كتاب > مفكرون وكتّاب

شيخ الرواية السوريّة ..حنّا مينه

ذات يومٍ تحطّم صندوقٌ خشبيٌّ في مستودعِ الاستيراد والتّصدير الذي كُنت أعملِ به في صِباي وتناثر محتواه على الأرض. المحتوى لم يكُنْ إلّا كراريسَ وكتب، وكما ينظر الجّائع إلى رغيفِ الخبزِ الساخن والعاري إلى قطعةِ الثِّياب نظرت إلى تلك الكتب، حملتُها برفقٍ حتى كِدْتُ أقبّلها لفرطِ اشتهائي لها وأعدتها إلى الصندوق، فما كان من صاحبِ المخزن إلّا أنْ سألني إنْ كُنت أرغبُ بمجموعةٍ منها.. وكان لي هذا.

يومها كانت عشائي السّاخن قصصاً شعبيةً كسيرة الزير سالم وتغريبة بني هلال، وقد التهمها عقلي الجّائع الذي لم يسعفني فقرُ الحال بأن أُطعِمَهُ دراسيًا، فكانت أعلى شهادة حِزت عليها: "السرتفيكا" وبالكاد كان لديّ "صندل" أنتعلُهُ في الشتاء، فيما أُمضي شهورَ الصيف حافياً.

توالت الوجبات بعد ذلك اليوم، وظلَلْتُ مدينًا لمورد الكتب الأولِ في حياتي وذكرتُهُ عِندما سُئِلت يوماً: "دكتور، ما اسمُ الجامعةِ التي تخرّجت منها؟" لأجيبَهُ متهكّماً: "جامعةُ الفقر الأسود".

بتلك الكلمات التي تخترقُ الروح والجسد وصفَ الروائيّ القدير حنا مينه بداياتِهِ في سبرِ أغوار الأدب وارتشافِ أسرارِه في واحدٍ من عظيم أعمالهِ التي تركَها لنا قبل رحيلِهِ عنّ هذه الدنيا بتاريخ الحادي والعشرين من شهرِ آب عام 2018.

ولد حنّا مينه، والذي لُقِّبَ لاحقًا بشيخ الرواية السورية، عام 1924 لعائلةٍ فقيرةٍ تُقاسي الجوعَ وضنك العيشِ، فكان الشقيقَ المنتظَر لثلاثِ فتيات. في إحدى المرات، وصفَ حنا مينه والدتهُ بالأم الطيبة التي كُتب على جبينِها الشقاء، أما والدُهُ فكان بوهيميًا بالفطرة، فرضت عليه الظروفُ أن ينتقل بعائلتِهِ من مكانٍ لآخر بحثًا عن الرز، فعاش حنّا بدايةَ حياتِهِ ضعيفَ البنيةِ عليلَ الجسد، لكنّه رأى في تلك الظروف إزميلًا نحت شخصيّةَ الكاتب في داخلِهِ وكوّنها.

عَمل كـحمّالٍ في مرفأ، وأجيرٍ في دكّان حلّاق لا تتجاوزُ مهمّتُهُ تحريكَ المروحةِ أمام أوجُهِ الزبائن لإبعاد الذبابِ وتجفيف العرق، لكنَّ مواهبَهُ تفتّحت لاحقًا حين بدأَ بكتابة المكاتيب "الرسائل" للجيران كونَهُ الوحيدَ الذي يُتقنُ القراءة والكتابة.

كان ذلك في زمن رزحَت فيه سوريا تحتَ وطأةِ الصراعات والأطماع السياسية، فكان له شرفُ الانتماء إلى مجموعةٍ من المناضلين وهو لم يتجاوز الثّانيةَ عشر بعد، فكان التواصل معهم طريقًا لمعرفة حقيقةِ الّكلمة وكيفيةِ ولادتِها من رحم المعاناة.

لم يكن لشهادة السرتفيكا التي حملَها حنّا مينه أيُّ دورٍ في جعلِهِ كاتبًا، بل هي ظروفُ الشقاء والفقرِ الممزوجةُ مع النضالِ السياسي ومرارة التّرحال والمكلّلةُ بموهبةٍ أورثَها إياها والده في قصِّ الحكايا وجعلِ أصغر حادثةٍ يومية قصة مثيرة.. ذلك ما جعل منه كاتبًا عظيمًا.

كانت بداياتُهُ مع كتابةِ المقالاتِ في الصحف السّورية والّلبنانية، ثمَّ نجحَ في نشرِ أولِ قصّةٍ له وهو في عمرِ التاسعةَ عشر، وكان ذلك في مجلةِ "الطريق" اللبنانية عام 1945، وحملَت القصّةُ عنوان "طفلة للبيع". بدأ بعدَها بكتابةِ روايتِهِ الأولى "المصابيح الزرق" في ِالسّادسةِ والعشرين، والتي لم تُنشر إلّا بعدَ بلوغِهِ الثلاثين من العمر.

ولكم أن تتصوّروا كيفَ تمكّنَ هذا الشّابُ المغمور الذي لم يُسمع باسمه قط والقادم من وسطٍ اجتماعيّ مسحوق من إحداثِ ضجّةٍ في الأواسطِ الأدبيةِ في سوريا ولبنان، ممهِّدًا لأسلوبٍ جديد من الرّوايات التي تعتمدُ على الاتجاهِ الواقعي، فكانت شخصياتُهُ غايةً في الصّدق والواقعية، مشغولةً بإتقان يعبّرُ عن رحلةِ الطبقةِ المسحوقة في البحث عن لقمةِ الأكل والفقر والكرامة والنضال.. في البحث عن الحب.

وانتشر السؤال كالنّار في الهشيم: من يكون حنّا مينه؟

إنّه الحلّاقُ الشبه معدم، الذي يقطن حيًّا من أحياء اللاذقية، تمسك أصابعه المقص صباحاً والقلم ليلاً..

شدّ الروائي الشاب الرحالَ إلى دمشق حيث عملَ في جريدة "الإنشاء" دونَ أجر، ثمَّ حصلَ لاحقاً على مرتّبٍ بسيط قدره مئة ليرة سورية شهريًا، فاضطر إلى طلب سلفةٍ من صاحب الجريدة قدرُها عشرُ ليراتٍ، وما إن حصل على المبلغ حتى توجه إلى مطعمٍ قريب، ليعوّض عن جوعٍ متراكم.. أصبح بعد ذلك محرّرًا للصفحةِ الأدبية في جريدة "الرأي العام".

أربعُ سنواتٍ فصَلت بين روايتهِ الأولى"المصابيح الزرق" والثانية "السفينة والشراع"، وهي مدة ليست بالطّويلة لذلك السَاعي بلا كَلل أو مَلل لإعَالةِ أسرته الصّغيرة، للناشطِ في عدّة صحف، وللمُهاجرِ في نهاية المطاف، فقد كان حنّا مينه خارج سوريا حين صدرت روايته الثانية، وطَال غيابه بين الصين وفرنسا وسويسرا، لكنّه لم يكن كاتبًا سائحًا يرفّه عن مزاجِه الرّوائي، بل مُتشرّدًا وحيدًا ومقهورًا، حتى انتهى به المطاف ليستقرّ في المجر حيث عمل في إذاعة بودابست العربيّة مُقدّماً لبرامج أدبية.

إنّها الغربةُ التي وصفها حنّا بالقاسية، والتي زادت مرارتُها عندما لم يتمكّن من كتابةِ حرفٍ واحد، وكأنّما خُلق ليكتب داخل وطنه. ولكنّه كان كغيرِه من الأدباء الذين ظلمتهم بلدانُهم، فبعد أن احتَفَت الصّحف بعودةِ الكاتب إلى سوريّا عام 1967 بمانشيتاتٍ عريضة لم تُترجم هذه البهرجة الكلاميّة إلى فعل.

وصف حنّا مينه مِحنَتهُ يومها: "لا عمل، لا عمل، لا عمل، أين أذهب، من أسأل، أي باب أطرق؟".

وكان الحلُّ بعودةِ الكاتب الكبير إلى عمله الأوّل فاستأجر كراجًا في إحدى البنايات وافتتح محلًا للحِلاقة!

وعن سبب عدم كتابتِه لمذكّرات تلك الفترة من حياته قال حنّا مينا بأنَّ رواياته ما لم تكو إلّا شذرات من المعاناةِ اليومية على مدى سنوات ولا حاجة له لكتابة مذكّراتٍ عنها.

قد تتوقعون من كتاباتنا هذه أن حنّا مينا كان شخصًا محبطًا مكسورًا حزينًا، لكنَّ مرارة التجربة الحياتية جعلت منه "كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين" كما كان يُحب أن يَصَف نفسه، وسيندهش أي شخصٍ يقرأ مقابلات حنّا مينا الصحفية من ذلك الطفل العجوز بعينين وقّادتين وذَاكرة تلتقط التَّفاصيل المرّة لتصنع منها رواية طريفة، فحَادثةٌ كضياع إحدى مخطوطات رواية جديدة له في البريد البحري بين شنغهاي وبيروت قد تكون مأساويةً ومحبطةً لأي كاتبٍ آخر، لكنه كان يروي مبتسِمًا كيف جفّفَ المخطوطةِ بالمكواة لِتُطبع وتُنشَر بعد رحلة طويلة مبلّلة.

لم تكن الشهرة التي جعلت من حنّا مينا "شيخ الرواية السوريّة" لم سببًا لنسيان حياته المرّة، بل كانت المخزن الحقيقيّ لرواياته التي بَلغ عددها الأربعين، كَتب فيها عن العوالم السّفلية للمرافئ، ومدن السّاحل المفتوحة على أهوال البحر، وانتقم لطفولته البائسة ولأخواته الخَادمات، انتقم للقهر والتّشرد. لكنّه لم يكن المُنتقم الحاقد، بل كان المُنتقم المتألّم.

يمكننا النظر إلى ثلاثيته المشهورة؛ "بقايا صور"، و"المستنقع"، و"القطاف" بمثابة سيرة ذاتية وسردٍ لملامح طفولته التي كانت أشبه بمتحف بشري للشقاء. وفي رواية "الثّلج يأتي من النافذة" روى صورًا من النِّضال السّياسي وتكلّم عن نكسة حزيران وأثرها في "الربيع والخريف".

في بداية السّبعينات، ظهرت رواية "الشمس في يوم غائم"، والتي فتحت أبواب الشّهرة لِحنّا مينا، ومن ثم توالت الروايات، فجاءت "الياطر" التي كانت واحدةً من أجمل رواياته، لقد كانت رواية البحر بامتياز حتى يكاد القارئ يشم رائحة الملح بين الصّفحات، وربّما يجد قليلًا من الرمل على أصابعه حين يفرغ من قرائتها.

وعن الرواية الأحب إلى نفسه، يختار حنا مينه رواية "حمامة زرقاء في السحب" والتي قال عنها:

"إنها قصة ابنتي التي أُصيبت بالسّرطان، وأخفيت الأمر عن أهلي مدةَ عامين، عندما أخذتها للعلاج في الخارج".

ومن المعروف عن حنا مينه حرصُهُ عند كتابة الرواية على عُنصرين أساسيين هُما: الإيقاع والتّشويق من جِهة، وتوفير المتعة والمعرفة من جهةٍ ثانية. هذا هو السّر ببساطة فالرواية ليست مجرّد تسلية ووجبة من المواعظ الأخلاقية. لكنْ، وعلى الرّغم من الأوسمة والجوائز التي حصدها، وحمله للقب صاحب الروايات الأكثر مبيعًا، إلا أنه سكن منزلًا بسيطًا على كتف قاسيون.

قام الكاتب السوريّ حسن.م يوسف بصياغة الرواية الشّهيرة "نهاية رجل شجاع" في التسعينات لتصبح مسلسلًا تلفزيونيًا حاز على إعجاب الجماهير وحبّها. كذلك نُقلت روايته "المصابيح الزرق" إلى التلفزيون، مع المخرج فهد ميري، الشراع والعاصفة" إلى السينما بتوقيع المخرج غسان شميط.

حنّا مينه شيخ الروائيين السوريّين.. عظيمٌ آخر من بلادي، غادرتنا روحُهُ اليوم لتخلّد أعماله اسمًا قلّ نظيره اليوم.

المصادر:

*كتاب "كيف حملت القلم" حنّا مينه

*لقاء صحفي بتاريخ25/5/2006 جريدة الشرق الأوسط سعاد جرّوس

*لقاء صحفي بتاريخ22/3/2012 جريدة الأخبار اللبنانية خليل صويلح

/p>