبناء على ذلك؛ لا يمكن للجينات وحدها أو البيئة وحدها أن تحدد مقدار ذكاء الشخص أو التنبؤ بعبقرية الأفراد أو ضعف قدراتهم العقلية.  

المصادر:

[١] هنا

[٢] هنا

[٣] هنا

[٤] هنا

[٥] هنا