التاريخ وعلم الآثار > تحقيقات ووقائع تاريخية

بتفاصيل مروعة؛ هكذا قضى ضحايا بركان فيزوف

يقعُ جبل فيزوف على الساحل الغربي في إيطاليا، وهو البركان الوحيد النشط على البر الأوروبي حالياً، وقد اشتهر نتيجة ثورانه الكبير عام 79 م الذي دمر مدينتي بومبي*وهركولانيوم* الرومانيتين القديمتين، ولكنه اندلعَ أكثر من خمسين مرة منذ ذلك الحين.

في 24 من شهر آب عام 79 م، انفجر بركان فيزوف، ونتج عنه دمار هائل وتسبب بمقتل آلاف الضحايا.

بدأ ذلك كله على شكل تصاعد للخفافِ والرماد البركاني في الجو وانتقاله مع الرياح وتساقطه على مساحاتٍ واسعة من المناطق المحيطة بالبركان، وقد أسفر انهيارُ الأسقف والأرضيات نتيجة تراكم الخفاف البركاني المتساقط عن أولى الضحايا في مدينة بومبي.

وبعد عدة ساعات، وعلى نحوٍ غير متوقّع، أخذتْ موجاتُ الحمم البركانية تتدفق بسرعةٍ كبيرةٍ جداً أسفل منحدرات جبل فيزوف -والتي تتكون من الرماد البركاني وغازات حارة جداً تتدفق بفعل الجاذبية الأرضية- ولذلك فإنّ السّكانَ المتبقين في مدينة هركولانيوم -وكان يقدر عدد سكانها بما يقارب 4-5 آلاف نسمة ويقدر عدد سكان بومبي بما يقارب الـ 20 ألف نسمة بالإضافة لبعض سكان المناطق المحيطة الذين لم يستطيعوا الفرار في الوقت المناسب- قضوا نحبهم بعد أن غمرتهم موجات الحمم البركانية؛ إذ يُعتقد بأنّ ما يقارب الـ 30000 شخص قد قضى من ثوران البركان في تلك الليلة، يضافُ إلى ذلك أن الأمواج قد ثارت حينها مما حال دون الفرار عن طريق البحر، وحجبت الأبخرة وحجب الدخان ضوءَ النّهار فأظلمت سماءُ المدن المتضررة لمدّة يومين ممّا سبّبَ افتراقَ العائلات عن بعضها بفعل الهلع والظلام.*

في هركولانيوم –المدينة الأقرب للبركان- كان 300 شخص قد لجأوا إلى 12 غرفة على الواجهة البحرية على طول الشاطئ، غمرتهم فجأة الموجة الأولى من الحمم البركانية السريعة، وخلال بضع ساعات، دفنت الحممُ البركانيّة مدنَ هركولانيوم وبومبي وستابيا كاملةً نتيجةَ الموجات اللاحقة من تلك الحمم البركانية التي بلغت سماكةُ رواسبها البركانية حدّاً أقصى يُقدَّرُ بعشرين متراً، ولذلك حفظتْ هذه الرواسبُ المدنَ الرومانيّة القديمةَ وسكانها الذين قضوا بطريقة عجيبة لأكثر من ألفين سنة.

تشيرُ الدّراساتُ إلى أنّ السكانَ الموجودين حتّى مسافة 20 كم من فوهة البركان قد ماتوا على الفور نتيجة الحرارة الشديدةِ المصاحبةِ لهذه الموجات من الرماد البركاني الساخن، وفي هذا السّياق يُقَدّم الباحثون في دراسةٍ حديثةٍ فرضيّةً مثيرةً عن تفاصيلِ آليّة تأثيرها على الضحايا: تبخّر الحرارةُ سوائلَ الجسم، ويؤدي ضغط البخار الناتج إلى انفجار الجمجمة من الداخل.

أجرى علماءُ الآثارِ في مستشفى جامعة فيديريكو الثاني في إيطاليا دراسةً على عظامٍ مأخوذةٍ من 12 غرفةً مملوءةً بالرّماد على الواجهة البحرية في هركولانيوم –وهي واحدةٌ من المدن القريبة من البركان— واكتشفوا بقايا معدنية حمراء وسوداء غريبة على العظام وداخل الجماجم، وتتخللُ تلك البقايا الرّمادَ الموجود حول الهياكل العظمية وداخلها، ووفقاً لنتائجِ التّحاليل فإن تلك البقايا تحوي الحديد وأكاسيد الحديد، وهذا ما سيظهرُ بالضبط عندما يتبخّر الدم بسرعةٍ كبيرة.

ويرى الباحثون أن هذه الدراسة تقدم للمرة الاولى دليلاً تجريبياً مقنعاً يدعم سيناريو التبخر السريع لسوائل الجسم والأنسجة الرخوة لضحايا بركان فيزوف في هركولانيوم عند الوفاة بسبب التعرض للحرارة الشديدة.

وليس من الواضح تماماً كيفية وصول بقايا الحديد هذه، وتجدر الإشارةُ إلى أنّ بعضَها يقعُ بالقرب من قطعٍ معدنيّةٍ، كالعملات النّقدية والخواتم والأغراض الشخصية الأخرى الموجودة بالقرب من البقايا، لكن ليس جميعها، إذ ظهرت بعض البقايا أيضاً على عظامٍ عثر عليها دون وجودِ أشياء معدنيّة قريبة منها، ولهذا السببِ يفترضُ الباحثون أن مصدر الحديد ليس من القطع المعدنية القريبة، وإنما من بقايا الدم بعد تحلله بفعل الحرارة الشديدة للثوران.

في هركولانيوم، كان يفترض لهذه الغرف الشاطئية أن تكون ملجأً لهؤلاء الأشخاص، إلا أنها أصبحت مقبرةً لهم عندما غمرتهم فجأةً الموجةُ الأولى من الحمم البركانية السّريعةِ التّقدم، وتلك الموجة كانت قاتلةً، إذ كانت درجةُ حرارتها مرتفعةً جدّاً، بين الـ 200 و500 درجة مئويةً، وتتقدّمُ بسرعةٍ تُقدَّرُ بينَ 100 و300 كيلومتر في الساعة، ولهذا فإن الناس الموجودين حينها قد ماتوا موتاً مأساوياً على الفور.

عند دراسة الفريق البحثيّ لعددٍ كبيرٍ من الهياكلِ العظمية، لاحظوا أن معظم العظام قد تشققت وتكسرت أيضاً، مع وجودِ حوافٍّ حادّةٍ كتلك التي تظهر على عظام الجثث التي تحرق، وظهرت آثار تفحّم حول مواقع الكسور جميعها دون استثناء، وهذا يدل على التعرض للحرارة الشديدة.

في حين أن الباحثين لم يتمكنوا من الربط الحاسم بين الحديد والسوائل الجسمية، ووجد التحليل أن البقايا المعدنية كانت متوافقة مع سيناريو تعرض الدم للحرارة الشديدة وتبخره، وترسب الحديد الموجود بالدم على العظام.

أما بالنسبة للجماجم، فقد كشفَ الفحص الدقيق للهيكل العظمي للضحايا تشقّقَ قلنسوة الجمجمة* وانفجارها واسْوِدَادَ السّطحِ الخارجيّ والداخلي بالترافقِ مع وجود إفرازاتٍ سوداء من فتحاتِ الجمجمة والعظم المكسور.

ويبدو أنّ هذه التأثيراتِ هي النتيجةُ المشتركة للتعرض المباشر للحرارة الشديدة ممّا قد يذيب النسج الرخوة، ومنن الممكن أن يؤثر عليها بطرق أخرى جزئيا أو كليا، والزيادة في ضغط البخار داخل الجمجمة الناجم عن غليان الدماغ، مع انفجار الجمجمة كنتيجة محتملة، وبعبارة أخرى، فإن موجودات جماجم الضحايا غلتْ فجأة، وسرعانَ ما أنتجت الكثيرَ من البخارِ دون أن يجدَ هذا البخار مكاناً يخرج منه إلا عبر الجمجمة، ومن ثم الموت، كفرضية قويّةِ الاحتمال.

كان ثوران بركان فيزوف الأخير عام 1944، ولا يزال نشطاً حتى اليوم إذ يشكّل خطراً على المدن القريبة منه، خاصةً مدينة نابولي المزدحمة .

الهوامش:

*بومبي وهيركولانيوم: هما مدينتان  إيطاليتان تقعان جنوب شرق نابولي، في القاعدة الجنوبية الشرقية من جبل فيزوف، عُرفتا عن طريق بركان فيزوف الذي أهلكهما وغمرهما بالبقايا البركانية التي ساعدت على حفظهما من عوامل الطقس والتخريب لحين التنقيب عنهما (بومبي لأول مرة عام 1749 م و هيركولانيوم للمرة الأولى عام 1709 م)، أُدرجتا مع بعض المدن المحيطة فيها التي أهلكها البركان وحفظ بقاياها ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي عام 1997م. (المرجع: هنا - هنا - وول ديورانت، قصة الحضارة ، المجلد الثامن عشر ، ص 21)

*الجدير بالذكر أن المؤرخ  الروماني العظيم بليني الأكبر Pliny the Elder.قد توفي في تلك الأثناء وهو يحاول مساعدةَ الناس للهرب من البركان إذ كان وقتها يتولى قيادة أحد الأساطيل البحرية القريبة من المدن المتضررة. (المرجع:  وول ديورانت، قصة الحضارة ، المجلد الثامن عشر ، ص 19 - 20)

*قلنسوة الجمجمة: الجزء العلوي من الجمجمة

المصادر : 

1- هنا

2- هنا

3- هنا