التعليم واللغات > اللغويات

هل الكذب بلغة أجنبية أسهل؟

في عصر العولمة الذي نعيش فيه اليوم، صار لِزامًا وجود المزيد والمزيد من التواصل بلغة غير اللغة الأم، وعلى الرغم من أن الأغلبية يعتقدون بأن اللغة الأجنبية تجعل الكذب أصعب، تبدو الأمور مختلفة على أرض الواقع، ومن الواضح أن إثبات قولك للحقيقة يبدو أصعب وأنت تتكلم لغة أجنبية. هذا الاستنتاج هو ما توصلت إليه دراسة أجراها اثنان من علماء النفس من جامعة فورتسبورغ الألمانية، وقد قدّم العالمان رؤيتهما مؤخرًا في مجلة علم النفس التجريبي.

 

وقد تفيد نتائج هذه الدراسة في كثير من الإجراءات التي يُقيَّم فيها مدى موثوقية بعض الأشخاص وصدقهم، كما في إجراءات اللجوء، ففي مثل هذه الحالات تكون أقوال غير الناطقين بلغة أجنبية أكثر عرضة للتكذيب على الرغم من احتمالية كونها صادقة. ويفسر هذا الاكتشافُ ظاهرة أخرى، وهي عدُّ الذين يتكلمون لغة أجنبية أقلَّ موثوقية من غيرهم عمومًا على الرغم من عدم وجود أية مسوغات أحيانًا لهذه الظنون.

لكن، وعلى النقيض من ذلك، يوجد ظروف وحالات يُجبر فيها الشخص على الكذب، كما في المفاوضات التجارية حين يرغب أحد التجار في إقناع الطرف الآخر بمزايا منتجه، أو في تحقيقات الشرطة عندما يحاول المشتبه به في القتل إقناع الشرطة بدليل غيابه حين وقعت الجريمة.

وتركز أبحاث الطب الشرعي في الغالب على الفوارق في مستويات الثقة التي يحظى بها الأشخاص حين يتحدثون بلغتهم الأم أو بلغة أجنبية، وقد كشفت هذه الأبحاث أن الناس يميلون أكثر إلى تصديق أقوال الناطقين باللغة الأم أكثر من أقوال الأجانب، لكن أبحاثًا قليلة قد أُجريت لمعرفة ما إذا كان الناس يميلون بالفعل إلى الكذب بلغتهم غير الأصلية.

نظريتان متناقضتان

هناك رؤيتان بحثيتان للتنبؤ بالاختلافات بين الصدق والكذب والفرق بين الأقوال إذا ما قيلت باللغة الأم أم باللغة الأجنبية:

يشير البحث من منظار نظرية الحِمل المعرفي بأن الكذب يكون أصعب عند التحدث بلغة أجنبية؛ إذ إن الكذبَ - بالمقارنة مع قول الحقيقة - مهمة أكثر تطلبًا من الناحية العملية، ويَفرض استخدامُ لغة أجنبية تحديًا إدراكيًا إضافيًا يجعل الكذب أكثر صعوبة.

 

ووفقا للفرضية الثانية، فرضية المسافة العاطفية، فإن الكذب باللغة الأجنبية أسهل، وتستند هذه الفرضية إلى أن قول الكذب يرتبط بمشاعرَ أكثر من قول الصدق، وأن لدى الكاذبين مستوياتٍ أعلى من الضغط والتوتر. وتُظهر الأبحاث في مجالات علم اللغة وعلم النفس والفسيولوجيا النفسية أنه بالمقارنة باستخدام اللغة الأم يكون التواصل بلغة أجنبية أقل إثارة عاطفيًا، وبناءً على فرضية المسافة العاطفية التي تقول بأن الكذب بلغة أجنبية أقلُّ إثارةً عاطفيًا، فإن هذه الاستثارة العاطفية المخفضة ستسهل الكذب.

لحسم هذه المسألة أجرى علماء النفس في جامعة فورتسبورغ  عددًا من التجارب على 50 شخصًا خضعوا للاختبار، وطُلب منهم الإجابةُ عن عدد من الأسئلة بصدق أحيانًا وبكذب في أحيان أخرى باستخدام لغتهم الأم ولغة أجنبية. كانت بعض الأسئلة محايدة، مثل »هل تقع برلين في ألمانيا؟«، وأخرى ذات تأثير عاطفي شخصي مثل »هل سبق لك أن تعاطيت المخدرات؟«، وفي خلال إجابة المشاركين عن الأسئلة، قاس العلماء أوقات ردودهم، ومعدل ضربات القلب لديهم، والاستجابة الجلدية الجلفانية (وهي التغيير في قدرة البشرة على توصيل الكهرباء، بسبب حوافز انفعالية مثل الرعب). وكانت النتائج كالآتي: تستغرق عادة الإجابةُ عن الأسئلة العاطفية وقتًا أطول من الإجابة عن الأسئلة المحايدة، وتستغرق إجابات الناطقين بلغة أجنبية وقتًا أطول من المتحدثين بلغتهم الأم، ويستغرق قول الكذب عمومًا وقتًا أطول من قول الحقيقة.

 

ومع ذلك فإن الاختلافات الزمنية بين الإجابات الكاذبة والصادقة تبدو أقل وضوحًا عند التحدث بلغة أجنبية، ولا يَنتج هذا الاختلاف الطفيف عن إعطاء استجابة كاذبة أسرع، بل هو ناتج عن أن قول الحقيقة بلغة أجنبية يستغرق وقتًا أطول من قولها باللغة الأم، وسواء أكان السؤال محايدًا أم عاطفيًا كان الفارق الزمني بين قول الحقيقة والكذب أقل باللغة الأجنبية.

وبناءً على فرضية الحِمل المعرفي كان من المتوقع أن قول الحقيقة والكذب بلغة أجنبية يتطلبان جهدًا أكبر، لا سيما الكذب، ولكن ما تشير إليه البيانات هو أن الجهد المعرفي المتزايد هو المسؤول عن إطالة استجابة قول الحقيقة باللغة الأجنبية، ويمكن تفسير عدم وجود هذه الإطالة أو عدم وضوحها في الكذب عن طريق فرضية المسافة العاطفية: كونُ المسافة العاطفية أكبر في اللغة الأجنبية يُلغي الحمل المعرفي الأعلى عند الكذب.

المصدر: 

هنا