الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة

موجز عن تاريخ الفلسفة: الفلسفة الهلنستية؛ الكلبية - الأبيقورية - الرواقية

الفلسفة الهلينستية هي اسم لمجموعة متنوعة من المذاهب والحركات الفلسفية التي ازدهرت بعد وفاة الإسكندر الأكبر، وقد أُطلِق اسم الحقبة الهلنستية على الحقبة التي أمست فيها الثقافة اليونانية ملكاً مشتركاً بين جميع بلدان البحر الأبيض؛ إذ انتشرت هذه الثقافة إلى مصر وسورية وصولاً إلى روما وإسبانيا.

وتعدُّ الفلسفةُ الهلنستيّة من أهم الحقب في تاريخ الحضارة الغربية، وهي امتدادٌ للفلسفة اليونانية هنا ولكنها تختلف عنها من خلال صرف اهتمامها عن المشاغل السياسية لتصبَّ ذلك الاهتمام في اكتشاف القواعد العامة للسلوك البشري، وبذلك أيضًا اختلفت عمّا قبل السقراطية هنا التي انشغلت بالمسائل الطبيعية.

وأهم المذاهب والمدارس الفكرية التي ظهرت في هذه الحقبة: الكلبية والأبيقورية والرواقية.

- الكلبية:

أسسها الفيلسوف اليوناني أنتستانس الذي تتلمذ على يد غورغياس فنشأ على السفسطة ثم عرف سقراط ولزمه، وكان يجتمع بتلاميذه في مكان اسمه "الكلب السريع" لذلك أُطلِقَ عليهم اسم الكلبيين، ولعل هذا الاسم لحقهم بالأكثر لسماجتهِم وغرابة أطوارهِم، وكان فيهم الكثير من الشذوذ لأنهم يجابهون الحضور بنقائصهم في قول جريء إلى حدّ البذاءة، ولا يستحيون ولا يفرقون بين المقامات؛ بل يدعون أنهم في ذلك كله يؤدون مهمّةً كلّفهم بها الإله هي ملاحظة العيوب والتشهير بها، ويتخذون من اسمهم تشبيها فيقولون: إنهم حرّاسُ الفضيلة ينبحون على الرذيلة كما ينبح الكلب الحارس عند الخطر.

يرى أنتستانس أنّ الفضيلةَ -لا اللذةَ-هي الشيءُ الوحيد الضروري للحياة، ويقول إن الفضيلة في الأفعال، والأفعال لا تعلم ولكنها تكتسب بالمران، فليست الكلبية إذن مذهبًا فلسفيًّا إنما هي سيرة وحياة.

ومن رواد هذه المدرسة الفيلسوف اليوناني ديوجانس الذي كان يحتقر العلوم كأستاذه أنتستانس، ويشبه فلسفته بالفنون الآلية، ويجبُ على النّاس أن يروضوا أنفسهم على الفضيلة فيجيدوها كما يجيد الصانع مهنته، وكان ينظر إلى الفرد مستقلاً عن الجماعة وماهيّةً منفصلةً، ويرى أنّ الفضيلة ممكنة له بهذا الافتراض، على عكس أفلاطون وأرسطو اللذين كانا يجعلان المدينة شرط الفضيلة.

‏بذلك نجد أن الكلبيين بعيدون عن الوطنية وهم أكثر تلك الفرق ميلاً للإنسانية، ويستحبون الدول الكبرى كالفرس ودولة إسكندر، وهو يتلاءَم مع القول إنّ الماهياتِ منفصلةٌ ليس بينها علاقات توضَعُ في أحكام، فماهيّة الإنسان لا تتضمن علاقة وطنية أو سياسية ولا ترجع إلى ماهية أخرى.

- ‏الأبيقورية:

مذهبٌ فلسفيٌّ أنشأه الفيلسوف اليوناني أبيقوروس؛ إذ يرى أنّ غايةَ الحياة هي اللذة؛ وأنّها الخير الوحيد والألم هو الشر الوحيد، والمقصود باللذة في هذا المذهب هو التحرر من الألم، ويعدُّ الأبيقوريون اللذاتِ الروحيّة والعقلية أكثرَ أهميّةً بكثير من لذّات الجسم، فالجسم لا يشعر باللذة والألم إلا عندما يدومان.

والمعرفة عندهم لا تتحقق إلا عن طريق الحواس، والحواس ترشد المرء إلى تحديد طبيعة الشيء، فيصدرُ حكمه بعد الإدراك الحسي، وهي عنده أربعة أنواع: الانفعال والإحساس والمعنى الكلي والحدس الفكري، فالانفعالُ هو الشعور باللذة والألم، والإحساس هو الإدراك الظاهري، والمعنى الكلي يصدر من الإحساس، والحدس الفكري استدلال.

ويقول: تشهد التجربة أننا نطلب اللذة وأن الحيوان يطلبها مثلنا بدافع الطبيعة دون تفكير ولا تعليم، فالطبيعة هي التي تحكم بما يلائمها لا العقل الذي هو في الحقيقة عاجزٌ عن تصور خير مجرد من كلِّ عنصرٍ حسيٍّ، وأفكارنا جميعها ترجع إلى احساسات ومن ثَمَّ إلى لذات وآلام، وإذا نحن استبعدنا الحس من الإنسان فليس يبقى شيئاً.

وكان تعريف الفلسفة عنده "الحكمة العملية التي توفر السعادة بالأدلة والأفكار"، وقد صبّ اهتمامه في نقد المعرفة، والنظر في علامات الحقيقة، وفي الطريق إلى اليقين الذي يؤدي إلى السعادة، وترى الأبيقورية أنّ مهمة الفلسفة ليست تفسير العالم، لأن الجزء لا يستطيع قطّ أن يفسر الكل؛ بل وظيفتها أن تهدينا بحثنا عن السعادة.

وبذلك نجدُ أنّ جوهرَ مذهب أيبقورس هو اللذة، وظل لهذه المدرسة أتباع حتى عهد قسطنطين.

- الرواقية:

نشأت هذه الفلسفة قرابةَ عامِ ٣٠٠ ق.م، وهي مذهب فلسفي وإحدى الفلسفات المستجدة في هذه الحقبة، وهي معاصرة للأبيقورية ومعارضة لها، وأسسها الفيلسوف اليوناني زينون وهو من أصل فينيقي وسبب تسميتهم بالرواقيون يعود لأنهم كانوا يعقدون اجتماعاتهم في الأروقة في مدينة أثينا.

والفلسفة عند الرواقية "محبة الحكمة ومزاولتها"، والحكمة "علم الأشياء الإلهية والإنسانية" تنقسم إلى ثلاثة أقسام: العلم الطبيعي والجدل (المنطق) والأخلاق.

ونرى أن الرواقيون ماديون، والمعرفة عندهم حسية، إذ خالفوا الأبيقوريون في تصوّر المادة، وذهبوا إلى القول بأن المادة متجزئة بالفعل إلى غير نهاية، مفتقرة إلى مايردها للوحدة في الأجسام كلها، فكان الجسم عندهم مركباً من مبدأين هما مادة ونفَس حار يتحد بالمادة ويتوتر فَيَسْتَبْقِي أجزاءَها متماسكة، وانقسام المادة إلى غير نهاية يسمح للنفَس الحار أن يتحد بها تمام الاتحاد؛ أي أن ينتشر فيها كلها انتشار البخور في الهواء والخمر في الماء لكي يؤلفا مزيجاً كلياً فيوجدان معاً في كلّ جزء من مكانهما دون أن يفقد شيئاً من جوهرهما وخواصها، وهما بمثابة الهيولى والصورة عند أرسطو.

ويمكن القول: إن الرواقية مرت بعدة مراحل:

-المرحلة الأولى في القرن الثالث قبل الميلاد ومن روادها زينون وكليانثس.

-المرحلة الثانية الرواقية المتوسطة في القرنين الثاني والأول قبل الميلاد أهم رجاله آسيويون كذلك من طرسوس و سلوقية وصيدا.

-المرحلة الثالثة الرواقية الجديدة في عهد الرومان القياصرة، أشهر أسمائه سنيكا وأبيقتاتوس، وهم الرواقيون الوحيدون الذين وصلت كتابتهم إلينا كاملة.

وبذلك نجدُ أن الإبداع الفلسفي كان حاضراً في هذه الحقبة من خلال تجديد المذاهب الفلسفية القديمة مع عناية خاصة بالأخلاق تبعاً لموقف سقراط والفكرة الاساسية عند أفلاطون، فجدد أبيقور مذهب ديمقريطس، وجدد الرواقيون مذهب هرقليطس، وكأن العقول قد شاخت والنفوس تراخت فضعفت الثقة بالعقل ونبت مذهب الشك طاغياً على الأكاديمية؛ إلى أن خلصتها منه نهضة لم تلبث أن تلاشت.

المصادر:

1- كرم، يوسف. تاريخ الفلسفة اليونانية، مصر، القاهرة، مؤسسة هنداوي، 2012.

2- برهييه، اميل. تاريخ الفلسفة الهلنستية والرومانية، الطبعة الثانية، لبنان، بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر، 1988.

3- ستيس، ولتر. تاريخ الفلسفة اليونانية، مصر، القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1984.