الفيزياء والفلك > علم الفلك

اصطدام نجمين قد يُغيّر من فهمنا للتوسُّع الكوني

تابَع المجتمع العلميُّ بدهشةٍ كبيرةٍ نهاية العام الماضي اصطدامًا عنيفًا بين نجمين نيوترونيّين عملاقين شديدي الكثافة، إذ يبعُد النجمانِ عن أرضنا قرابة 100 سنةٍ ضوئيَّة، وقد نَتج عن الاصطدام أمواجٌ ثقاليَّةٌ عنيفة (تشوُّهاتٌ في نسيج الزمكان)، تلاها وميضٌ لحظيٌّ للضوء، وهذا الوميض الضوئي هو بالذات ما سنتحدث عنه في هذا المقال.

دعونا نُذكِّركم أولًا بالنجم النيوتروني.

النجم النيوتروني هو شكلٌ كثيفٍ من المادَّةِ؛ ينشأ بعد فناءِ نجمٍ عظيمِ الكتلةِ يفوقُ كتلةَ شمسنا بنحو 8 أضعافٍ أو أكثرَ، وذلك عقبَ انفجارٍ هائلٍ يُسمَّى المستعر الأعظم، وما يتبقَّى بعد الانفجارِ نواةُ النجمِ المكونة غالبًا من الحديدِ، والتي تنهارُ على نفسها مُشكِّلةً النجمَ النيوتروني، إذًا لنقلْ إنَّهُ نواةُ نجمٍ عملاقٍ هائلِ الكتلة.

هَدمت عمليةُ رصدِ الأمواجِ الثقالية والوميض الضوئي سنواتٍ من البحثِ المستمر في موضوعٍ لا يتعلَّق بالظاهرتين مباشرةً، بل بسؤالٍ طُرحَ في السنوات الأخيرةِ من القرنِ الماضي: لماذا يتسارعُ تمدُّد الكون؟

يرتبطُ هذا السؤال بأرصادٍ أُجريت عام 1998 بالاستعانةِ بمقرابِ هابل، وجد العلماءُ عبرها أنَّ الكون ينمو ويتوسُّع بتسارع أي؛ أنَّ المجرَّاتِ تتطايرُ مبتعدةً عن بعضها البعضِ بسرعةٍ تزدادُ عامًا بعد آخر، وهو ما ناقضَ فكرةً كانت سائدةً آنذاك تفيدُ بأنَّ توسُّع الكونِ يَتباطؤ، ولتفسير هذا التناقضِ؛ افتُرِضَ وجود طاقةٍ غامضةٍ سُمِّيت الطاقة المظلمة، وعدَّها العلماءُ أنَّها المسؤولة الفعلية عن تسارعِ تمدّدِ الكون.

تَبيَّنَ لنا مع وفرةِ البحوثِ العلميةِ أنَّ كلًا من الزّمان والمكان مرنٌ بدرجةٍ كبيرةٍ وقابلٌ للتغيُّر شرط الحفاظ على ثبات سرعةِ الضّوء؛ إذ أنَّهُ الثابت الوحيدُ وفقًا لإحدى أهمِّ النظريَّات التي اجتاحت علمَ الفيزياءِ في القرن الماضي، وهي النظريَّةُ النسبيَّةُ العامَّة لآينشتاين، والتي أوضحت كيفيَّة تشويه الجاذبيةِ لنسيجِ الزمكان.

ولا تزالُ التأثيرات المُترتِّبةُ على هذا التشوُّه ملحوظةً في أكثرِ البرامجِ تطبيقًا في حياتنا؛ وهو نظامُ تحديد المواقع العالمي (GPS) الموجود في أيِّ هاتفٍ ذكي، ناهيك عن تطبيقاتِه الواسعةِ في مجالاتِ الهندسةِ المدنيَّة.

تَتنبَّؤُ نظريَّة آينشتاين بإمكانيةِ إصدارِ نسيجِ الزمكان أمواجًا مشابهةً للأمواجِ التي تظهرُ على سطحِ الماءِ عند رمي حجارةٍ فيه، ربَّما ليست مرئيَّةً بنفسِ درجةِ أمواجِ الماءِ فهي تحتاج معدَّاتِ رصدٍ عالية الدِّقة، ولكن من الممكن رصدُها عند حدوثِ ظاهرةٍ طبيعيةٍ تولِّد أمواجًا ثقاليَّةً عنيفة، مثل اندماجِ ثقبينِ أسودين مثلًا.

رُصدت هذه الأمواجُ أول مرَّة في مرصدِ ليغو "LIGO" عام 2015 -إن كنتَ من متابعي أخبارِ الفلكِ فربَّما تتذكَّر الضجَّةَ الإعلاميةَ الواسعةَ النطاقِ التي اجتاحتِ المجتمعَ العلمي في تلك الفترة- وقد أتاح هذا الرصدُ للعلماءِ رؤيةً مختلفةً للكونِ، وبالطبع لا ننسى أنَّها قادت أبرزَ علماءِ هذا المرصدِ إلى نيلِ جائزةِ نوبل في الفيزياء.

لمعرفة المزيد عن هذا الإنجاز تصفّح مقالنا السابق: هنا

أثَّر رصدُ الأمواجِ الثقاليَّةِ الناجمةِ عن اندماجِ نجمين نيوترونيّين بدوره على فهمِنا للكون، ولكن ما أثارَ اهتمامَ العلماءِ بالفعل هو وميضُ الضوءِ الصادر بعد رصدِ الأمواجِ الثقاليَّة بـ 1.7 ثانية.

ما نعرفهُ حاليًا

التأخيرُ المُقدَّرُ بنحو 1.7 ثانية مهمٌّ للغاية، لأنَّه يوضِّح أنّ الأمواج الثقاليَّة والأمواجَ الضوئية تنتشرانِ بالسرعة نفسها تقريبًا، وفي الواقع تعدُّ هاتان السرعتانِ من أقربِ القيمِ الظاهرية المرصودةِ على الإطلاق.

لا يزالُ البحث في العديد من الفرضيَّات جاريًا، فلدينا نموذجٌ رياضي يمكنه تفسير تطوُّر الكونِ من جزءٍ من الثانية التي سبقت الانفجارَ العظيمَ حتى الآن أي؛ على مدى أربعة عشر مليارِ سنةٍ، وتكمنُ المعضلةُ الوحيدة في ذلكَ النّموذج؛ أنّهُ يجبُ إضافةُ "الطاقة المظلمة" لتفسير عمليات الرصد، وهي ذات تأثيرٍ عظيمٍ، والتي يُعزى لها أكثرُ من 70% من طاقةِ الكونِ، لكنّنا لا نعرفُ ماهيَّتها، وبسببِ تأثيرِ الطاقةِ المُظلمةِ يبحثُ علماء الفلكِ في تعديل -أو استبدال- نظريّةِ آينشتاين بأخرى تستطيعُ تفسيرَ وجودِ الطاقة المُظلمة، في حين تعتمد بعض الفرضيّاتِ المُقترحة على ربطِ سرعةِ الضوءِ بسرعةِ الأمواجِ الثقالية، ولكن مع قلَّةِ البياناتِ المُتوفِّرةِ لدينا حاليًا فإنَّ إمكانيَّةَ معرفةِ مدى صحَّة تلك الفرضيات أمرٌ صعبٌ للغاية، وبعدَ رصدِ اندماجِ النجمين أصبحَ لدى العلماءِ بعضُ المعلومات المُحدَّدةِ التي تناقض تلك الفرضيات.

ومع غيابِ البياناتِ المُتكاملة؛ تبقى إمكانيةُ تعديلِ نظرية آينشتاين قائمةً، إذ يمكنها حسابُ الطاقةِ المظلمة،و لكنَّ تذبذبَ بياناتِ أمواجِ الثقالية قد يؤخِّر إنجازَ النظريَّة الجديدة.

جميعُ النظريَّات التي صمدت أمام البياناتِ الجديدةِ هي تلك البسيطةُ والبعيدةُ عن التعقيد؛ وعلى رأسها النظريةُ التي تُفيد بأنَّ الطاقة المظلمةَ هي طاقةُ الكونِ الفارغِ، وقيمةُ تلكَ الطاقة هي القيمةُ نفسها التي رصدناها بمحضِ الصدفة.

توجدُ فرضيَّةٌ أخرى صمدت أيضًا، تتعلَّقُ بفرضِ وجودِ حقل هيغز -الذي يُعدُّ بوزونُ هيغزِ الشهير أحدَ مظاهره- وهو أول حقلٍ عدديٍّ رُصدَ في الطبيعة أي؛ أنَّ له قيمةً في كلِّ نقطةٍ على نسيجِ الزمكان لكن دونَ تحديدِ اتجاهات بما يشبهُ إلى حدٍّ ما خريطةَ توزيعِ الضغط في خرائطِ التنبؤات الجويَّة؛ إذ توجد قيمةٌ للضغطِ في كلِّ نقطةٍ دونَ توضيح اتجاهات القيم، في حينِ أنَّ خرائطَ سرعاتِ الرِّياح توضِّح اتجاهاتِ سرعةِ الرِّياح، ومن ثمَّ فهي ليست حقلًا عدديًّا بل اتجاهيٌّ أيضًا.

ترتبطُ كلُّ الجسيماتِ في الطبيعة بحقولٍ كموميَّةٍ -باستثناء جسيمِ هيغز- وهي ليست حقولًا عدديَّةً، لكنَّ هيغز هو الاستثناءُ لتلكَ القاعدة، ومن الممكن أن تماثلَ الطاقة المظلمةُ ذلك الجسيم؛ أي قد تكونُ حقلًا عدديًّا موجودًا في كلِّ مكانٍ يدفعُ الكون بعيدًا في كل الاتجاهات، وفي هذه الحالةِ علينا الانتظارُ إلى أن تُظهرَ لنا التلسكوباتُ القادمةُ بعض البيانات التي تُرجِّح كفَّةَ إحدى النظريَّات، لنحسمَ أمرَ ذلك اللغزِ الكبيرِ الذي يحولُ أمامَ تصوُّرِنا الشامل عن الكون.

المصادر:

1 - هنا

2 - هنا

3 - هنا

مواضيع مرتبطة إضافية:

1 - هنا

2 - هنا

3 - هنا