الرياضيات > الرياضيات

هل يمكنك تخمين العدد الأكبر؟ الجزء 5

لنفترض أنّنا نستطيع أن نمنح آلة تورنڠ قدرةً سحريّةً تمكّنها من حلّ مسألة التّوقّف؛ سيجعلها ذلك آلةَ تورنڠ خارقةً لا مثيل لها. لكنّ السّؤال الّذي يطرح نفسه هنا: كم هي صعبةٌ معرفةُ ما إذا كانتِ الآلةُ الخارقةُ ستتوقّف؟ في الواقع لقد اتّضح لنا أنّ الآلاتِ الخارقةَ حتّى لن تستطيع حلّ مسألة التّوقّف الخارقة هذه، وذلك للسّبب نفسه الّذي لا تستطيع الآلاتُ العاديّةُ حلَّ مسألة التّوقّف العاديّة لأجْله. فلِحلّ مسألة توقّف الآلات الخارقة، نحتاج إلى آلةٍ أقوى: آلةٍ خارقةٍ ومخادعةٍ، ولحلّ مسألة توقّف هذه الآلة الخارقة المخادعة، نحتاج إلى آلةٍ خارقةٍ مخادعةٍ عظيمةٍ، وهكذا إلى ما لا نهايةَ. هذا التّسلسلُ الهرميُّ اللّانهائيُّ لآلاتٍ كلٌّ منها أقوى من سابقتها صاغه المنطقيّ ستيڤن كلين Stephen Kleene عام 1943 علمًا بأنّه لم يستخدم أيًّا من الصّفتَين خارقةٍ ومخادعةٍ.

لنتخيّل مثلًا روايةً كُتِبتْ ضمن روايةٍ أطولَ، وتلك الرّواية الأطول ضُمِّنت في روايةٍ أطولَ منها وهكذا إلى ما لا نهاية. وكما أنّ الشّخصيّات في كلّ روايةٍ تستطيع مناقشة المزايا الأدبيّةَ لأيٍّ من الرّوايات الفرعيّة دون أن تستطيع مناقشة روايتِها نفسِها، لا تستطيع الآلاتُ الّتي هي من الفئة نفسِها تحليلَ بعضِها، بكلماتٍ أخرى: لفهم الواقع فهمًا أفضلَ يجب الخروجُ منه ودراستُه من خارجه، وهذا أساسُ هرم كلين: لحلّ مسألة توقّف بعضٍ من الآلات، نحتاج إلى آلاتٍ أقوى منها.

ولا مخرجَ من هذه الحلقة المُفْرَغة: لنفترض أنّ لآلة تورنڠ ما قدرةٌ سحريّةٌ تمكّنها من حلّ مسألة التّوقّف، ومسألة التّوقّف الخارقة، ومسألة التّوقّف الخارقة الكبيرة، وهكذا إلى ما لا نهاية. كانت لتكونَ - دون أدنى شكٍّ - ملكة آلات تورنڠ لو لم نكن نحتاج إلى آلة تورنڠ أقوى منها كي نقرّر ما إذا كانت هذه الآلة ستتوقّف، وهكذا يستمرّ تسلسل كلين الهرمي.

لكن ما علاقة هذا كلّه بالأعداد الكبيرة؟ حسناً، يولِّد كلّ مستوىً من هرم كلين متاليةَ أعدادِ قنادسَ منشغلةٍ أكبرَ من الّتي يولّدها سابقه، أيْ تتزياد تزايدًا أسرعَ ولا يمكن عدُّه إلّا ضمن مستوىً أعلى. فعلى سبيل المثال، لنعرّف    بأنّه أكبر عددٍ من الخطوات الّتي تجريها آلةُ تورنڠ خارقةٌ ذاتُ N قانونًا قبل أن تتوقّف، لو كانت الآلات الخارقة قادرةً على حساب متتالية القنادس المنشغلة هذه لأمكَن لهذه الآلات أن تحلّ مسألة التّوقّف الكبيرة، الأمر الّذي نعلم استحالته، إذًا فأعداد القنادس المنشغلة السّريعة تتزايد تزايدًا سريعًا لا يمكن عدُّه حتّى إن كان بمقدورنا حساب أعداد القنادس المنشغلة العاديّة.

قد يعتقد أحدهم أنّه يستطيع هزمَ خصمه في مسابقة العدد الأكبر بكتابة شيءٍ من قبيل ، وذلك حتّى إنِ استخدم خصمُه متتالية القنادس المنشغلة، لكنّه سيكون مخطئًا. المشكلة هنا أنّنا لم نرَ أبدًا تعريف هذا المستوى المرتفعِ من أعداد القنادس المنشغلة في أيّ مكانٍ، قد يكون السّبب أنّه حتّى الأشخاص الّذين يعرفون نظريّة الحوسبة قد لا يكونون على درايةٍ بأعداد القنادس المنشغلة، فما بالكم بامتدادها؟! وبذلك فحتّى طرائقنا الرّياضيّة الحاليّة لن تستطيع تعريف العدد الّذي يقصده، لكنْ إن كان يريد استخدام أعداد القنادس المنشغلة الأعلى ولا بدّ، فأقترح عليه أن ينشرَ في مجلّةٍ علميّةٍ غير معروفةٍ ورقةً بحثيّةً تضفي على المفهوم طابعًا رسميًّا مع شيءٍ من الغموض، ويُدرِجَ الورقة في فهرسه، ويستشهدَ بها في المسابقة.

وكَي نتجاوزَ أعداد القنادس المنشغلة الأعلى نحتاج إلى نمذجةٍ حسابيّةٍ تفوق آلة تورنڠ. ورغمَ أنّني لا أستطيع تخيّل كيف قد يكون شكل هذا النّموذج بعدُ، أظنّ أنّ حكاية الأنظمة التّرميزيّة من أجل الأعداد الكبيرة لم تنتهِ. قد يستطيع البشر يومًا ما تحديد أعدادٍ يبدو القندس المنشغل التّاسع والتّسعون طفوليًّا مقارنةً بها. وإن لم نستطع تسمية هذه الأعداد، قد تستطيع حضاراتٌ أخرى فعلَ ذلك، فمن قال إنّ هذه المسابقة منحصرةٌ في مجرّتنا؟!

لكن لمَ لا نتجاوز تلك الأنظمة كلّها ونعيّن أعدادًا بأنظمةٍ تشمل وتتجاوز كلّ ما سبق؟ لنفترض أنّنا كتبنا في مسابقة العدد الأكبر التّعبير (أكبر عددٍ صحيحٍ يمكن تعيينه بنصٍّ إنكليزيٍّ من ألف حرفٍ)، هذا العدد موجودٌ بالتّأكيد، فباستخدام ألف حرفٍ نستطيع تسمية أعدادٍ محدودةٍ فقط، ولا بدّ أنّ أحدها سيكون أكبر من بقيّتها.  لكن مع ذلك لا نكون قد أشرنا إلى كيفيّة تعيين العدد، إذ يمكن للنّصّ الإنكليزيّ أن يستدعي أعداد آكرمن، أو أعداد القنادس المنشغلة، أو أعداد القنادس المشغولة الأعلى، أو حتّى غيرها من المفاهيم الأشمل الّتي لم يفكّر بها أحدٌ من قبلُ. ما لم يستخدم منافسنا الحيلة نفسها سنهزمه، أليست فكرةً رائعةً إذًا؟ لمَ لم نجرّبها حتّى الآن؟ لأنّها - مع الأسف - لن تنجحَ، فقد يكتب منافسنا أيضًا (أكبر عددٍ صحيحٍ يمكن تعيينه بنصٍّ إنكليزيٍّ من ألف حرفٍ مضافًا إليه واحدٌ)، يتطلّب تعيين هذا العدد ألفَ حرفٍ وحرفًا على الأقلّ، لكنّنا عيّنّاه بالفعل توًّا باستخدام أقلَّ من 80 حرفًا! سيتلاشى عددنا العملاق في حلقةٍ من التّناقض كالأفعى تعضّ ذيلها وتبتلع نفسها. إلامَ يؤدّي هذا؟  

هذه المفارقة نشرها برتراند راسل Bertrand Russell ناسبًا إيّاها إلى أمين مكتبةٍ اسمه جي جي بيري G. G. Berry. لم تنشأ مفارقة بيري من الرّياضيّات، بل من الغموض الكامن في اللّغة الإنكليزيّة، إذ لا طريقةَ مؤكَّدةً لتحويل عبارةٍ إنكليزيّةٍ إلى العدد الّذي تعيّنه، ولا لتحديد ما إذا كانت أصلًا تُعيِّن عددًا ما، ولهذا ضمّنتُ (رياضيٌّ عقلانيٌّ معاصرٌ) في قواعد المسابقة. للتّحايل على مفارقة بيري علينا تعيين عددٍ باستخدام نظامٍ رياضيٍّ ترميزيٍّ محدّدٍ مثلِ آلة تورنڠ، وهذه تمامًا الفكرةُ وراء متتالية القنادس المنشغلة. إذًا وبالمختصر: لا خدعةَ لغويّةً تمكّننا من تجاوز أرخميدسَ وآكرمن وتورنڠ ورادو؛ لا طريقَ مَلَكِيّةً إلى الأعداد الكبيرة.

وهنا نأتي إلى تساؤلنا في بداية هذا المقال، لمَ لم نستخدمِ اللّانهاية حتّى الآن؟ لأنّنا لا نستطيع استخدام سيّارةٍ صاروخيّةٍ في سباق الدّرّاجات الهوائيّة؛ اللّانهاية مذهلةٌ وبديعةٌ لكنّها ليست عددًا صحيحًا، ولا يُمكننا الحصول على عددٍ صحيحٍ بطرح عددٍ صحيحٍ منها، فحاصل طرح 17 منها يساوي اللّانهاية نفسها، لكنّ طرح اللّانهاية من اللّانهاية غير معرَّفٍ، فقد يكون 0 أو 38 أو حتّى الّلانهاية مرّةً أخرى. في الواقع علينا أن نقول اللّانهايات بالجمع بدلًا من الإفراد، ففي أواخر القرن التّاسعَ عشرَ أثبت جورج كانتور Georg Cantor أنّ للّانهاية مستوياتٍ مختلفةً، فعلى سبيل المثال: لانهايةُ نقاطِ مستقيمٍ أكبرُ من لانهايةِ الأعداد الصّحيحة. بل وكما أنّه لا وجودَ لما يُدعى العددَ الأكبر،  لا وجودَ للّانهاية الأكبر. لكنّ رحلة البحث عن اللّانهايات الكبيرة أعسر على الفهم من رحلة البحث عن الأعداد الكبيرة، ولا ينطوي على نماذجَ متلاحقةٍ، بل ينطوي على نموذجٍ جوهريٍّ واحدٍ: نموذج كانتور.

المصادر:

هنا