العمارة والتشييد > التشييد

فيضاناتُ دمشق؛ سيولٌ تجرف البشر والحجر

لا شك أنَّك تساءلت كمواطنٍ سوري عن مدى كفاءةِ شبكاتِ الصرف الصحي في تصريفِ مياه الأمطار الناتجة عن حدوث أكثر من عاصفةٍ مطريةٍ غير مسبوقة أدَّت إلى تشكُّلِ سيولٍ جارفة، مخلِّفةً أضرارًا مادية وخسائر بشرية. لذلك لا بدَّ لنا من معرفةِ المفاهيم الأساسية في تصميمِ شبكات الصرف الصحي لنحدِّد ماهية المشكلة ونكون قادرين على إيجاد حلولٍ مستقبليةٍ مستدامةٍ وفعَّالة.

سنبدأ بشرح المفاهيم الأساسية  ثمَّ الانتقال للوصول إلى المشكلة واقتراح حلولها.

تصميم شبكات الصرف الصحي:

مياه الصرف الصحي هي المياه التي استُعمِلت لأغراض مختلفة وتغيَّرت مواصفاتها الفيزيائية والكيميائية والجرثومية وأصبحت ملوثة، ممَّا يتطلَّب جمعها وتصريفها ومعالجتها لتخفيفِ الأضرار التي يمكن أن تنتج عنها. وتُقسم مياه الصرف الصحي وفقًا لمنشئها إلى عدَّة أقسام [1]،[2]:

1- مياهُ الصَّرف المنزلية التي تنتج من المرافق الصحية الموجودة في المباني السكنية والمباني العامة (مشافي – فنادق – معاهد..) وتضمُّ المخلَّفات البشرية.

2- مياهُ الصرف الصناعية: وتنتج عن استعمالِ المياه في الصِّناعات المختلفة.

3- مياهُ الأمطار: وهي الأمطارُ الهاطلة على أسطحة المباني وعلى الشوارعِ والساحات، بتدفُّقٍ غير منتظم وتحمل معها ما تجرفه من سطوحِ المباني والطرقات.

ولتصريف المياه السابقة نحن بحاجةٍ لوجودِ شبكةِ الصرف الصحي وهي مجموعةٌ من الأنابيب والمنشآت الملحقة بها التي تجمِّع مياه الصرف الصحي وتنقلها بانتظام إلى خارجِ حدود المنطقةِ السكنية لتُعالجَ هناك. وتُقسَم هذه الشبكات إلى:

● شبكات الصرف الصحي الداخلية؛ وتُعرف بالتمديدات الداخلية لمياه الصرف الصحي.

● شبكات الصرف الصحي الخارجية.

تتجمَّع المياه الخارجة من المباني ضمنَ مجموعةٍ من الأنابيب التي تنقلها إلى الشبكة الخارجية التي تمثِّل صلةَ الوصل بين الشبكةِ الداخلية والخارجية، وتُقسَمُ أنابيب الشبكة حسب أهميَّتها والمساحة التي تخدِّمها إلى خطوطٍ فرعيَّةٍ وثانويَّةٍ ورئيسية، والمجمِّعات التي توصِلُ المياه إلى المصب النهائي، وتُختارُ مساراتُ هذه الخطوط لتجري المياه بالانحدار الطبيعي وفقًا للوضع الطبوغرافي للمنطقة وموقع المصب النهائي.

ويمكن تقسيم أنظمةِ الصرف في الشبكات الخارجية [3] حسب نوعِ المياه المصرَّفة إلى:

1- النظام المشترك: يصرِّف المياه المنزلية والصناعية والمطرية ضمنَ شبكةٍ واحدة، وتُصمَّمُ الشبكة وفقًا لغزارة مياه الأمطار.

2- النظام المنفصل: تُصرَّف المياه المنزلية في شبكةٍ خاصةٍ بها تسمَّى الشبكة المنزلية، وتصرَّف مياه الأمطار في شبكةٍ أخرى تسمَّى الشبكة المطرية.

3- النظام نصف المنفصل: تُنشأ شبكتان منفصلتان إحداهما للمياه المنزلية والأخرى للمياه المطرية، ثمَّ تلتقيان في مجمِّعٍ واحد ينقلُ المياه المشتركة إلى محطَّة المعالجة.

صورة (1) - نظام الصرف المشترك

صورة (2) -  نظام الصرف المنفصل

صورة (3)- نظام الصرف نصف المنفصل

ولدراسةِ شبكةِ الصَّرف الصحي الخارجية يجب أن نأخذ بالحسبان مجموعةً من النقاط:

1- تحديدُ عدد السكَّان المستفيدين من المشروع الحالي والمستقبلي؛ أي بعد العمرِ التصميمي للشبكة (30 – 40 سنة ).

2- حسابُ التصريف لهذهِ التجمُّعات السكَّانية في نهايةِ الفترةِ التصميمية بالاعتماد على معدَّل الصرف اليومي للفرد الواحد، مع الانتباه إلى أنَّ التصريف الوارد إلى الشبكة ليس ثابتًا وقد يختلفُ تبعًا للفصولِ والأشهرِ والأسابيع وفي ساعات النهار، أمَّا تصريفُ مياهِ الأمطار فيتعلَّقُ بالعاصفةِ المطريَّة التي تُدرَس الشبكةُ وفقًا لها، وتتميَّز العاصفةُ المطريةُ بغزارتها وطولِ فترةِ هطولِها وتواترها. فمن أجلِ تصميمِ المنشآت الهندسية المائية يجبُ تحديد الشدَّة المطريَّة التي تتكرَّرُ كلَّ فترةٍ محدَّدة (T) تسمَّى فترة التَّكرار التي تُحسَبُ لأجلها الشدَّةُ المطرية حسب أهميَّة المنشأة المدروسة. [4]

تحليلُ أسباب الفيضانات التي حدثت في دمشق من منظورِ خبراء الهندسة البيئية:

تشكِّل الأمطارُ الغزيرةُ التي تهطلُ في وقتٍ قصيرٍ الحمولةَ التصميميَّة للمنشآت (شبكة صرف مياه المدن – خزَّانات تجميع المياه ودرء الفيضانات..) وذلك بسبب الأضرارِ الكارثيَّة التي يمكنُ أن تسبِّبها مثل هذه الأمطار في حال لم تؤخذ شدَّتُها بالحسبان عند التصميم [5]، ويمكن الحصول على الأمطارِ التصميمية عن طريق تحليل الأمطار الغزيرة والأخذ بالحسبان لمجموعةِ عوامل اقتصادية. ولأجلِ تصميمِ شبكات الصرف من الضروري الحصول على قيم الأمطار التصميمية لفتراتِ هطولٍ تعادل عدَّة دقائق، وبمعرفةِ ذلك ستتبادرُ إلى ذهننا مجموعةٌ من الأسئلةِ الهامّة عن سبب حدوثِ الفيضانات في سورية في الفترة السابقة وربَّما في المستقبل أيضًا.

للإجابةِ عن هذه الأسئلة قابلنا خبيرين في مجالِ هندسةِ البيئة وهما الدكتور محمد بشار المفتي -الأستاذ المساعد في قسم الهندسة البيئية في جامعة دمشق- والدكتور غسان درة حداد -الأستاذ المساعد في قسم الهندسة البيئية في جامعة دمشق-.

صورة (4)- تجمّع مياه الأمطار الناتجة عن عاصفةٍ مطريةٍ شديدة في أحد أنفاق مدينة دمشق

● عندَ سؤال الدكتور محمد بشار المفتي عن أهمِّ المعايير لاختيار العواصف التصميمية أجاب:

" تُختار العواصف التصميمية وفقاً لعدَّةِ عوامل:

1- درجةُ أهميَّةِ المدينة التي تتعلَّق بتضاريسِ المنطقة جبليَّة أم سهلية، وما درجةُ الأضرار الناجمة عن الفيضان.

2- شدَّةُ العاصفةِ المطريَّة التي تتعلَّقُ بفترةِ تكرارها، فكلَّما زادَ تكرارُ العاصفة كانت الشدة أقل؛ مثلاً العاصفةُ التي تحدث مرَّةً في السنة شدَّتها أقل من العاصفة التي تحدث مرَّةً كل 3 سنوات.

3- زمنُ هطول العاصفة المطرية، فعندما يكونُ قصيرًا تكون شدَّتها عاليةً، وكلَّما كان الزمنُ أطول أصبحت الشدَّةُ أقل.

وتمتازُ العاصفةُ التي حدثت مع بدايةِ هذا الشتاء بشدَّةٍ عالية، وتُعَدُّ من العواصف غير المسجَّلة في جداول وإحصائيات مدينة دمشق، ولا سيّما أنَّ مدينةَ دمشق تُصنَّفُ من المناطق شبه الجافَّة."

وعند سؤاله عن مسبِّبات الفيضانات التي حدثت في الفترة السَّابقة أجاب:

" إنَّ التغيُّر المناخي أدَّى إلى تغيُّرِ توزُّعِ الأمطار وتغيُّرِ شدَّةِ العواصف المطرية، إذ نتجَ عن العاصفةِ المطريَّةِ الأولى في شهرِ تشرين الأوَّل من عام 2018 خمس المعدَّل السنوي للأمطار دفعةً واحدة، وعند تصميمِ شبكةِ الصَّرف الصحي عادةً تُجرى موازنةٌ بين الأضرارِ النَّاجمة وميزانيَّة الشبكة، فعندما تكون الأضرارُ الناجمةُ عن الشبكةِ قليلةً نصغِّرُ الشبكة، وإن كانت الأضرار كبيرةً نكبِّرُ الشبكة، لتوضعَ أسسُ تصميم شبكاتِ الصرف اعتمادًا على ذلك، ولكنَّ الشدَّةَ غير المسبوقة للعواصف المطرية التي تكرَّرت أكثرَ من مرَّةٍ في عام 2018، إضافةً إلى عدم ورود مثل هذه الشدَّات في جداول البيانات أدَّى إلى حدوثِ سيولٍ شديدة بسبب عدمِ كفايةِ الشبكات الموجودة، ولكن لا نستطيع أن نلقي اللَّوم على تصميمِ شبكاتِ الصرف الصحي في الوقت نفسه، فهي لم تُصمَّم أساسًا لتستوعبَ مثل هذهِ الشدَّاتِ المطريَّة التي تتعلَّق بالتغيُّر المناخي، وقد حدثت العديد من الكوارث المشابهة في دولٍ متقدِّمة كأمريكا والصّين."

أمَّا فيما يتعلَّق  بناحيةِ التَّخطيط والتَّصميم  فقد كان جوابه:

" لدينا خطأٌ أساسي وهو أنَّ شبكات الصرف مشتركةٌ غالبًا، إذ عُدَّت هذه الشبكات الحل الأفضل في فترةٍ سابقة، لكن تبيَّن فيما بعد أنَّ هذا الحل غير مجدٍ عمليًّا، إذ يمرُّ في دمشق 7 أفرع لنهرِ بردى تجري في مجموعة أحياءٍ رئيسية مقسِّمةً دمشق إلى سبع مناطق حسب الارتفاع ولو أنشئت شبكة صرف منفصل تحت أرضية أو سطحية تتجمَّع فيها المياه لتصبَّ في نهر بردى لم تتجمَّع المياه وتتشكَّل السيول، وحتى إن جُمِّعت ستكون مياهَ أمطارٍ فقط وهي مياهٌ غير ملوَّثة. "

● كما تحدَّث الدكتور غسان درة حداد في لقائه معنا عن واقع شبكة الصرف الصحي في دمشق وأسبّاب تعطّلها أثناء العواصف المطرية الشديدة وقال:

"لا يمكن أن تقفَ شدَّة العاصفة المطرية فقط خلفَ الفيضانات التي شهدتها مدينة دمشق، بل هناك مجموعةٌ من الأسباب الأخرى التي يجب الحديث عنها:

1. إهمال تنظيف البلاليع في وقتها المحدد –يجبُ تنظيفها مرَّةً في السنة قبل قدوم أيلول– فالرّمل المحمول مع مياه الصرف -الذي ينتج عن الأعمال الطرقية ذات الحجم الكبير غالبًا-  يترسَّب في أنابيب الشبكة مسبِّبًا إغلاقها.

2. الموقع الخاطئ للبلاليع التي يقعُ بعضُها في القسم المرتفع من الطّريق، ولتدخل المياه إلى البالوعة يجبُ أن يمتلئ الطرف المقابل أولًا ثمَّ تُصرَّف المياه إليها.

صورة (5) - المصرف على جانبي الطريق

3. عدم تزويد الأنفاق بشوّايةٍ مطريةٍ موصولةٍ مباشرةً مع أنابيب الشبكة، التي تُصرَّف إليها مياه الصرف المنزلية إضافةً إلى مياه المطر، ممَّا يؤدِّي إلى انضغاطِها وخروجها من الشبكة، وبالتالي لا بُدَّ من وجودِ الشوَّاية على كامل عرضِ الطريق داخل النفق، لتدخل المياه فيها ثمَّ تُضَخُّ عن طريق مضخَّاتٍ بعيدًا عن الأنابيب الخاصَّة بشبكةِ الصرف الصحي، وبالتالي تجنُّب خروج الشبكة عن العمل."

الصورة (6)- شواية مطرية

خاتمة:

إنَّ العواصف المطرية التي شهدها بلدنا هذا العام تقرعُ جرسَ الإنذار لتدفعَ القائمين على الواقعِ الخدمي إلى إيلاء المزيد من الاهتمام لإعادةِ تأهيلِ شبكاتِ الصرف الصحي الموجودة واستبدالِ الأنابيب غير الصالحة فيها، وإعداد برنامج صيانة دورية لاستيعاب هذه الشدّات المطرية. وربَّما آن الأوان للتفكير في طرحِ قواعد البيانات الخاصَّة بالهطولات المطرية أمام طلَّاب العلم الذين من شأنهم تقديمُ الحلول الأنجع لمثل هذه الأمور، عن طريق الدراسات التي تتناول تحليلَ العواصف المطريَّة ومدى كفاءة شبكاتِ الصرف في سورية والكثير ممَّا يمكن الخوض به في هذا المجال، فبلدنا مسؤوليتنا ويقع على عاتقنا تطويرُ بنيتها التحتية وإيجادُ الحلول المناسبة لمشاكلها.

المصادر: 

1- Harshil. H. Gajjar، Dr. M.B. Dholakia، Storm water Network Design of Jodhpur Tekra area of city of Ahmedabad،2014IJEDR،volume 2،ISSN:2321-9939.

2- الهندسة البيئية – منشورات جامعة دمشق – د. شبلي الشامي، د. هند وهبة

3- هنا

4- الهيدرولوجيا – منشورات جامعة دمشق – د. محمد الشبلاق، د.محمد هشام التجار

5- Kim، B.S.; Kim، B.K.; Kwon، H.H. Evaluation of the uncertainties in rainfall-runoff model using Meta-Gaussian approach. J. Korean Wetlands Soc. 2009، 11، 49–64.