الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة

يوم الفلسفة العالمي.. بين الحكمة ومحبَّة الحكمة

من أين أتينا؟ وإلى أين نذهب؟ وما الذي يحدث حولنا من ظواهر؟ وماذا نعرف منها؟ وكيف نتثبّت من أنّنا نعرف ما نعرف؟ وما الصواب والخطأ؟ وما القيم الإنسانية المثلى؟ وما النواميس الكونية الكلية؟ وما الجميل والجليل؟ وما مشكلاتنا الحقيقية؟ وكيف نحلُّها؟ وما الكلّي والجزئي؟ وهل تُعدُّ اللغة وسيطًا شفّافًا وأمينًا لنقل الأفكار والمعارف؟ وهل… 

ربّما فكّرتم في هذه الأسئلة قبلًا وحازت ساعاتٍ من اهتمامكم؛ دون أن تلحظوا أنَّ الفلسفة الإنسانية قد نشأت من رحِم أسئلةٍ بشريّة كهذه؛ قديمةٍ جدًّا؛ في بدايات التعقُّل والوعي والقلق الوجودي والوقوف أمام حقائق الحياة والموت.. وتناوبت الأجوبة بين اليقينيّة الإيمانية والتخمينات المعرفية وثوابتها والشكّ في أبسط المسلَّمات ومعارضتها بالحجة، وحين بدأ الإنسان يجدُّ في طلب الحجة والتثبّت بدأت الفلسفة تنتقل من بيتها الأسطوري العجائبي إلى بيتها المعرفي الأصيل الذي احتضن معظم المعارف الإنسانية.. 

أمّا في المصطلح؛ فالفلسفة (محبّة الحكمة) رسمت طلائع حدودها المفهومية الفعلية مع كلمات فيثاغورث اليوناني (497 ق.م) إذ أدرك صعوبة بلوغ الحقائق بقوله: "لست حكيمًا؛ فإنّ الحكمة لا تُضاف لغير الآلهة، وما أنا إلّا فيلسوف"؛ أي محبًّا للحكمة. وفي أن يجدَ الإنسان في نفسه شخصًا محبًّا للحكمة لا حكيمًا مُطلقًا؛ يتركّز الفرق الجوهري بين المعرفة ووهم المعرفة، وبين البحث عن الحقيقة والاعتقاد بامتلاكها كاملة، وبالضرورة؛ بين تقدّم الحضارة الإنسانية وتخلّفها، وبين تكريم العقل وازدرائه، ويرى الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز أنّه عندما يدّعي المرء اقتناء الحقيقي فلن يعود يشعرُ أنّه محتاج إلى أي شيء.

حين يكون الإنسان محبًّا للحكمة، سيتعلّم كيف يقبل نقصه ويقبل الآخر، وسيتشرّب كلمات ابن رشد الخالدة في كتابه تهافت التهافت: "ومن العدل ... أن يأتي الرجل من الحجج لخصومه بمثل ما يأتي لنفسه، أعني: أن يجهد نفسَه في طلب الحجج لخصومه كما يجهد نفسَه في طلب الحجج لمذهبه، وأن يقبل لهم من الحجج النوعَ الذي يقبله لنفسه".. 

في الخميس الثالث من تشرين الثاني (نوفمبر) كلّ عام نحتفل بيوم الفلسفة العالمي، وكلّنا أملٌ بأن يترسّخ التفلسف في العقول ويجدد الفكر والحوار ويحيي طريق المعرفة الحقة التي تتوسّل بالحجة أو تقوم بالدليل والتجربة وتعلي من قيم الحياة الإنسانية النبيلة، فتزول الحدود المصطنعة بالخرافة والوهم بين الإنسان وأخيه، فالفلسفة في بعدها العلمي وحتى الأكثر تجريدًا لا تتخلّى عن بعدها الإنساني الواقعي، إذ إنّها سلوك حياة سامٍ في أبهى تجليّاتها، ولذا فقد وقف الفيلسوف دولوز بقوّة ضد مفهوم "نهاية الفلسفة"، واتّخذ طريقًا فلسفيًّا أكّد فيه أنّ الفلسفة ليست تأمّلًا، وأن لا شأن لها مع التجريد، وأنّها تسعى إلى أن يكون لها الدور في إبداع أساليب حياة جديدة. وعرّف الفلسفة بأنّها "فن إبداع المفاهيم"، وأراد لها أن تتحالف مع قوى عصره المبدعة التي تعطي إشارةً باتجاه قيم جديدة وطرائق جديدة للحياة والإحساس.   

"يكاد يكون النزاع حول حق الفلسفة في الوجود قديمًا قدم الفلسفة نفسها"؛ يصرّح كارل بوبر في كتابه الشهير "منطق البحث العلمي"، وهذا النزاع لا يمكن أن نغض الطرف عنه في واقعنا الجدلي الراهن، وربّما لذلك يرى الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز أنَّ استحضار أعمال الفلاسفة ومحاورتها والسعي الدائم لفهم تاريخ الفلسفة سوف يدفعنا لفهم أنفسنا، ولاكتساب الشجاعة من النماذج التي يقدمها لنا، وسيدفعنا إلى التواضع ومعرفة حدودنا عندما نرى أنَّ كل ما هو عظيم مصيره الفناء والعزلة، وأنّه يظل في نهاية المطاف شخصيًّا وفريدًا.

نودّ في يوم الفلسفة العالمي أن يتفحّص كلُّ امرئ فلسفته وطرائق تفكيره تفحُّصًا نقّادًا -كما رجا كارل بوبر نفسه- لعلّنا نعرف يومًا ما الذي يمكننا حقًّا أن نعرف.

المصادر:

1. كرم، يوسف. (2014). تاريخ الفلسفة اليونانية. (د. ط.). القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة. 

2. دولوز، جيل. (2009). الاختلاف والتكرار. (ط. 1). ترجمة: شعبان، وفاء. مراجعة: زيناتي، جورج. بيروت: المنظمة العربية للترجمة.  

3. ابن رشد، أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمّد الأندلسي المالكي. (1998). تهافت التهافت: انتصارًا للروح العلمية وتأسيسًا لأخلاقيات الحوار. (ط. 1). مدخل ومقدمة تحليلية وشروح: الجابري، محمد عابد. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية. سلسلة التراث الفلسفي العربي، مؤلفات ابن رشد (3).

4. بوبر، كارل. (2006). منطق البحث العلمي. (ط. 1). ترجمة وتقديم: البغدادي، محمد. بيروت: المنظمة العربية للترجمة.

5. ياسبرز، كارل. (2007). تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية. (د. ط.). نقله إلى العربية وقدم له: مكاوي، عبد الغفار. بيروت: دار التنوير.