البيولوجيا والتطوّر > بيولوجي

من هو الأذكى: نحن أم الحيتان!؟

هل الحيتان أكثر ذكاء مما نحن عليه؟ لا يتوقّف البشر عن الزهو والغرور بكونهم يمتلكون القدرات الدماغية الواعية التي جعلتهم (وفق منظورهم) يسودون كوكب الأرض ويسيطرون على باقي الكائنات فيه، ولكن إلى أيّ حدٍ هذه المقارنة صحيحة؟ وهل يخبرنا العلم فعلاً أننا متفوقون بقدراتنا الدماغية على الكائنات الأخرى؟

إذا أردنا اختيار الحيوان الأذكى بالنظر إلى دماغه ذاته، فهل علينا أن نختار الحيوان الذي يمتلك الدماغ الأكبر حجماً؟ أم الذي يملك أوسع مساحة من التلافيف القشريّة؟ أم يكون الأذكى هو صاحب أكبر نسبةٍ ما بين حجم دماغه إلى حجم جسده؟

في الحقيقة، إن فكّرنا باستخدام أيٍّ من الطرق الثلاث السابقة فلن يكون أيّ جوابٍ منها هو "الإنسان"!

تعدّ أدمغة الثدييات البحرية مثل الدلافين والحيتان من الأدمغة المعقدة في عالم الحيوان، فهي على عكس الأسماك تمتلك تلافيف قشرية في أدمغتها، بل وإنّ المساحة السطحية لأدمغتها أكبر من تلك الموجودة لدى البشر! فهل هذا يعني أنهم قد يكونون أذكى منا؟! تظهر المشاهدات والدراسات أننا لا نمتلك أكبر العقول في العالم ، سواء أكان في الأحجام أو في نسبة حجم الدماغ إلى الجسم .

الحيتان في الحقيقة هي التي تملك أدمغة أكبر من أيّ حيوانٍ آخر على سطح الأرض، لكن هل يعني هذا أنها ذكية ؟ الأكبر ليس الأفضل دائماً، فربما لا يكون دماغ الحوت الضّخم متطوراً جداً على المستوى الخلوي ، خنازير البحر والفيلة والثدييات ككلّ معروفة بقدراتها العقلية المتطورة، وتملك أدمغة أكبر من تلك الموجودة لدى البشر، الحجم مهمٌ بالتأكيد لكنه ليس كلّ شيء.

إنّ أكبر الحيتان على وجه الأرض تنتمي إلى حيتان العنبر، وحجم دماغ حوت العنبر هو 8000 سم مكعب، (للمقارنة فدماغنا يبلغ حوالي 1300 سم مكعب لا غير). لكن هذا ليس عدلاً، فهذه الحيوانات عملاقة ولذا فكلّ ما فيها هائل الحجم، إذاً دعونا نأخذ في الاعتبار حجم الدماغ إلى الجسم. وهنا تنتصر علينا مرّةً أخرى ثدييات صغيرة تدعى زبابة الشجرة هي من تملك أكبر نسبة دماغ إلى الجسم.

لا أحد يمكن أن يعتقد أن زبابة الشجرة هي عبقريّة من الناحية الفكرية، ولذا فكلّ هذه الحسابات تعيدنا إلى حيث بدأنا، وعلينا إذاً العمل على ملاحظة الاختلافات في القوة الفكرية (العقلية) بين هذين الدماغين. لنأخذ نظرة على الأدلة الأحفورية، فالـ Homo Sapiens أو البشر يعتبرون عادةً كأكثر الاصناف تطوراً، نعرف أنّ مادتنا الوراثية لا تختلف عن تلك لدى الشمبانزي إلا بـ 2% فقط، ولكن انظروا كيف تضخّمت رؤوسنا خلال 3 مليون سنة من حجمٍ لا يتجاوز 380 سم مكعب لدى السلف "لوسي" وحتى يومنا هذا، ولكن دعونا نفكّر بالحيتان والتي أقرب أقربائها من الناحية الجينية هو فرس النهر والذي لا يتميّز بأيّ ذكاء بل نسبة حجم دماغه إلى جسده منخفضة جداً.

إن التغيرات التطورية الهائلة التي مرت على الحيتان كانت تتطلب تحويل رباعي الأرجل الذي يعيش في المستنقع إلى شكلٍ انسيابيّ أشبه بالغواصة. ويمثل تكيف الحيتان مع نمط الحياة المائية واحدة من التحولات الدراماتيكية في التاريخ التطوري للثديات. حيث استغرق زيادة حجم الدماغ من الأسلاف إلى الحيتان الحديثة الحالية حوالي 10 مليون سنة من بعد أن أصبح أسلافهم مائيين بشكل كامل، و الفكرة هي أن التحول إلى نمط الحياة المائية قد أدى إلى تضخم في حجم دماغ الحوت، ولم تكن البيئة هي المحفز الوحيد لهذا الكبر .

حيث تكشف لنا النظرية الحديثة للتشريح العصبي لدماغ الإنسان والحوت أن القشرة (اللحاء) الدماغية تحوي تلافيف قشرية أكثر حتى من تلك الموجودة لدى البشر، فتبلغ مساحة القشرة المخية الحديثة للإنسان 2،275 سم مربع أما عند الدلافين فهذه المساحة هي 3،745 سم مربع (أكبر من مساحة جريدة كاملة غير مطوية). تستنتج الدكتورة لوري مارينو Lori Marino في ورقتها البحثية المنشورة في PLOS Biology أن التطور إلى نمط الحياة المائية قد تطلب الكثير من التغيرات المورفولوجية والوظيفية لدى الثدييات المائية مثل تقلص الأطراف الخلفية وتحول الأطراف الأمامية إلى زعانف، انتقال الفتحات التنفسية إلى أعلى الرأس وتطوير السونار والرؤية والسمع تحت الماء، مما يبرز سؤالاً إن كان الانتقال إلى نمط الحياة المائية هو ما حفز هذا التطور في وظائف الدماغ. والواقع أنّ نمط حياة الثدييات المائية جعلها أيضاً تكتسب مهاراتٍ اجتماعية ومهارات الصيد وأيضاً الملاحة.

إذاً فلنطرح السؤال التالي: هل تظهر بنية التشريح العصبي أن دماغ الحوت يحتوي أعصاباً أكثر بما يتناسب مع حجمه؟ منطقياً يجب أن تكون الإجابة هي نعم، ولكنّ الفحص التشريحي يظهر أنّ الفص الجبهي للدلافين هو أصغر مما تمتلكه باقي الثدييات، إلا أنّ القشرة المخية التي يمتلكها حوت المنك كثيفة بشكلٍ مدهش! فهي أكثف منها لدى باقي الثدييات ومشابهة لما يملكه دماغ الإنسان (حوالي 2.63 ملم)، ومع ذلك فطبقاتها أقلّ تعقيداً من تلك التي يملكها البشر. وذلك يعني أن الاسلاك التي تربط بين داخل وخارج القشرة المخية لديهم مختلف عنه لدى باقي الكائنات، كما كشف التعداد الخلوي أن العدد الإجمالي من الخلايا العصبية أو ما يسمى بالدبق في القشرة المخية لحوت المنك كان 12.8 بليون. وهو بذلك 13 ضعفاً لما يمتلكه القرد الهندي و500 مرة أكثر من الفئران، ولكنه فقط 2/3 من القشرة المخية لدى الإنسان.

وفي تأييد لهذه الاستنتاجات، فإن حيتان البالينا و التي تفلتر البلانكتون ولا تحتاج لمهارات الصيد لا تمتلك أدمغة كبيرة بشكل كاف مقارنة مع حجمها لدى الحوت ذي الأسنان والذي يحصل على طعامه عن طريق الصيد .

هذا الاكتشاف ربما يشير إلى أهميّةٍ أكبر لنسبة الدبق/الخلايا العصبية من أهمية الحجم، حيث تعتبر خلايا الدبق هامة جداً في معالجة المعلومات. نحن الآن نتساءل بشكل رئيسي: ما الذي يجري في رأس الحوت؟ و لماذا تعتبر ذكية جداً؟؟ فرغم أنّ الحيتان لا تبدي أعمالاً عظيمة لإظهار ذكائها، فالعديد من العلماء يجادلون بأن البشر هم المسيطرون على الكوكب بفضل امتلاكهم –ليس فقط لدماغٍ متطور- بل لامتلاكهم أطرافاً ماهرةً وقادرة على نقل ذكائهم لمرحلةٍ أخرى عن طريق صنع المزيد من الأدوات وتوظيف ذكائهم بطريقة تطبيقية.

إذاً .. كم من المحتمل أن تكون الحياة مختلفة على الأرض لو كان البشر يملكون زعانف بدلاً من الأيدي؟ أو يا ترى.. ماذا كانت ستفعل الحيتان لو كانت تمتلك تملك أيدٍ قادرة على صنع الأدوات!

المصدر: هنا