الفلسفة وعلم الاجتماع > علم الاجتماع

تاريخ عقوبة الإعدام وأهم معارضيها العدمي ألبير كامو

يعدُّ التوجه الفلسفيّ الكبير إلى عقوبة الموت موضوعاً رُكِّزَ عليه حديثاً، ومصطلح حكم الإعدام "Capital Punishment" مصطلحٌ قديمٌ مازال يُستخدمُ منذ ألف عام للرمز والدلالة على الموت بطريقةِ الشنق، وتدلّ جذور مصطلح Capital حسب اللغة اللاتينية والفرنسية على عقوبة يخسرُ فيها المعاقب رأسَه أو الحياة على نحوٍ عام.

تعودُ الممارسةُ الفعلية لعقوبةِ الإعدام لعصورٍ قديمة جداً، فقد كانت موجودةً في شريعةِ حمورابي البابلية (1750 سنة قبل الميلاد)؛ وكذلك في عصر شريعة موسى العبرانية التي حكمت على كثيرٍ من الجرائم بالموت مستندةً إلى شريعة الانتقام وقانونه، وقد عاقبتْ أثينا أيضاً معظمَ الجرائم بالإعدام الذي سمحَ للقانون الأثيني لاحقًا بمحاكمة سقراط وقتله.

ولم يختلفْ قانون الرومانيين في القرن الخامس قبل الميلاد كثيراً؛ فقد كانوا يعدُّونَ الموت عقوبةً لعدة جرائم كنشرِ أغانٍ مهينةٍ أو إزعاجِ السلام الليلي في المناطق المدنية، ولاحقاً سمح القانون الروماني مثلما هو معروف بتشريعِ عقوبة الصلب ليسوع الناصري، حتى الممارسات القديمة لحكم الإعدام كان يُنظر إليها أنّها تعود لسلطة الحاكمين السياسيين وقد تجسّدَ ذلك واقعياً بجعلها مؤسسةً قانونيّةً في الدولة.

واحْتُفِظَ بهذه الممارسات في العصور الوسطى والحديثة في أوروبا؛ بل عُزِّزَتْ أشكالُ الإعدام القديمةُ كالرجم، والصلب، والغرق، والضرب حتى الموت أو حتى التسميم.

وشاركت السلطاتُ المدنيّة والكنسية في العصور الوسطى باستخدام هذه العقوبة بطرقٍ صُمِّمَتْ خِصيصاً لتكون تعذيبية ووحشية كقطع الرأس، أو الحرق على قيد الحياة، أو الشنق، أو نزع الأحشاء، أو تشريح الجسد علانيةً والإخصاء.

وهذه الأمثلةُ عن العقوباتِ الوحشيّة كلها كانتْ تُنظَّمُ أمام عامّة الشعب؛ بل يعدّونها طقسًا دينيًّا؛ ففي ذلك الوقت لم تكن تقتصر عقوبة الإعدام على موت المتهم فقط؛ بل على جعل طريقة القتل علانيةً والموت أمام عامة الناس.

بدأ المفهوم القديم لحكم الإعدام بالتغير في العالم الحديث، وتعد أمريكا من الدول التي تأثرت بدولة بريطانيا أكثر من أيةِ دولة أخرى ففي عهد الملكة إليزابيت -عهدِ الشريعة الدموية- وجِدَت أكثر من 200 جريمة تستحقُّ الإعدام، ولم تكن عقوبة الإعدام هذه إلا نقطةً أساسية انطلقت منها كل أشكالِ العقوبات الأخرى.

وفتابعت أمريكا نهج بريطانيا في الإعدام علانية حتى أواسط القرن الثامن عشر؛ إذ بدأ المسؤولون بفرض أحكام بالموت مع عدم تنفيذها، ونظموا أحكاماً مزيفة بالإعدام شنقاً، وأوقفوا مراسيم إعدامٍ كثيرةً في اللحظة الاخيرة، وقد كانت هذه كلها طرقاً للتعذيب بما يسمّى الموتَ الرمزيَّ، واستخدموا مجموعةً من الأدوات القادرة على تكثيف عقوبة الإعدام وجعلها أسوأ من الموت نفسه كالحرق على الخازوق أو عرض الجثث علانية أمام الناس.

ثمّ تغيّرَ الفكر الجنائي في عقوبة الإعدام تغيراً جذرياً في أواخر القرن الثامن عشر، وقد جاء هذا التغيير مع ولادة سجون تتسعُ لأعدادٍ أكبرَ من الناس، وعُدَّتِ السّجون عقوبةً بديلة عن الحكم بالإعدام، وتضمنت هذه السجون أيضاً درجاتٍ متفاوتةً من العقاب على سبيل المثال: السجن مع الأعمال الشاقة أو السجن الانفرادي وكانت تؤدى تلك العقوبات مع تحديد مدة زمنية لكل عقوبة.

وقد جاءت هذه التغيرات الجذرية في عقوبة الإعدام أيضاً مع صدور كتاب Cesare Beccaria عام 1864 بعنوان الجرائم والعقوبات، ولكنَّ الكثيرَ من الفلاسفة المدافعين عن حكم الإعدام، مثل إيمانويل كانط، قد عارضوا الإصلاحيين وعارضوا كلّ الذين أحبّوا كتاب Beccaria الذي ناقشَ فكرة إلغاء حكم الإعدام.

وقد تراجعت إثرَ ذلك الطرقُ الوحشيّة المستخدمة في الإعدام، وقلّ عددها في القرن التاسع عشر كثيراً.

أما في أواسط القرن العشرين، عادت عقوبة الإعدام لتصبحَ محطّ اهتمام الفلاسفة وتركيزهم من جديد وتحوّل حكم الإعدام إلى قلقٍ عالميٍّ خاصّةً بعدَ محاكمات نوريمبرغ للقادة النازيين بعد الحرب العالمية الثانية؛ بل بعد إعلان حقوق الإنسان العالمية في عام 1948 والمعاهدات اللاحقة التي نصّتْ بوضوحٍ أنَّ كلَّ إنسانٍ لديه الحقُّ في الحياة كلها شجعت على إلغاء عقوبة الإعدام في العالم كله مع وجود بعض الاستثناءات لدول مازالت تحتفظ بهذه العقوبة مثل: الصين، كوريا الشمالية، اليابان، الهند، إندونيسيا، مصر، الصومال وأمريكا التي تعدُّ الدولة الغربية الصناعية الوحيدة التي مازالت تحتفظ بعقوبة الإعدام.

وبدأ الفيلسوف كامو بمعارضة فِكْر الحكم بالإعدام منذ الوقت الذي سمع فيه قصة أبيه وشهد إعدامه علانيةً، وظهرت معارضته بوضوح في كتاباته ولم تكن هذه المعارضة فلسفية على وجه تحديد فهي لم تستند على أيةِ نظرية أو مبدأ أخلاقي معين؛ بل كانت إنسانية ناجمة عن وعي ضميره، وأيضاً فيكتور هوغو -سلفه الأسبق في معارضة عقوبة الإعدام- كان ينظر إليها كفعلٍ همجيٍّ مشين وانتقام مغطى تحت سترة القانون لتصبح مقبولة وغير مستفزة للأحاسيس وعَدَّه فعلاً انتقاميّاً لا يستهدف سوى الفقراء والمضطهدين.

يقدّم مقال كامو هنا "انعكاسات المقصلة" دراسة تفصيلية في هذه القضية ويعدّ مقالاً بليغاً يحتوي على رؤى نفسية وفلسفية مقنعة ويحوي بوضوح معارضة الكاتب كامو للحجج التقليدية المقدمة كلها لتبرير عقوبة الإعدام التي كانت مثل ادعاء الفيلسوف كانط أن الموت هو أكثر عقوبة قانونية مطلوبة أخلاقياً لمعاقبة كل مجرم.

وقد رد كامو على كل شخص اعتقد أن الموت هو عقوبة يستحقها المجرم بـ:

إن عقوبة الإعدام هي أكثر جرائم القتل عمداً، ولكي تكون هناك عدالة فعقوبة الإعدام يجب أن تعاقب أيضاً المجرم الذي خوّل نفسه قَتْلَ المجرمين.

وفي النهاية اختتم كامو مقاله بأنّه يجبُ على فرنسا أن تلغيَ المنظرَ الوحشيّ للمقصلة وتستبدلها على الأقل بعقوبة أكثر إنسانية كالحقن المميتة.

ومع كل ذلك كان مايزال يحتفظ بأمل ضئيل بأن تلغى عقوبة الإعدام تماماً في يوم من الأيام، وأنَّ الاتحاد الأوروبي يجب أن يعدَّ هذه القضية المادة الأولى في الدستور الأوروبي.

من الواضح أن كامو لم يستطع العيش إلى اليوم الذي أصبحت أمنيته شرطاً أساساً لتحقيق العضوية في الاتحاد الأوروبي.

المصادر:

1. هنا

2. هنا