الاقتصاد والعلوم الإدارية > اقتصاد

اقتصاد التجربة

أهلاً بكم جميعاً! إنه اقتصاد التجربة.

كيفَ تتغير الاقتصادات؟ يمكن تلخيص التاريخ الكامل للتطور الاقتصادي الذي مرّ بأربع مراحل (السلع، البضاعة، الخدمات، الخبرة أو الاستعانة بشركة تنظم وتوصِل) عبر تمثيله بتطور كعكة عيد الميلاد بوصفها بقايا للاقتصاد الزراعي، فقد أنتجت الأمهات كعك عيد الميلاد من الصفر، عبر خلط السلع الزراعية (الدقيق والسكر والزبدة والبيض) التي تكلف معًا الدايمات (مبلغ ضئيل من المال) . ومع تقدُّمِ الاقتصاد الصناعي القائم على السلع، دفعت الأمهات دولاراً أو اثنين إلى (بيتي كروكر) للحصول على هذه المكونات الأساسية والمخلوطة سابقاً. وفي وقتٍ لاحقٍ؛ ومع تقدم اقتصاد الخدمات؛ بدأ الآباء بطلب الكعك الجاهز من المخبز أو محل البقالة، وذلك لقاء مبلغٍ لا يتجاوز عشرة دولاراتٍ أو خمسة عشر دولاراً، وهذه التكلفة تبلغ قرابةَ عشرة أضعاف كلفة المكونات المُعبَّأة. وفي زمنٍ مجنونٍ كالتسعينيَّات؛ كان الآباء يُلغون حفل عيد الميلاد إن لم يتمكنوا من صنع الكعكة، في حين أنّهم الآن مستعدون لإنفاق مئة دولارٍ على الأقل من أجل الاستعانة بـ "مُورِّدين خارجيين" من أجل إقامة حفلة عيد ميلادٍ لا ينساها أبناؤهم مثل (Chuck E. Cheese’s, the Discovery Zone, Mining Company)، وهذه الشركات من شأنها أن تنظم حفلة عيد ميلادٍ كاملةً، وتقدّم كعكة عيد الميلاد مجاناً. ونستطيع القول أنَّ هذا ببساطة هو اقتصاد التجربة الصاعد.. فأهلاً بالجميع.

وقد كانت للاقتصاديين تجاربُ عشوائيةٌ في مجال الخدمات، في حينِ تبدو التجارب عرضاً اقتصادياً مختلفاً عن ذاك الذي تقدمه الخدمات، والتي يُنظَرُ إليها بوصفها خدماتٍ مرافقة للسلع. واليوم؛ بات بالإمكان تحديدُ وصف أفضل لهذا العرض الاقتصادي الرابع أو المرحلة الرابعة من التطور الاقتصادي، لأنَّ المستهلكين أصبحوا يرغبون -بلا شك- بمزيد من التجارب، فازدادت أعداد الشركات المتفاعلة مع رغباتهم تلك عبر تعزيز هذه التجارب صراحةً،  وفضلًا عن ذلك؛ أصبحت الخدمات وعلى نحو متزايد سلعةً بحدّ ذاتها، مثل السلع المعروضة التي كانت تُقدَّم معها؛ مثلاً؛ خدمات التخابر الهاتفي عبر المسافات البعيدة والتي تُحدَّدُ أسعارها وفقاً للتجارب؛ إذ ظهرت كخطوةٍ تاليةٍ في ما نسميه تطور القيمة الاقتصادية (انظر الشكل المرافق للمقال عن "تقدم القيمة الاقتصادية"). من الآن فصاعداً؛ سوف تجد الشركات الرائدة -سواء كانت تبيع للمستهلكين أو للشركات- أن معركتها التنافسية القادمة تكمن في تنظيم التجارب.

 

تطور القيمة الاقتصادية:

ليست التجربة بناءً غير متبلور، بل هي عرضٌ حقيقي كتقديم أيّةِ خدمةٍ أو سلعةٍ أو منتج، وفي اقتصاد الخدمات اليوم؛ تحاول العديد من الشركات تضمينَ التجارب مع عروضها التقليدية لبيعها على نحوٍ أفضل، ولتحقيقِ الاستفادة الكاملة من تنظيم التجارب. ومع ذلك؛ يجب على الشركات أن تصمم وعن قصدٍ مجموعةً من التجارب الجديدة التي يمكن أن تتقاضى لقاءها رسوماً. ولن يكونَ هذا التحول من بيع الخدمات لبيع التجارب أمراً سهلاً للشركات القائمة، لاسيما بعد التحول الاقتصادي الكبير من الصناعة إلى اقتصاد الخدمات؛ وهذا يعني أن الشركات التي لا ترغب بالتحول إلى مجرد سلعةٍ لابد لها من أن تنجزَ ترقيةً سريعةٍ لعروضها إلى مراحلَ متقدمةٍ من القيمة الاقتصادية. ولا يتمثَّلُ السؤالُ القائم فيما إذا كانَ يجبُ على الشركات التي تعمل الآن أن تدخلَ في اقتصاد التجربة أم لا؟ بل يبقى السؤال هو: كيف ومتى يحدثُ ذلك؟. ولاحقاً  في هذا المقال سيكون هناك نظرةٌ مفصّلةٌ إلى خصائص التجارب ومبادىء تصميمها وكيف يمكن للشركات أن تجيب عن هذا السؤال.

بناء التجارب التي تحقّق مبيعات!

لابد أن نقدّر الفرق بين الخدمات والخبرات جيداً، وهنا نتذكّر حلقةً من برنامجٍ تلفزيوني قديم بعنوان "تاكسي"؛ إذ قرّر (إيجي) -وهو سائق سيارة أجرة- أن يصبحَ أفضل سائق سيارة أجرة في العالم، فكان يقدّم الشطائر والمشروبات، ويتجوّلُ مرّاتٍ ومرّاتٍ في المدينة على إيقاع أغاني (فرانك سيناترا)، فتحوَّلت تجربةُ ركوب سيارة أجرة عادية إلى حدث لا يُنسَى؛ إذ خلق (إيجي) شيئاً آخر تماماً؛ أي عرضاً اقتصادياً متميزاً، وكانت تجربةُ ركوب سيارة الأجرة خاصته أكثرَ قيمةً لعملائه من الخدمة الأساسية التي تقدمها سيارات الاًجرة العادية، وفي البرنامج التلفزيوني كان (إيجي) يستجيب بسعادة للزبائن، ويقدّم لهم النصائح الأفضل. وقد كان بعضهم يطلبُ من (إيجي) الذهاب إلى الأماكن نفسها والإطالة في الطريق بهدف التمتع بالتجربة معه،  فالخدمة الجديدة التي قدمها (إيجي) من خلال سيارة الأجرة كانت مرحلةَ تطور للتجربة التي حقّقت له مبيعاتٍ أفضل لاحقاً.

 

تتكوّن التجربة عندما تستخدم الشركة عمداً الخدماتِ كمرحلة، والسلعَ كدعائم؛ لإشراكِ العملاء الأفراد بطريقةٍ تخلق حدثاً لا يُنسَى. وغالبًا ما تكونُ السلعُ قابلةً للتبديل، في حين تمثّلُ السلعُ الملموسةُ والخدماتُ غيرُ الملموسة تجاربَ لا تُنسَى. (انظر الرسم البياني المرافق للمقالة عن "الفروق الاقتصادية").

 

ويقدّرُ مشترو الخبرات كثيراً ما تقدمه لهم الشركات خلال فترةٍ زمنيةٍ معينة، وهم يبحثون عن تجربةٍ مماثلةٍ لتلك التي تقدمها شركة "والت ديزني"؛ وهي عملاق اقتصاد التجارب لعملائها الذين تدعوهم جميعاً بالضيوف. وفي الوقت الذي كانت فيه العروض الاقتصادية فيما مضى تعتمد على السلع والمنتجات التي تُعَدُّ جميعُها شيئاً خارجياً للمشترين؛ فإن التجارب تقدم أمورا شخصية عميقةً تتموضع في ذهن الزبائن وتتصل مباشرة بتجاربهم الفيزيائية والمعنوية والعاطفية مع المُنتَج. وفي حالِ إمكانية تشابه المنتجات؛ فإنَّه لا يمكن أن تتشابه أبداً التجاربُ التي تختلف من زبونٍ إلى آخر، وتبدو كأنَّها حالة تفاعل -مشهد مسرحي- ما بين حادثةٍ معينةٍ وعقل الزبون نفسه.  

المميزات الاقتصادية:

لطالما كمنت الخبرات دائماً في قلب الأعمال الترفيهية، وهناك حقيقة مفادها أن (والت ديزني) والشركة التي أسسها اعتمدت على الإبداع، ولكن في يومنا هذا؛ يتجذر مفهوم بيع تجربةٍ ترفيهيةٍ في الشركات البعيدة عن المسارح والمنتزهات، وتُشجِّعُ التكنولوجيا الحديثة -على وجه الخصوص- أنواعاً جديدةً كاملةً من الخبرة؛ مثل الألعاب التفاعلية، وغُرفِ الدردشة على الإنترنت، والألعاب المتعددة اللاعبين، والمحاكاة القائمة على الحركة والواقع الافتراضي. وإنَّ قوةَ المُعالَجةِ المتزايدة المطلوبة لتقديمِ تجاربَ أكثر قوة من أيِّ وقتٍ مضى تدفعُ الآن الطلب على السلع والخدمات في الصناعة الحاسوبية، وقال رئيسُ شركة "إنتل" (أندرو غروف) في خطابٍ ألقاه في معرض "كومديكس" التجاري في مجال الحاسوب في نوفمبر/ تشرين الثاني 1996: "نحن بحاجةٍ إلى النظر إلى أعمالنا أكثرَ من مجرد بناءِ أجهزة الحاسوب الشخصية وبيعها، فعملنا هو تقديم المعلومات والخبرات التفاعلية النابضة بالحياة".

انتشار مفهوم بيع التجارب خارج شركات الترفيه:

في المطاعم ذات الطابع الخاص مثل مقاهي "هارد روك، بلانيت هوليوود، أو بيت بلوز"؛ يكون الطعامُ مجرد دعامةٍ لِما يُعرَف باسم الترفيه. وإنَّ مخازنَ مثل "نيكيتون، كابيلا، ريكريتيونال إكيبمنت إنكوربوراتد" تجذبُ المستهلكين بتقديمِ الأنشطة الترفيهية، والعروض الرائعة، والأحداث الترويجية. وهو ما يُسمَّى "إنتيرتايلينغ" أو التسوق المسلّي.

 

لكنَّ التجاربَ لا تقتصرُ على الترفيه، فالشركاتُ تبني التجارب بحيث يُشرَكُ العملاء بطريقة شخصية لا تُنسى. وفي قطاع السفر؛ أشار السير (كولين مارشال) -رئيس شركة الخطوط الجوية البريطانية السابق- إلى أن مجموعة السلع الأساسية هي التفكير في أنَّ الأعمال التجارية تؤدي وظيفة في حالتنا فقط؛ إذ تنقل الأشخاصَ من النقطة ألف إلى النقطة باء في الوقت المحدد، وبأقل سعر ممكن. ووفقاً لِما ذكره السير (كولين)؛ فإنَّ ما تفعله الخطوطُ الجوية البريطانية هو تجاوز الوظيفة والتنافس على أساس تقديم تجربة. (انظر" التنافس على خدمة العملاء: مقابلة مع السير " كولين مارشال، "في نوفمبر-ديسمبر 1995). وتستخدمُ الشركة خدمتَها الأساسية -السفر نفسه- بوصفها مرحلةً لتجربةٍ مميزةٍ في الطريق، وتحاول تحويل السفر الجوي من تجربةٍ صعبة ومربكة ومحمومة إلى تجربة مريحة.

التجاربُ لا تقتصر على الصناعات الاستهلاكية فقط، بل تشمل قطاعات الأعمال التي تتعامل مع الناس العاديين والأعمال، وتحرص على بناء تجاربها أيضاً. فعلى سبيل المثال؛ إنَّ شركةَ "مينابوليس" لخدمات التركيب والتصليح الحاسوبي تُطلَق على نفسها اسم "غيك سكواد"، ويرتدي وكلاؤها زيّاً يميزهم، وهو عبارة عن قمصان بيضاء مع ربطات عنق سوداء رقيقة، ويضعون  حقائب جيب خاصة، وشاراتٍ تحمل أسماءهم، كما يقودون السيارات القديمة، فيحوّلون خدماتهم إلى تجارب لا تُنسَى بالنسبةِ إلى المتعاملين معهم. وبالمثل؛ تؤجّر العديد من الشركات فِرقًا مسرحية مثل المدربين المقيمين في "سانت لويس" وفرق الموسيقى العالمية، من أجل تغيير الاجتماعات التقليدية بإضافة ما يُسمَّى بفعالية التآزر من خلال رقص "السامبا"، التي من شأنها أن تحفّز التفكير والإبداع.

ويؤدّي مسوّقو أعمال-أعمال* على نحو متزايد إلى خلق أماكن جديدة تُعَدُّ مراكز جذبٍ، على غرار ما تفعله "ديزني" لبيع سلعها وخدماتها، وفي حزيران / يونيو 1996؛ افتتحت شركة "سيليكون غرافيكس" -على سبيل المثال- مركزَ "فيسيونار-إيوم ريالتي" في مقر الشركة في "ماونتن فيو" في ولاية "كاليفورنيا"؛ بهدف الجمع بين العملاء والمهندسين معاً في بيئة يمكن أن يتفاعلوا فيها مع تصورات المنتجات الثلاثيةِ الأبعاد في الزمن الحقيقي، فيمكن للعملاءِ العرضُ، والسماع، واللمس، وكذلك التحرك، والمشي، أو حتى الطيران من خلال إمكانيات المُنتَج التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى، وقال رئيسُ مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي (إدوارد ماكراكن): "هذه هي الحوسبة التجريبية في نهاية المطاف، إذ يمكن لعملائنا أن يعرفوا ما سوف تبدو عليه مُنتجاتهم قبل التصنيع".

ما تدفعه يتحدث عنك تماماً!

ومع ذلك؛ تجدر الإشارة إلى أنه في الوقت الذي تمر فيه هذه الشركات جميعها بتجارب متعددة، فإنَّ معظمها لا تزال تتقاضى رسوماً على سلعها وخدماتها، وتنتقل الشركات عموماً من مرحلةٍ اقتصاديةٍ إلى مرحلةٍ تاليةٍ بخطواتٍ تدريجية. وقد كان شعارُ شركة "آي بي إم" في فترة الستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي هو عبارةُ "أي بي إم تعني الخدمة"، ثمَّ إنَّ الشركةَ المُصنِّعةَ للحواسيب قد قدمت خدماتها مجاناً، خلافاً لأيّةِ شركةٍ تشتري بضائعها من الأجهزة، وقد خططت "آي بي إم" دوماً لتقديم التسهيلات، والرموزِ المبرمجة، والتعاونِ من أجل تقديم مَعدَّاتِ شركاتٍ أُخرى، وتصليحِ آلياتها الخاصة، وطغت عروض الخدمة على المنافسة. لكن في نهاية المطاف؛ اضطرتْ شركةُ "آي بي إم" لجعل العملاء يدفعون لقاء خدماتٍ كانت تقدُّمها لهم مجاناً في وقت سابق، وذلك بعد دعوةٍ وجَّهتها لها وزارةُ العدل كانت تطلب فيها من الشركة الفصلَ بين منتجاتها من الأجهزة والبرمجيات، وعلى الرغم من ذلك؛ فإن شركة "آي بي إم" لم تتمكن من تلبية هذا الطلب..

*مسوّقو أعمال-أعمال: وتعني التبادل التجاري الذي يحدث بين شركاتٍ بعضها مع بعضٍ على صعيد الأعمال وليس الأفراد كتعامل تاجر الجملة مع تاجر التفرقة.

المصدر:

هنا