الرياضيات > الرياضيات

هل تستطيع نظرية العُقد أن تساعدنا على فهم الـ DNA؟

لا تزال الطبيعة منذ الأزل قادرةً على تشكيل العُقد في منظوماتها أو تفكيكها، ونرى ذلك في أنواع معينة من الـ DNA في البروتينات والحقول المغناطيسية والدوامات التي تظهر في السوائل والعديد من الظواهر الأخرى القادرة على تشكيل حلقات، والتي ينتهي بها المطاف أحيانًا بأن تتشابك؛ ولكنَّ تلك العُقد والتشابكات غير مرحب بها في النظم التي تحدث فيها، فعلى سبيل المثال؛ عندما تتشكل العُقد في الـ DNA فإن ذلك يسبب مقتل الخلية؛ وفي هذه الحالات تجد الطبيعة طريقةً ما لتعيد النظام إلى منظومتها.

إذ تستخدم العالمة "Mariel Vazquez" في جامعة كاليفورنيا-دايفيس نظرياتٍٍ من التبولوجيا لتفهم مسائل تشكيل العقد وفكها في الجزيئات البيولوجية؛ وقد استخدمت على وجه الخصوص مفهومات تبولوجية من نظرية العُقد مع زملائها لتبين أن الخلايا تفك عقد الـ DNA بفعالية مُثلى.

وفي حديثها في الاجتماع السنوي لعام 2018 برعاية SIAM في مدينة بورتلاند؛ ركزت "Vazquez" على طبيعة عملها متعدد الخصائص، فعلى الرغم من أنه يركز على الـ DNA فإنَّه يمتلك تطبيقاتٍ في عدة تخصصات أخرى غير البيولوجيا الجزيئية.

سواء أكان DNA أم حقلًا مغناطيسيًّا أم أية سلسلة مرنة أخرى ملتوية وتضم عُقدًا؛ فإنها ستكون تحت التوتر وستمتلك طاقةً فائضةً غير مرغوب فيها؛ إذ تمتلك تلك النظم آلياتٍ لتعيد الترابط بين جزيئاتها، إمَّا بقطع الروابط وإمَّا بإعادة ترتيب تلك السلاسل للتخفيف من التوتر.

وعلى سبيل المثال؛ تتشكل الحقول المغناطيسية الشمسية على مدى 11 عامًا وكأنَّها حزمةٌ مطاطيةٌ تمددت على سطح كرة ما. وتتنافر هذه الخطوط التي تمثل تلك الحقول فيما بينها، وهذا يجعل التوتر يتزايد كلما اقتربت الحقول من بعضها؛ وتؤدي إعادة الترابط المغناطيسي فجأةً إلى إعادة ترتيب تلك الخطوط مطلقةً بذلك الطاقةَ إلى الغلاف المحيط بالشمس ومسببةً ما يعرف بالتوهجات الشمسية.

وقد تكون إعادة التوصيل في الـ DNA أقلَّ حدةٍ من ذلك، إذ تعمل إعادة الترتيب على تغيير تبولوجيا السلاسل فيها؛ أي يتغير عدد الحلقات والطريقة التي تتقاطع بها، وتصف نظرية العُقد تلك الالتفافات والوصلات وصفًا مستقلًّا عن طول السلاسل والقوى الفيزيائية التي تحكمها.

ويساعد تطبيق نظرية "العُقد على إعادة التوصيل" الباحثين على فهم كيفية تأدية النظم في العالم الحقيقي تبسيطَ طبولوجياتها لتخفف من الطاقة والتوتر.

وقد تصف نظرية العقد الوصلات بين حلقتين أو أكثر أيضًا؛ ولنأخذ على سبيل المثال قصاصتين من الورق مرسوم على كل واحدة منهما سهمٌ ممتدٌ على طولها؛ فهنالك طريقتان لصنع سلسلة ورقية ثنائية الوصلات من تلك القصاصات، وذلك اعتمادًا على الجهتين النسبيتين للسهمَين عندما نجمع القصاصتين معًا -كما أشارت "Vazquez"- فإنَّ تطبيقات العالم الحقيقي لنظرية العقد غالبًا تأخذ بالحسبان الطريقة التي تتغير بها تبولوجيا تلك النظم؛ فلنفكر مثلًا بالـ DNA لبكتيريا E. Coli؛ إذ تعيش غالبًا هذه الميكروبات في أمعائنا من غير أن تُسبِّب أي أذىً يذكر، ولكنها تكتسب اهتمامًا عندما تسبب تسممًا. إذ تمتلك تلك البكتيريا DNA على هيئة كروموزومات، ليس ذلك فقط، بل تمتلك حبائل دائرية تسمى البلاسميدات، والتي تتضاعف بصورة مستقلة عن الانقسام الخلوي، وهذا ما يجعل من السهل مراقبتها في المختبر.

ويمتلك الـ DNA هيئة حلزونية مزدوجة، إذ يشكل حبلين طويلين من البوليمرات على هيئة تشبه سلَّمًا ملتويًا (مجدولًا). وأمَّا درجات هذا السلم فهي أزواج من أربعة أنواع من الجزيئات، وأُسنِدت الأحرف الآتية لها: {A,C,G,T}. وهي التي تشكل الشيفرة الجينية اللازمة للحياة وترتبط بعضها ببعضٍ بقوى جزيئية. وإن الترتيب الذي توجد فيه تلك الجزيئات هو المسؤول عن الاتجاه الذي يملكه جزيء الـ DNA، وترتبط منطقة "الذيل" للبلاسميدات لهذه البكتيريا مع سلاسل دائرية من الـ DNA مجددًا بمنطقة الرأس. إذ تستطيع نظرية العقد أن تصف الطريقة التي تلتف فيها جزيئات الـ DNA ببعضها، وتُوصل التبولوجيا للسلاسل مع السلوك الكيميائي الذي تؤديه كما هو موضح في الشكل في الأسفل. وإن طبيعة الـ DNA الحلزونية غير مهمة من وجهة نظر نظرية العقد، ما يهم هو كيف تؤدي السلسلة المزدوجة تشكيل العقد والوصلات؛ ولكنَّ البنية الجزيئية للـ DNA تقاوم تشكُّل العقد داخل الخلية، لذا تؤدي آليات النظام البيولوجية إلى دفعه إلى أبسط تبولوجيا وهي اللاعقدية.

يمكن نمذجة جزيء الـ DNA الدائري على أنه عقدة رياضية.

عندما يتضاعف جزيء الـ DNA تتفكك الروابط الموجودة على ذلك السلّم وينقسم نصفين، وينتج عن تضاعف الـ DNA الحلقي إلى جزيئين مرتبطين ويكونان غالبًا أكثر تعقيدًا من السلسلة الورقية الثنائية التي ذكرناها آنفًا. وتعني هذه الصلة أن الجزيئين الجديدين ليسا متكافئين تبولوجيًّا ولا بيولوجيًّا بالنسبة إلى الجزيء الأصلي. ثم يكون على تلك الروابط أن تنفصل ليكتمل التضاعف.

وإضافةً إلى ذلك؛ فإن فعل الانفصال الذي يؤديه الـ DNA –للتضاعف أو النسخ الذي يحدث في بعض أجزائه لأسباب مختلفة– يخلق توترًا بعيدًا عن نقطة الانفصال. ويحدث نتيجة لذلك ما يسمى بالالتفاف الفائق وهي عملية يؤدي بواسطتها الـ DNA الالتفاف على نفسه بوصفه عقدة ليعوض عن قلة التراصّ التي حدثت نتيجةً لانفصال السلسلتين.

وتتضمن عملية قطع الروابط وترميم الالتفاف الفائق حدوث إعادة توصيل، ولكنها معقدة أكثر من أن تنقطع جزيئات السلسلتين ويُعاد إلصاقها. وإن اتجاه الجزيء مهم هنا، لأن إعادة وصل القطع يجب أن تحافظ على المعلومات الجينية التي يحملها الـ DNA.

نمذجت "Vazquez" مع زملائها محاكاة لـ "مونتي كارلو" لتؤكد صحة أنموذجها الرياضي، ولتفهم كيف تنفذ الخلايا عملية تفكك الـ DNA. واختبرت هذه الطرائق عدد احتمالات الخطوات المتطلبة لفك السلاسل، وذلك وفقًا للافتراض بأنَّ كل خطوة يجب إما أن تقلل وإما تحافظ على التعقيد التبولوجي؛ وبعبارة أخرى، كل تبديل في حلقة الـ DNA يجب أن يزيل الروابط أو العقد مسببًا بذلك نشوء حلقتين خاليتين من العقد.

وإنَّ إحدى طرق قياس تعقيد العقدة هي إيجاد إسقاط لها، وهذا يعني أخذ كل من عدد الالتفافات وجهتها. ولحساب الجهة؛ لنتخيل أن النظام أُسقِطَ على سطح ما مع أسهم لتحدد جهة الجزيء، ولنأخذ كل وصلة على حدة على أنها حرف X وكأن قدمًا ما ملتفة حول الأخرى، وإن التفَّت القدم التي من جهة اليسار إلى اليمين على القدم التي من جهة اليمين إلى اليسار؛ نضيف +1 وإلا نضيف -1 للوصلة. والإسقاط الذي يعبر عن التفاف الجزيء هو مجموع تلك القيم.

نموذج يمثل انفكاك جزيء الـ DNA.

فلنتخيل سلسلتين متشابكتين وعدد التقاطعات فيها يساوي 6؛ أي شكلها يشبه نجمة سليمان (كما في الشكل في الأعلى)؛ يُعبَّرُ عنها بنظرية العقد بأنها وصلة  612، إذ يمثل العدد 6 عدد التقاطعات وأما 2 فهو عدد السلاسل و1 يعبر عن أنه أبسط تركيب. ويمكن التعبير عن تعقيد الشكل بأنه +6. إذ إنَّ هنالك طريقتين لحل الروابط وإعادة تشكيلها لتبسيط الأمر؛ وكلتا الطريقتين تخففان من التعقيد الحالي؛ ولكن واحدة منهما فقط تخفف من عدد التقاطعات.

وأثبتت العالمة وزملاؤها بأن أقل عدد من الخطوات لفك الروابط عن سلسلتين متشابكتين بدرجة معينة من الوصلات يساوي عدد التقاطعات. إذًا فإن الترابط المكون من 6 تقاطعات سيحتاج إلى 6 خطوات لفك تلك الروابط. ولكي يُعالج الأمر حاسوبيًّا؛ حُسِبت الجزيئات على أنها قطع خطية قد رُبِطَ بينها بدرجة زاوية 90 أو 180، كما لو أنها حوافُ شبكة ثلاثية الأبعاد. وهذا ما جعل البرنامج قادرًا على التلاعب بالجزيئات تلاعبًا مباشرًا وقادرًا على تقطيع خصائص العقد ووصلها وحسابها تدريجيًّا. ولقد اختبرَ أنموذج "مونتي كارلو" الاحتمالات الممكنة كلها لإعادة التوصيل ابتداءً من نقطة ما لينتهي الأمر بشكلين خاليين من العقد، وقد وجدوا أن أبسط طريق هو الطريق الذي لسلوكه الاحتمال الأكبر أيضًا.

ويبين الشكل الطرق الممكنة كلها لفك الروابط في شكل من درجة 612 (في الزاوية العليا اليسارية من الشكل)، مفترضين أن كل خطوة تبسّط الوصلة أو العقدة. وتمثل الأرقام احتمالية الخطوات المتبعة، وذلك استنادًا إلى نماذج "مونتي كارلو"، وهذا يوضح أن أقصر طريق ممكن هو الأكثر احتمالًا (من اليسار العلوي إلى اليمين السفلي).

في الخلية الحية، تساعد العديد من الأنزيمات –وهي بروتينات قادرة على تأدية مهام معينة- في تضاعف الـ DNA وكسر الروابط وجمع السلاسل. وإن فشل الأنزيمات في تأدية تلك المهام يؤدي إلى موت الخلية. وقد اقترحت العالمة أن كبح نشاط تلك الأنزيمات صراحةً قد يكون مفيدًا للمضادات الحيوية أو العقارات التي تحارب السرطان؛ إذ تنقل البلاسميدات في البكتيريا مقاومة المضادات الحيوية بين الخلايا.

ويتجاوز الأمر علم الأحياء، فإن هذه الطريقة التبولوجية قد تؤمن شرحًا جيدًا لكيفية حدوث إعادة الترابط في النظم الأخرى؛ فهناك كثير من العمليات التي تتبع سلوكًا يساعد على تقليل الطاقة للحفاظ على أعلى فعالية ممكنة، وتبين نظرية العقد قدرة هذه العمليات على تقليل التعقيد في السلاسل المتشابكة.

المصادر:

هنا