الاقتصاد والعلوم الإدارية > اقتصاد

الانحياز التأكيدي Confirmation Bias

ازداد اهتمام الباحثين في العقود الأخيرة بالاقتصاد السلوكي وقدرته على تفسير كثيرٍ من تصرفات الأفراد غير العقلانية والمنافية للمنطق في العديد من الحالات، إذ طالَما افترضَت النظرياتُ والنماذجُ الاقتصادية أنّ الأفرادَ هم أشخاصٌ عقلانيون دائمًا؛ لكنَّ هذا الأمر قد يبدو غير واقعي. وفي إشارةٍ إلى هذا الاهتمام المتزايد في مجال الاقتصاد السلوكي؛ لابد من التذكير بأن جائزة "نوبل" في العلوم الاقتصادية قد مُنحت مؤخرًا في عام 2017 للاقتصادي (ريتشارد ثالر)؛ كما مُنحت سابقًا للاقتصادي (دانيل كانيمان) في عام 2002، وذلك لإسهاماتهما في هذا المجال.

ونحن بطبيعتنا الإنسانية معرَّضون دائمًا للوقوع في فخ الانحيازات المعرفية (الإدراكية) Cognitive Biases، وهي أخطاءٌ منهجيةٌ في إطلاق الأحكام أو في عملية اتخاذ القرارات؛ ثُمَّ إنَّها شائعةٌ لدى جميع الأفراد، وتؤدي بالنتيجة إلى إظهار سلوكٍ غير عقلاني أو غير منطقي.

لعلًّ أحد أهم هذه الانحيازات المعرفية هو الانحياز التأكيدي Confirmation Bias؛ وهو -كما في تعريف (نيكرسن) Nickerson عام 1998- عمليةُ تقصّي الدلائل أو المعلومات وتفسيرها بطريقةٍ تؤكَّدُ بها المعتقداتُ الموجودة مُسبقًا لدى الفرد، أو توقعاتُه، أو افتراضاتُه عن أمرٍ ما، وذلك بغضّ النظر عن عدم وجود دلائلَ واضحةٍ تدعم هذه المعتقدات، بل سيكون لديه ثقةٌ مفرطةٌ برأيه في هذه المعتقدات أو الفرضيات التي يتبنَّاها؛ لأنّه في كثيرٍ من الأحيان سيتجاهل الدلائل الأخرى التي تدحضُ فرضياته (Disconfirming Evidences).

أمثلةٌ عن حالاتٍ يمكن فيها ملاحظة تأثير الانحياز التأكيدي:

قد يدفعك حبُّك الكبير لفريقك الرياضي المفضّل إلى رفضِ معظم الآراء التي لا تتفق مع رأيك في أداءِ لاعبٍ معينٍ، أو في حالةٍ تحكيميّةٍ معينة؛ إضافةً إلى المَيل لتذكر الوقائع التي حقق فيها فريقك المفضّل انتصارًا ما؛ وتجنُّبِ تذكر اللحظات المحرجة له.

بعد إصدار أحكامٍ مسبقةٍ عن شخصٍ ما والتمسُّك بها بناءً على خلفيته التعليمية أو الدينية، أو حتى بناءً على المدينة التي ينحدر منها، أو بناءً على معلوماتٍ مغلوطةٍ قدَّمها لكَ صديقك، تُركِّزُ على المؤشرات التي يُظهرها هذا الشخص، والتي تؤكّد أحكامك المسبقة؛ وذلك بالتزامن مع تجاهل الدلائل الأخرى التي تنفي هذه الأحكام.

البحثُ عن دلائل تدعم رأيك السياسي وتجاهلُ الدلائل الأخرى التي تدحض هذا الرأي؛ إضافةً إلى تفسيرِ الأخبار الجديدة بطريقة منحازة. فعلى سبيل المثال؛ يحتدم الجدل في الولايات المتّحدة الأمريكية في تقييد إمكانية الحصول على الأسلحة الفردية، فبعد وقوع حوادث إطلاق نارٍ عشوائي في بعض المدارس؛ فسَّرَ الأشخاص الذّين يدعون إلى تشديد قوانين الحد من الأسلحة هذه الأخبار على أنها نتيجة السياسة الخاطئة بالسماح للمواطنين بشراء الأسلحة، في حين يفسرها المدافعون عن حقوق امتلاك الأسلحة بأنَّها حالاتٌ نادرةٌ نتيجة اضطرابات نفسية لدى هؤلاء المجرمين؛ وأنَّ امتلاك هذه الأسلحة هو حقٌّ دستوري، مما يؤدي بالنتيجة إلى تفسيرَين مختلفين للخبر نفسه.

متابعةُ وسائل الإعلام التي تؤكِّد آرائك المسبقة، وتجاهل وسائل الإعلام الأخرى.

تجاهل دلائلَ تنفي صحة بعض المعتقدات الدينية، والتركيز على الدلائل التي تؤكد هذه المعتقدات بغض النظر عن مدى دقتها.

قد يتبادر إلى ذهن القارئ العديد من الأمثلة الأخرى عن تأثير هذا الانحياز، ولابد من الإشارة مرةً أخرى إلى أنَّ الانحياز التأكيدي لا يحدث عند تفسير المعلومات فحسب، إنَّما يحدث أيضًا في أثناء البحث عن هذه المعلومات وتقصّيها؛ فقد يصرُّ الفردُ على صحة معتقداته حتّى بعد إثبات عدم صحة الدلائل التي يستند إليها في تبني هذه المعتقدات، وهنا يُظهِرُ الفرد انحيازًا معرفيًّا شبيهًا بالانحياز التأكيدي يُسمَّى الإصرار على المعتقدات Belief Perseverance.

وفي عالم الاستثمار؛ يؤثّر الانحياز التأكيدي -كونه أحدَ أنواع الانحيازات المعرفية- في عمليةِ اتخاذ القرارات لدى الأفراد، لذلك درسَ العديدُ من الباحثين أثره في قرارات المستثمرين والمديرين لكونِ عمليةِ اتخاذ القرارات تلازمهم باستمرار، وبيّنت العديد من الدراسات إمكانيةَ تأثُّر هؤلاء بالانحياز التأكيدي من خلال الثقة الزائدة بالنفس لدى المستثمرين، وعلى سبيل المثال؛ عندما يتعلق الأمر بأداء سهمٍ معين يثق المستثمر به؛ فيتجاهلُ المؤشِّرات التي تدلُّ على سوء أداء هذا السهم؛ فضلاً عن جمع المعلومات التي تؤكد آرائه المسبقة فقط؛ مما يزيد من تفاؤلِه، ويعطيه ثقةً مفرطةً تؤدي بالنتيجة إلى استثمارات غير ناجحة. وفي مثالٍ آخر؛ عند إدارة مشروعٍ ما، يمكن لمدير المشروع أن يكون متمسكًا إلى حدٍ كبيرٍ بآرائه الشخصية؛ مما يدفعه إلى قبول الآراء التي تتفق مع رأيه في موضوع معين؛ ومن ثمَّ تجاهل آراء مرؤوسيه الآخرين والتي قد تكون محقة؛ مما قد يؤدي إلى فشل المشروع.

 

يشعر الفرد في أغلب الأحيان بأنَّه على حق في مختلف القضايا، ممَّا يجعله عرضةً للانحياز التأكيدي باستمرار، ويعتقد (نيكرسن) أنَّ هذا الانحياز قد يكون مسؤولًا عن جزءٍ كبيرٍ من الخلافات بين الأفراد والجماعات والدول، ويمكن تجنُّبُ هذا الانحياز المعرفي عن طريق أخذ وجهات النظر المختلفة بالحسبان، والابتعاد عن إطلاق الأحكام المسبقة؛ إضافةً إلى البحث الجاد عن دلائل تدعمُ وجهاتِ النظر الأخرى وليس البحث عن الدلائل التي تؤكد وجهات نظركِ شخصيًّا فقط.

المصادر:

Kosnik، L. D. (2008). Refusing to budge: a confirmatory bias in decision making?. In: Mind & Society، 7(2)، 194.

Nickerson، R. S. (1998). Confirmation bias: A ubiquitous phenomenon in many guises. Review of general psychology، 2(2)، 175.

Rabin، M.، & Schrag، J. L. (1999). First impressions matter: A model of confirmatory bias. The Quarterly Journal of Economics، 114(1)، 37-38.

هنا