الرياضيات > الرياضيات

ما الذي يجعل أفلام بيكسار تنبض بالحياة؟

زارَ الأطفالُ متحف مدينة نيويورك للرّياضيات؛ بعضهم مع والديه وبعضهم مع مدرِّسي الرياضيات والعلوم في مدرستهم؛ متحمِّسين للاستماع للمحاضرة التي سيلقيها طوني ديروز Tony DeRose، وهو أحد العلماء في فريق أستديو بيكسار للرّسوم المتحركة. يقول طوني: "من الممتعِ رؤية حشدٍ متنوّعٍ من الناس"، ثم سألهم بعد أن اعتلى المنصة: "من منكم قد شاهد أحد أفلام بيكسار؟"، فرفعَ جميع مَن في الحضور أيديهم. ثمَّ سألهم: "كم فيلمًا شاهدتم؟ ثلاثة؟ خمسة؟"، توقَّف وأردف: "من منكم قد شاهد جميع أفلام بيكسار؟" فرفع عشراتٌ من النَّاس أيديهم، ربَّما قاربَ عددهم ربع الحضور. فقال: "رائع!" وابتسم لنفسه وللحاضرين.

كان عنوان محاضرة طوني "الرّياضيات في الأفلام"، ويعبِّر هذا العنوان عن مهنته، فهو يترجمُ مبادئ الحسابِ والهندسةِ والجبرِ إلى برمجيّاتٍ قادرةٍ على رسم الأشكالِ ودعمِ المُحرِّكاتِ الفيزيائيّةِ. تشبه هذه العمليّةُ الّتي تجري في أستديوهات بيكسار تلكَ العمليّات التي تحدثُ لخلقِ أيِّ رسمٍ حاسوبيٍّ أو لعبةِ فيديو، وكما شرحَ طوني؛ فأحد أسباب كونِه موجودًا معهم في هذه المحاضرة هو لِيشرحَ لهم عن سبب سعي العديد من الرسامينَ العاملين في هذا المجال ومُصمِّمي الألعاب إلى امتلاكِ خلفيّةٍ رياضيّةٍ قويّةٍ. وبوصفه عالمًا يعملُ في أستديوهات بيكسار يمتلكُ طوني خلفيّةً قويّةً في عدَّةِ مجالات؛ فهو حاصلٌ على الدّكتوراه في علوم الحاسوب ومتخصِّصٌ في الفيزياءِ الحاسوبيّةِ، وعمل أستاذًا في علومِ الحاسوبِ والهندسةِ في جامعةِ واشنطن مدّةَ عشر سنوات. ولكنَّهُ موجودٌ أوّلَ مرةٍ في متحف MoMath في مانهاتن ليعطي هذه المحاضرة والتي يُغيِّرُ محتواها كُلَّما تقدَّمت التّكنولوجيا المستخدمة في بيكسار ورغِب الجمهور في الاطلاع على استخدامها في الأفلام الّصادرةِ مؤخرًا.

كل شيء في بيكسار يخضع لمعادلاتٍ رياضيّةٍ وفيزيائيّةٍ كالشَّعرِ والملابسِ والسّوائلِ، حتّى الظّواهر الغازيّة مثل الغيوم والدّخان والنّار، وهذه المحرّكات الرّياضيّة الأساسيّة تُعزَّزُ لاحقاً للحصول على خرجٍ معيّنٍ. يقول طوني: "نمذجة الماء أمرٌ سهلٌ، ولكنَّ الصُّعوبة تكمن في كيفيّةِ توجيه حركته؟"؛ ففي فيلم "Brave" على سبيل المثال؛ تطلَّبت عمليةُ نمذجة شكلِ تلافيف شعر "ميريدا" الكثيف الأحمرِ اللّامعِ بناءَ محرِّكٍ فيزيائيٍّ خاصٍّ بها، فكان على الرسامين في الأستديو أن يجعلوا شعرها جميلًا ومعبّرًا ونابضًا بالحياة، وكان على طوني وفريقه من العلماء أن يصنعوا نموذجًا قادرًا على جعل هذا الرسم ممكنًا من النَّاحية الحسابيّة.

ويقول طوني: "في الحقيقة، يحافظ الشَّعرُ الطَّبيعيُّ على كثافته واهتزازيّته عن طريق الاصطدامِ الدَّائمِ لخصلاتِ الشَّعرِ ببعضها." وأضاف: "يتألَّفُ شعرُ ميريدا من مئةِ ألفِ شعرةٍ، وإن كان لديكم معرفةٌ بالتّوافيق، فستعلمون أنَّه لو كان عندنا  n عنصرًا، فسيكون عندنا n² احتمالاً للتّصادم، أي عشرة ملايين" فكيف يمكننا معالجة هذا العدد من التّصادمات بسرعةٍ كافيةٍ؟ -علينا أن نخلق بنيةً للبيانات المكانيّة تبيدُ التّصادمات الدّخيلة، دون أن نفقد جزءاً كبيراً من المعلومات الأساسيّة. فبدلاً من خوارزميّات الضغط السّريعة والضعيفة كالـ mp3 أو JPEG، تقوم بيكسار بخلق خوارزميّاتٍ أخرى مشابهة لـ PNG أو FLAC من أجل نمذجة حركة الشّعر. وفي كثيرٍ من الأحيان تتعامل الرّسوم المتحرّكة الحاسوبيّة مع نماذج حسابيّة على نطاقٍ أوسع وتفاصيلَ أكثر ممّا يتعاملُ معه الفيزيائيّون في حساباتهم، وجزءٌ كبير من هذا العمل يتطلَّب إيجاد خوارزمياتٍ أفضلَ للوصولٍ إلى تقريبٍ ذكيٍّ بحيث تبدو الحركة طبيعية قدر المستطاع دون التّضحية بالتّفاصيل المُهمّة.

جاءت أهمُّ إسهامات طوني في النَّمذجة الحاسوبيّة بإيجاد طرائق جديدةٍ لتوليد انحناءاتٍ ملساءَ بسرعةٍ حاسوبيّةٍ كبيرةٍ ودقّةٍ متناهية، ويقول عن ذلك: "يتعلّقُ الأمر بتحويل الأشكالِ المعقّدةِ إلى أشكالٍ أخرى من نمطٍ ما يستطيع الحاسوب أن يعالجها." وعلى مدى سنوات؛ عنى ذلك بالنّسبة إلى الرّسومِ الحاسوبيّةِ وألعابِ الفيديو أن يحوِّلوا الأشكالَ الثلاثيّةَ الأبعادِ إلى جوانبَ مستوية أو مضلَّعات، ولكنَّ مشكلةَ المضلّعات هي أنك عندما تمعن النظر فيها فسترى كلَّ مضلع على حِدة وهذا خطأ كبير خصوصًا عندما يعتمد الرّسم على إهمال الإطاراتِ والبيكسلات المنفردة، فكان الحلُّ باستبدالِ هذه المضلّعات بالقطوع المكافئة، وهي سطوحٌ منحنيةٌ تحافظ على كونها مستمرّةً أيّاً كان مستوى الدّقة المطلوب. ولكن لا تزال هناك حاجةٌ لتحديد هذه المنحنيات بسرعة لتقابل عددًا محددًا من النقاط أو السّطوح. ومن أجل ذلك؛ عمل الرّياضيون على تطوير طرائق مختلفةٍ لتوليد سطوحٍ منحنيةٍ ملساءَ بسرعة. وعادةً ما تُسمَّى هذه السّطوح بالسّطوحِ التّقسيميّةِ نسبةً إلى طريقة حسابها بتقسيمها وإيجادِ المتوسّط للنقطة في منتصفِ الخط على نحوٍ متكرّر.   

كانت المرة الأولى التي استُعملت فيها السطوح التقسيميّة على نطاقٍ واسعٍ في الرّسوم الحاسوبيّة في بيكسار هي في الفيلم القصير الحائز على جائزة الأوسكار عام 1997 " Geri’s Game"، وكانت القفزة النّوعيّة التي حصلت بين الطريقة المعتمدة في هذا الفيلم والطّريقة السّابقة للرّسومِ المتحرّكةِ والمعتمِدةِ على المضلّعاتِ مُذهلة جدًّا. فهي ببساطة تبدو أنها من إنتاج بيكسار. واستخدمَ طوني عمله الأكاديميّ والذي يشمل حسابَ المويجات على سطوحٍ متعدّدة الأبعاد لخلق خوارزميّةٍ جديدةٍ لتوليد الانحناءات. وقد استُخدِمت بدايةً لحل المشكلاتِ الشّائكة في عمليةِ رسم الشّخصيات فقط، كالشّكل المعقد لأنف رجلٍ كبيرِ السِّنِّ، أو الاعوجاجات والانكسارات التي تبدو على قطعة ثياب، ولكنها أصبحت الآن تُستخدَم تقريبًا في رسم كل كائن يظهر في أفلام بيكسار. وقد عرض طوني مقطعاً من فيلم "The Incredibles " وأشار إلى الخلفية قائلًا: "لربما سيدهشكم أن تعرفوا أن هذا البناء بما يحتويه من نوافذ وتفاصيل أخرى، قد ولِّدَ باستخدام السّطوح التّقسيميّة." فالبحث التطبيقي الذي أنجزه طوني وعلماء حاسوب آخرين أصبح قاعدةً لصناعة الأفلام برمَّتها.

يستمر طوني وفريق الباحثين في بيكسار بنشر أوراقٍ بحثيّة وتطبيق تكنولوجيا جديدة على المحركات البرمجيّة، ولكن الأستوديو لا يحتكر الصدارة في البحث والتطوير أو يحتكر البرمجيات التي يستخدمها كما كان في السّابق، فالتحكُّمُ بالإضاءةِ والظّلال أو تحديد الباراميترات لشخصية تتحرَّكُ كالدُّمى كان تحديًا كبيرًا رياضيًّا وبرمجيًّا. أمّا الآن؛ وكما يقول طوني؛ فالبرمجيات المفتوحةُ المصدرِ مثل Blender تستطيع أن تفعل كل ما تفعله برمجيات بيكسار. ومؤخّرًا نشرت بيكسار المكتبة البرمجية التي تستخدمها لبرمجة السطوح التقسيميّة لتكون مفتوحةَ المصدر ومتاحةً للجميع. ويقول طوني عن ذلك: "لقد امتلكنا ميزة تنافسيّة طيلة عشر سنوات، ولكنَّ إتاحة المشاركة للجميع في هذا الوقت سيعود علينا بفائدة أكبر"

أما الآن فإن المجال التّنافسيَّ الأكبر الذي تملكه بيكسار ليس بقدرتها على استخدام هذه التكنولوجيا المُقادة بالرّياضيات لرسم الأشكال بطريقة أفضل فحسب، وإنما بأسلوبها في روايةِ القصص أيضًا. فلا يَعدُّ طوني وبيكسار أنفسَهم متربعين على عرش العظمة، ويختتم طوني المحاضرة بقوله للأطفال الحاضرين: "قد يكون هناك في مكان ما طفلٌ ذكيٌّ مع أصدقائه يستخدمون ويحسّنونَ أدواتٍ مثل Blender، وهؤلاء الأطفال هم من سيقود عالم النمذجة الحاسوبيّة ويحتلون مكان بيكسار يومًا ما."

المصدر:

هنا