الطب > مقالات طبية

تَعرَّف إلى دماغك الثاني!!

الاعتماد على حدسك له سمعة سيئة عمومًا؛ فقد أصبح كثير من الناس يعتقدون أن البشر في حالة تطور من التفكير البدائي السحري إلى التفكير النقدي والعلمي، وبالنتيجة فهم يرون أن المشاعر والحدس هي أدوات خاطئة ومتقلبة.

على كل حال فالمشاعر ليست دائمًا ردات فعل غبية علينا أن نتجنب التصرف وفقها؛ بل هي تقييم لما كنت قد مررت به واختبرته؛ فعندما ننظر إليها من هذا الجانب نرى أنها شكل من أشكال معالجة المعلومات أيضًا؛ فالحدس أو الـ gut feeling هي نِتاج عمليات كثيرة تحدث في الدماغ.

ويقترح الباحثون أنَّ الدماغ هو آلة تَوقع كبيرة تقارن باستمرار المعلومات القادمة الآنية لما يحدث لك الآن بخبراتك السابقة وذكرياتك المُخزَّنة لما مررت به سابقًا.

وهذا كله موصوف بما يُطلِق عليه العلماء إطار المعالجة التنبؤية (predictive processing framework) وهذا يؤكد أن الدماغ جاهز دائمًا للتعامل مع المواقف الآنية على النحو الأمثل قدر الإمكان.

وهذا الترابط بين الخبرات وما تمرُّ به آنيًّا يحدث بعفوية وغير واعٍ أي يحدث دون أن يصل لإدراكنا الواعي فمثلًا؛ ربما كنت تقود سيارة على الطريق العام في الظلام وفجأة أتاك ذلك الإحساس أنه يجب عليك أن تقود على الجانب الآخر من الطريق وعندما تستمر في القيادة تلاحظ أنك تجنبت للتو حفرة كبيرة كان من الممكن أن تشوه سيارتك وتشعر بالرضى لأنك استمعت لحدسك على الرغم من أنَّك لا تعرف من أين أتى، والذي حدث فعلًا أن السيارة البعيدة التي أمامك عملت الفعل نفسه ودماغك التقط هذا الفعل دون إدراك واعٍ منك.

ومن هذا نستنتج أن حدسك مبني على تفكير دماغك السليم والعقلاني في أغلب الأحيان.

حسنًا، ولكن لماذا يقال عن أمعائنا أنَّها دماغنا الثاني؟

 ذلك الشعور بالغرق في أعلى معدتك بعد نظرك إلى فاتورتك الهائلة هو مثال حي للترابط بين دماغك وسبيلك الهضمي، أنت متوتر ومعدتك تعرف ذلك على الفور.

هذه العلاقة بين الدماغ والسبيل الهضمي ليست غريبة علينا فجميعنا نعلم كيف يؤثر الدماغ على الأمعاء؛ فقد لاحظ العلماء هذه العلاقة منذ أكثر من 100 سنة مع دراسات تُظهِر أن حالة مشاعر الإنسان يمكن أن تؤثر في وظيفة السبيل الهضمي؛ فقد كانوا قادرين على مراقبة مفرزات الأمعاء وملاحظة العلاقة بين تغيرات المزاج وتغيرات المفرزات، هذا التأثير يحدث في حالات القلق والتوتر ويؤثر في عمل الأمعاء.

لكن ما هو جديد ومشوق هو النظر إلى الأمعاء أو بالأخص البكتيريا الموجودة في أمعائك على أنَّها تستطيع التأثير في وظيفة دماغك؛ فهل أنت مُقاد عن طريق أمعائك؟

مجموعة من علماء علم الأعصاب استنتجوا أنَّك كذلك، وإن لم يكن إراديًّا؛ فإنك مُقاد دون وعي.

فالأمعاء تحوي كمية هائلة من الخلايا العصبية تستقبل من الدماغ وترسل إليه، وإضافة إلى ذلك فهي تفرز أكثر من 90% من هرمون السيروتونين المسؤول عن تنظيم مزاجنا ومشاعرنا.

فقد وجد العلماء أن الإشارات العصبية بين أمعائك ودماغك ذاتَ تأثير قوي على المشاعر واتخاذ القرارات وخاصة بِحثِّك على تجنب مواقف معينة.

فالسبيل الهضمي له سطح هائل من المستقبلات أكبر بـ 100 مرة من سطح الجلد وهو يرسل إشارات إلى الدماغ أكثر من أي عضو آخر في الجسم.

هذه الإشارات ترسل عبر عصب كبير يُسمَّى العصب المبهم وهو أطول الأعصاب الدماغية ويعمل باتجاهين فهو يرسل الإشارات من الدماغ إلى الأمعاء ومن الأمعاء إلى الدماغ وهذه الثانية تُعرَف بالحدس أو المشاعر الداخلية.

وهذه الإشارات لها تأثير كبير في مشاعرنا وسلوكنا خاصة عند الاستجابة لحالات القلق والتهديد فهذا العصب هو جزء من نظام حماية مفصل يساعد في اتخاذ القرارات خاصة بحثِّنا على التروي وتقييم الوضع أو تجنبه كليًّا.

والذي له الدور الأكبر في هذه العملية هو البكتيريا الموجودة في أمعائك (gut microbiome)؛ فقد أظهر الباحثون أن وجود هذه البكتيريا في بدايات التطور تؤثر في الاستجابة العصبية للدماغ المتعلقة بالقلق والاكتئاب.

والعلاقة بين البكتيريا المتعايشة ومضيفها هي في أكثر الحالات المفيدة بالأخص أنَّ وجود هذه البكتيريا حاسم وضروري للجهاز المناعي ومعالجة الأغذية ونواحٍ أخرى للفيزيولوجيا الصحية؛ فهي مهمة لتطور الدماغ الصحي وبالأخص أن هذه البكتيريا يمكن أن تؤثر في تطور مناطق في الدماغ متدخِلة في استجابتنا للتوتر ومتحكمة بالقلق والاكتئاب.

ففي محاولة فهم هذه العلاقة تلاعب العلماء بهذه البكتيريا في فئران التجربة عن طريق تربية فئران خالية من هذه البكتيريا في بيئة عقيمة معزولة ثم قارنوا سلوك هذه الفئران مع فئران أخرى طبيعية تحوي هذه البكتيريا عند وضعهم ضمن بيئة تحوي مناطق محمية وأخرى خطرة فوجدوا أن الفئران الخالية من البكتيريا أظهرت مستوى قلق أقل وبقيت فترة أطول في منطقة الخطر من الفئران الطبيعية وقد وجدوا أنَّ الجهاز المناعي غير متطور لدى الفئران الخالية من البكتيريا أيضًا.

وَجدت الأدلة أن شكل هذه الجراثيم الموجودة في أمعائك يعتمد على نوع حميتك؛ فالحمية الفقيرة يمكن أن تسبب تعطيًلا لإشارات الحذر والدفاع مسببة تبدلًا في المزاج والسلوك؛ فهذا يدل على أنَّ تعديل حميتك يمكن أن يؤثر في سلوكك وحالتك المعرفية.

المصادر:

هنا 

هنا 

هنا 

هنا 

هنا